الأزمة الاقتصاديّة العالمية...بأخفّ الأضرار
تونس تُودّع عام الاحتجاجات و تستقبلُ عام الانتخابات

إسماعيل دبارة من تونس: العام 2008 في تونس كان بلا ريب عام الاحتجاجات والاستعدادات، احتجاجات أهالي منطقة الحوض المنجمي على البطالة وسوء توزيع الثروات تزامنا مع تعمّق الأزمة المالية العالمية وتحولها إلى إعصار لا يبقي ولا يذر، والاستعدادات للانتخابات الرئاسية و التشريعية المزمع عقدها في أكتوبر تشرين الأول 2009. احتجاجات بالجملة، منها للأهالي على الخيارات الاقتصادية الحكومية وكذلك للمجتمع المدني على تعامل الحكومة وللأمن وللقضاء، للحكومة على أداء المعارضة وللمنظمات الحقوقية في ما بات يعرف بأزمة الحوض المنجمي. أما الاستعدادات للانتخابات، فاختُزلت لدى المراقبين في التعديل الدستوري الذي أعلن عنه الرئيس بن علي في آذار الماضي و الذي أراد من خلاله quot; توسيع الترشحات والحفاظ على جديتها quot;، و اعتبرته أطياف من المعارضة quot; تأبيدا للرئاسة مدى الحياة وتكريسا لمنطق الوصاية quot; على قرارات الأحزاب السياسية واستقلالياتها وهو ما فتح ما اصطلح بتسميته بـquot; معركة الترشّح quot;.

الإعصار المالي لم يمر من تونس

أدت الأزمة المالية العالمية إلى حالة من عدم الثقة في الأسواق المالية انعكست سلبا على كل القطاعات الاقتصادية ،كما تسببت أزمة الرّهون العقارية في صعوبات كبيرة أمام الاقتصاديات العالمية ،إلا أن بعض العمولات قامت باختراقات إلى الأعلى و هذا ما حدث مع الدولار الذي ارتفع بشكل كبير أمام اليورو في مرحلة أولى، وأثبت الدولار أنه عملة قوية فعلا .و انتهت منظومة quot;وول ستريتquot; التي عرفت منذ عشرات السنين وخصوصا في زمن الرأسمالية التي يتحكم فيها المضاربون و هدفهم الوحيد هو الربح الوفير والسريع. يرى الباحث الاقتصادي التونسي في معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس محمود البارودي إن إجماعا لمسناهُ في تونس على أن السوق المالية المحليّة ستبقى في منأى عن اضطرابات السوق العالمية باعتبار أنها اتخذت عدة إجراءات قصد التحكم في فوائض العملة الصعبة والترفيع في نسبة الاحتياطات القانونية للبنوك بهدف التحكم في نسبة السيولة.بالنسبة إلى بورصة تونس فإن نسبة مساهمة الأجانب في الشركات المدرجة تقدر بـ 25 % وهي في أغلبها مساهمات إستراتيجية. و يتابع البارودي: quot;في نفس الإطار لا تتجاوز مساهمات صناديق الاستثمار الأمريكية والبريطانية في رأس مال الشركات المدرجة مبلغ 30 مليون دينار.

و لقد تسببت هذه الأزمة في تفاقم الهوة بين الاقتصاد الحقيقي و المالي ، فإذا دخل الاقتصاد العالمي مرحلة ركود فإن الأثر سيكون مباشر على الاقتصاد التونسي باعتباره اقتصادا منفتحا على الخارج. و تبعا للأزمة المالية تأثرت عدة قطاعات هامة أبرزها قطاع النسيج و المؤسسات المختصة في الصناعات الالكترونية و الكهربائية التي انخفضت نسبة نمو صادراتها بـ 4 % مقارنة من العام الماضي وهذا ناتج عن انخفاض مبيعات السيارات في أوروبا بنسبة 15 % خلال شهر أوت/ أغسطس الماضي . لكن في نفس الوقت يمكن أن تدفع هذه الأزمة عديد الشركات العالمية الكبرى إلى تغيير استراتجياتها خصوصا في عام 2009. فالمختص الأول في صناعة القطع الإليكترونية للسيارات في العالم quot;يازاكيquot; أعلن عن فتح مصنع في جهة قفصة.

