موسكو: بات نشر المنظومة الأميركية للدفاع المضاد للصواريخ إلى جانب توسع الناتو أكثر المسائل حساسية التي تفسد العلاقات بين روسيا والغرب. وفي معرض الحديث عن الجوانب السياسية لهذه القضية يهمل المعلقون أحيانا كثيرة جوانبها العسكرية - التقنية والعملياتية رغم كونها ترتدي الأهمية القصوى هنا.

وأثناء مناقشة المنظومة الأميركية للدفاع المضاد للصواريخ لا بد وأن نميز بين شكلين لمثل هذه المنظومات. أولهما - منظومة الدفاع المضاد للصواريخ لمسرح العمليات الحربية حيث تقام هذه المنظومة بهدف حمايته من ضربات الصواريخ التكتيكية - العملياتية التي يتراوح مداها بين 700 و 800 كم. وثانيهما - هو منظومة الدفاع المضاد للصواريخ التي تغطي أراضي الولايات المتحدة وحلفائها المقربين. وفي هذه الحالة الثانية تتمثل الأهداف الرئيسية الواجب مقاومتها في الصواريخ البالستية المتوسطة المدى والعابرة للقارات.

وقد فجر انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة عام 1972 الأميركية - السوفيتية التي حظرت بالحرف الواحد نشر منظومة وطنية للدفاع المضاد للصواريخ وشروع واشنطن في نشر مثل هذه المنظومة، أشد الأزمات حدة في العلاقات الروسية - الأميركية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. ولا يخلو القلق الذي يتبدى في موقف العسكريين والدبلوماسيين الروس من هذه القضية من المسوغات الجدية. ذلك أن تلك المعاهدة كانت تلعب دورا بالغ الأهمية بالنسبة لحفظ التكافؤ بين القدرات الصاروخية والنووية للطرفين.

وتتكون منظومة الولايات المتحدة الشاملة للدفاع المضاد للصواريخ اليوم من ثلاث حلقات. الحلقة الأولى التي تتمتع بأوسع الإمكانيات لاعتراض الصواريخ البالستية العابرة للقارات هي الحلقة الأرضية. وتشمل هذه الحلقة منطقتين لمواقع صواريخ الاعتراض من نوع quot;GBIquot; في ألاسكا وكاليفورنيا. وتوجه الصواريخ التي تنتجها شركة quot;Boeingquot;، بواسطة رادارات للكشف المبكر وتحديد الأهداف أقيمت، خاصة، في أراضي النرويج وغرينلندا.

وعلى مدى السنوات العشر القادمة سوف تعزز حلقة الدفاع الأرضية بمنطقة ثالثة لمواقع الصواريخ ستقام في أوروبا. وسوف تجهز هذه المنطقة شأنها شأن المنطقتين الأوليين بصواريخ quot;GBIquot; ورادارات الكشف المبكر وتحديد الهدف (تجمع بين هاتين الوظيفتين حاليا محطة رادار واحدة تسمى بـquot;محطة الرمايةquot;).

وتشكل صواريخ الاعتراض quot;GBIquot; لب الحلقة الأرضية من منظومة الدفاع المضاد للصواريخ. وعلاوة على ذلك توضع خطة لاستخدام نظامي quot;PAC - 3quot; وquot;THAADquot; المستقبلية لاعتراض الصواريخ البالستية رغم اختصاصهما بالدرجة الأولى بمقاومة الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى.

وتتمثل الحلقة الثانية من المنظومة الأميركية للدفاع المضاد للصواريخ في صواريخ quot;SM-3quot; المرابطة على متون الطرادات والمدمرات المزودة بمنظومة معالجة المعلومات وإدارة النيران التي تعرف بـquot;AEGISquot;. وفي مقدور تلك الصواريخ أن تعترض الصواريخ المتوسطة المدى والعابرة للقارات على حد سواء. وهي تنصب في المناطق القريبة من أراضي العدو المحتمل. فعلى سبيل المثال تتخذ مجموعة السفن المضادة للصواريخ من صنف quot;AEGISquot; قاعدة لها في الموانئ اليابانية (علما أن العدو المحتمل الرئيسي للولايات المتحدة في هذه المنطقة هو كوريا الشمالية).