و يرى خبراء اقتصاديون إنّ تراجع الاستهلاك في أوروبا خلال العام الحالي سيؤثر على كل القطاعات و بالتالي تراجع الطلب الخارجي على البضاعة التونسية الذي سيؤدي بدوره إلى ارتفاع نسب البطالة و ما يمكن أن يترتب عنه من اضطرابات اجتماعية. من جهة أخرى تتميز سوق العقار في تونس بالاستقرار و حسن الأداء فنسب الفائدة على القروض قارة و لا تتغير، خصوصا و أنه أقر أخيرا التمديد في فترة تسديد قروض السكن من 15 إلى 25 سنة. و قد تعكس المشاريع العقارية الضخمة المزمع إنجازها في تونس كمروع مدينة العصر لمجموعة دبي القابضة و مشروع المدينة الرياضية لمجموعة أبو خاطر و مشروع مدينة الورود، مدى ثقة المستثمرين الأجانب في أداء السوق العقارية التونسية و في أفاق تطورها العام المقبل.

و من ضروري الإشارة إلى أنّ الوضع المالي في تونس يتميز بفائض في السيولة خلال العام 2008 لذلك فقد اقترح البنك المركزي عدم الخروج إلى الأسواق العالمية و الاقتصار في تعبئة الموارد الضرورية لميزانية الدولة بصفة استثنائية على السوق المحلية. الخبير الاقتصادي محمود البارودي قال لإيلاف إنّ الفائدة الأكبر للبلاد تتمثل في تراجع أسعار النفط العالمية بسبب انخفاض الطلب عليه في الولايات المتحدة التي تتميز بقاعة استهلاكية هائلة. كما يمكن لتونس أن تستفيد من تدفق الاستثمارات الخليجية عليها لا سيما بعد الخسائر التي تكبدتها في الولايات المتحدة.

وأكدت أغلب التقارير الاقتصادية العالمية أن تونس من الأسواق الواعدة والتي يمكن أن تحقق أرباحا مضمونة للمستثمرين الأجانب. خصوصا و أنّ 89 % من الشركات الأمريكية الموجودة في تونس عبرت عن رضاها عن مناخ الأعمال و أكدت 79 % منها على مزيد دعم استثماراتها. و يعتبر البارودي أن السوق المالية في تونس لم تتأثر بالأزمة العالمية ولكن الاقتصاد التونسي سيتحمل بعض الصعوبات ،إذا أخذنا بعين الاعتبار أن من أهداف المخطط الحادي عشر للتنمية هو بلوغ نسبة نمو تقدر بنسبة 6.1 % في الوقت الذي سينخفض فيه الطلب الخارجي و خاصة من الإتحاد الأوروبي نظرا للظروف الاقتصادية الصعبة ، عند ذلك يصبح الطلب الداخلي المحرك الأساسي للاقتصاد.

واستنادا إليه فإنّ المشكل الرئيسي الذي سيواجه تونس العام الجديد هو ارتفاع نسبة البطالة و خصوصا في صفوف حاملي الشهائد العليا الأمر الذي يستوجب دفع الاستثمار خاصة في القطاعات الواعدة و ذات القيمة المضافة العالية، للحد من هذه الظاهرة التي تمثل عائقا حقيقيا للتنمية.

احتجاجات قفصة ...هل تتكرّر؟

يبدو أنّ السؤال سيضلّ متداولا في تونس حتى انتهاء العام الجديد وربما إلى ما بعده ،فعلى الرغم من أنّ ديسمبر 2008 حمل معه بداية النهاية للاحتجاجات الاجتماعية الأشهر في تاريخ تونس الحديثة ، إلا أنّ متابعين رأوا في طريقة تعاطي الحكومة مع الأزمة حلولا ردعية قمعية أو تسكينية ظرفية لا يمكن بأيّ حال من أحوال أنّ تُحصّن البلاد من احتجاجات مماثلة تستمرّ أشهر و يسقط خلالها قتلى وجرحى و معتقلون بالعشرات.