وتتلخص مهمة الحلقة الثالثة من المنظومة الأميركية الشاملة للدفاع المضاد للصواريخ في تأمين عمل الحلقتين الأوليين وهي عبارة عن شبكة من الأقمار الصناعية. وفضلا عن ذلك بإمكان الولايات المتحدة أن تقوم في السنوات الـ10 أو الـ20 القادمة بنشر وسائل قتالية تستطيع اعتراض الصواريخ في الفضاء الكوني، وكذلك الشروع بإنتاج متسلسل للغواصات الذرية وطائرات الاعتراض المزودة بأجهزة الليزر والتي ستطوف في دوريات جوية على مقربة من أراضي العدو المحتمل بغية اعتراض الصواريخ أثناء الانطلاق.

وعلى الرغم من المواصفات الفنية والتقنية العالية للأسلحة والمعدات المستعملة في المنظومة إلا أنها لن تتمكن بشكلها الحالي من حماية أراضي الولايات المتحدة من الهجوم المكثف باستخدام الصواريخ البالستية المزودة بالرؤوس الحربية الانشطارية ذات الأهداف المتعددة المستقلة. فمن أجل التنفيذ الفعال لهذه المهمة لا بد من الاستعانة بالأصناف الأخرى من القوات المسلحة.

ويتمثل الشرط الرئيسي لحماية أراضي الولايات المتحدة من الهجوم الصاروخي النووي المكثف في تدمير أكبر عدد ممكن من الصواريخ ورؤوسها الحربية قبل انطلاقها من منصاتها. وبالنظر إلى ذلك ففي المراحل الأولى من النزاع المسلح إن نشب سيتم التركيز على الاستخدام المكثف للقوات التقليدية (القوات البحرية والجوية ووحدات المهمات الخاصة على اختلاف أشكالها وانتماءاتها) ضد القوات الإستراتيجية النووية المعادية.

وإلى جانب قواعد الصواريخ والغواصات والقاذفات تنسب إلى عداد الأهداف ذات الأهمية القصوى أيضا محطات الرادار التابعة لمنظومة الإنذار المبكر، لأن إبطال عملها يزيد

بدرجة كبيرة من فعالية الضربة النووية الوقائية لأن معظم الصواريخ التي كانت ستنطلق فور اكتشاف انطلاق الصواريخ من أراضي الولايات المتحدة ستتعرض للتدمير.

وفي هذه الحال ستوجه الضربة الجوابية بعدد محدود (عدة عشرات) من الصواريخ تقدر على تدميرها المنظومة الأميركية للدفاع المضاد للصواريخ. أما إذا تمكن بعض الرؤوس الحربية من اختراق خط الدفاع الصاروخي فلن يستطيع أن يلحق ضررا quot;غير مقبولquot;. وفي هذا بالذات تتلخص مهمة منظومة الدفاع المضاد للصواريخ: في استبعاد إلحاق quot;الضرر غير المقبولquot; وquot;التدمير المضمونquot; فهما مقولتان كانتا حاجزا رئيسيا أمام نشوب حرب عالمية جديدة طيلة عدة عقود منذ امتلاك الاتحاد السوفيتي الصواريخ العابرة للقارات.

وتتلخص الإستراتيجية الواقعية الوحيدة التي تتيح لعدو الولايات المتحدة المحتمل تجنب هذا السيناريو الكارثي في توجيه ضربة نووية وقائية بالتزامن مع تدمير منظومة الدفاع المضاد للصواريخ. ولذا فمن المحتمل تماما أن يعود العالم الذي يخيم عليه quot;ظل منظومة الدفاع المضاد للصواريخquot; إلى عهد الستينات الذي سادته نظرية شن حرب على شكل تبادل الضربات النووية الواسعة النطاق.

أضف إلى ذلك أن سائر الدول النووية سوف تنخرط حتما في مثل هذا النزاع. فمن الجائز ألا تصبح هذه الحرب حربا أخيرة تقضي على الحضارة البشرية بالنظر إلى خفض قدرة الرؤوس الحربية وتفوق الذخائر النووية المعاصرة العظيم عليها في الستينات من حيث quot;النقاوةquot; ودقة الإصابة، ولكن من يحب أن يعيش في ظل الانتظار المستمر لاندلاع الحرب النووية؟

إيليا كرامنيك