النائب السابق في البرلمان التونسي ونائب رئيس المؤسسة الأورومتوسطيّة لمساندة المدافعين عن حقوق الإنسان السيّد خميّس الشّماري قال في مقابلة خصّ بها quot;إيلافquot; إنّ أحداث الحوض المنجمي التي اندلعت في يناير 2008 بسبب البطالة و الفساد و المحسوبية خلفت رجة قوية لكلّ الأطراف الفاعلة في البلاد. و يرى الشّماري إنّ الاحتجاجات التي استمرّت لشهور طويلة هي ظاهرة اجتماعية عميقة لم يتمكن النظام التونسي من تلبيسها ndash; كالعادة ndash; بلباس إيديولوجيّ لتبرير قمعها .و خسرت السلطة معركة الإعلام خلال أزمة الحوض ، فالمحتجون ومن يسندهم لجئوا هذه المرة إلى التقنيات الحديثة للتشهير بالمظلمة المسلطة عليهم ، أما المعارضة فقد أثبتت هذه المرة أنها ابتعدت عن التوظيف السياسي الحزبي الضيقة لهذه الحركة الاجتماعية المطلبيّة الرّاقية.

و استنادا إلى خميسّ الشماري فإنّ الأسباب التي أدت إلى اندلاع الاحتجاجات لم تعالج بعدُ و لذلك فالظرفية سانحة خلال العام الجديد لتشهد تونس احتجاجات مماثلة ما لم يتحرك المعنيون مباشرة لفتح حوار جدّي حول مشكل quot;الحوض المنجمي quot;ككل و ليس مشكلة التشغيل أو الانتداب فقط، فالأزمة سياسية ، اقتصادية ، اجتماعية و بيئية و العمل على النهوض بأوضاع تلك المنطقة بات أمرا جدّا ملح و مصلحة وطنية عليا.

انتخابات 2009...سيناريو مألوف

يتوقّع متابعون للشأن السياسي في تونس ألا تختلف انتخابات 2009 بشقيها الرئاسي و التشريعي عن سابقاتها ، كون النظام التونسي لا يزال محافظا على ذات العقلية التي يعتبر نفسه من خلالها وصيّا على البلاد نظرا لغياب البديل الجديّ الذي يمكن أن يحمل المشعل من بعد تغيير 7 نوفمبر، صاحب الفضل فيما وصلت إليه تونس من رقي اجتماعيّ و اقتصاديّ أو ما يسميه إعلام الحكومة بـquot; المعجزة التونسيةquot;.

النائب السابق في البرلمان التونسي خمس الشّماري أبدى quot;أسفه الشديدquot; لأنه مقتنع اقتناعا راسخا بانّ دار لقمان ستضلّ على حالها في انتخابات العام المقبل. ويقول:quot;ستدور الانتخابات في مناخ سياسي و تشريعي متخلف للغاية ، فلا القانون الذي أعلن عنه الرئيس بن علي في 21 آذار الماضي و الذي حدّد بموجبه سلفا من سينافسه في السباق الرئاسي يمكن أن يكون ضامنا لتعدّد الترشيحات او جديتها باستثناء تعدّد ممثلي أحزاب الديكور التي تعرضت للاحتواء من قبل الحكم ، و لا وضع الحريات الصحفيّة و الحريات الخاصة يسمح بانتخابات شفافة وديمقراطية. الأمور محسومة و لا يمكن أنّ نلمس أيّ مؤشر على انفتاح من نوع ما يجعلنا نقرّ بانّ انتخابات 2009 لن تكون كسابقاتها مادام الخصم هو ذاته الحكم في كلّ عملية انتخابية ناهيك عن عدم إفساح المجال أمام الشخصيات الوطنية و الجدية لإعلان ترشّحها بموجب هذا التعديل الدستوريّ الجديدquot;.

الشّماري اعتبر إنه و انطلاقا من تجربة خاضها في السابق مع مجلس النواب التونسي (البرلمان) يمكن التأكيد على أنّ قضية عدد النواب في البرلمان و التي رفعها الرئيس الحالي لتبلغ 25 نائبا معارضا هي quot;مهزلة بكلّ المقاييسquot;. فالنواب في تونس موزعون بين قسمين ، نوّاب موالون للسلطة و ينتمون إلى أحزاب الديكور (أحزاب تسمي نفسها معارضة لكنها تساند الخيارات الحكومية) و عددهم الأكبر، ونواب قليلون للغاية ينتمون إلى الأحزاب التي لها نفس استقلاليّ و بعض المصداقية.

و يشير هنا إلى أنّ حزبين قانونين هما الحزب الديمقراطي التقدمي و التكتل من أجل العمل و الحريات غير ممثلين في البرلمان و لا يبدو أن السلطة مستعدة لمنحهما مقاعد نظرا لمحاولتهما الحفاظ على استقلاليتهما ضدّ سياسة الاحتواء التي ينتهجها النظام تجاه الأحزاب المعارضة الراديكالية ومنظمات المجتمع المدني المستقلة. الانتخابات في تونس لن تحمل أيّ رهان انتخابيّ، هذا ما يخلص إليه مراقبون و محللون سياسيون ، فعلى الرغم من حملة العلاقات العامة التي تقودها الحكومة المُقبلة على استحقاق يقتضي إعادة إنتاج نظام في حلل بهية غير الموجود عليها حاليا ، استطاعت بعض الشخصيات المعارضة على غرار المحامي أحمد نجيب الشّابي بإعلانه للترشح للانتخابات الرئاسية - وهو ممنوع قانونا من فعل ذلك- من فضح quot;الفلمquot; الجديد الذي يتمّ التحضير له قبيل العملية الانتخابية.

quot;لطالما أكدنا على أنّ معاركنا في تونس لا تحمل أبعاد انتخابية و إنما رهانات سياسية نبتغي من خلالها توحيد صفوف المعارضة المشتتة لكن للأسف لم يحصل هذا خلال الستة الأشهر الماضية التي أعقبت التعديل الدستوري الجائر.quot; يقول خميس الشّماري و يضيف:quot;حتى من يدعو إلى مقاطعة الانتخابات اليوم مقاطعة نشيطة فهو في نظري مخطأ ، لأن المقاطعة تتطلب موازين قوى غير الموجودة حاليا quot;.

أوباما ...تونس ...وحقوق الإنسان

بشهادة أكثر من متابع كانت الاحتفالات بالذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان في تونس مميزة للغاية ، فالتظاهرة الاحتفالية التي أرادت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان (المنظمة الحقوقية الوحيدة المرخص لها) تنظيمها ،شهدت محاصرة أمنية غير مسبوقة و تعرض عدد كبير من النشطاء الحقوقيين و السياسيين إلى المنع من بلوغ مقرّ الرابطة ، ولم يستثن المنع مُمثلي البعثات الدبلوماسية الأجنبية أيضا.

وقبيل ذكرى الستينية بأيام قليلة ، صدرت الأحكام الثقيلة على المتهمين في قضايا أحداث الحوض المنجمي وما شابها من خروقات و انتهاكات كبيرة على حدّ بيانات منظمات حقوق الإنسان الوطنية و الدوليّة بالإضافة إلى إعادة القياديّ النهضوي المعروف (إسلامي) الصادق شورو إلى السجن بعد أن خرج لمدة شهر واحد من عقوبة بالمؤبد قضى منها 18 سنة وراء القضبان. هذه الأحداث مجتمعة وغيرها اعتبرها السيد خميس الشماري نائب رئيس المؤسسة الأورومتوسطيّة لمساندة المدافعين عن حقوق الإنسان دليلا على أنّ ما تحدثت عنه كبرى المنظمات الحقوقية الأجنبية ،الرسمية منها و غير الحكومية، حول واقع الحريات في تونس هو صحيح و لا غبار عليه.

وحاول الشّماري التركيز في حديثه المطول مع quot;إيلافquot; على حادثة محاكمة الدبلوماسي التونسي السابق خالد بن سعيد أمام محكمة فرنسية في ستراسبورغ بالسجن لمدة ثماني سنوات بسبب quot;التعذيب والوحشية المقترفةquot; في تونس. و يخلص إلى القول بأنّ التعذيب أضحى سياسة ممنهجة في تونس يتعرّض لها المساجين السياسيون المعروفون أو حتى سجناء قضايا الحقّ العام على حدّ سواء. أما ملفّ quot;الرابطةquot; الممنوعة من عقد مؤتمرها بسبب مشاكل داخلية على حدّ التفسير الحكومي فلا تسوية مرتقبة في أفق العام الجديد.

انتخاب باراك أوباما في الولايات المتحدة أيضا كان له نصيبه من حديث الشماري ، فالرجل لن يغير سياسات أمريكا تجاه عدد من الدول العربية و من بينها تونس ، فهو سينشغل كثيرا بالملفات الكبرى كالملف الاقتصادي و العراقي و الإيراني والأفغاني،كما أنّ مطالب الإصلاح السياسي و الضغط من أجل إطلاق المزيد من الحريات في تونس لن تجد لها آذانا صاغية كون تونس من الدول التي لا تمثّل للولايات المتحدة بؤر تطرّف أو أزمات اجتماعية.