نيقوسيا : "وداعاً موسكو وإلى اللقاء في الأولمبياد الـ23 "، تلك العبارة ارتسمت على اللوحة الالكترونية في استاد لينين الدولي في موسكو يوم الثالث من آب (أغسطس) عام 1980، معلنة انتهاء دورة الألعاب الأولمبية.

ذرف الدب الشهير ميشا "تميمة الألعاب" دمعة أبكت الجمهور وحرّكت عواطفهم وحيّرت المراقبين وجعلتهم يتساءلون "أدمعة حزن تلك التي ذرفها ميشا في وداع الشعلة الأولمبية، أم دمعة أسى على الرياضة التي أفسدتها السياسة، وهي ما دخلت شيئا إلا وأفسدته؟".

نادى الرئيس الأميركي جيمي كارتر بمقاطعة ألعاب موسكو احتجاجاً على التدخل السوفياتي في أفغانستان، فاستجابت 61 دولة لدعوته، وللمصادفة فان الدورة الأولى في دولة اشتراكية شهدت مقاطعة من غالبية الدول الرأسمالية.

وفي غياب الولايات المتحدة واليابان وألمانيا الغربية والآخرين الدائرين في هذا الفلك، وحتى الصين، لم يتأثر المستوى الفنّي عمداً، لكن حرباً ضروساً على انتزاع الميداليات دارت تحديداً بين الحليفين السياسيين والعملاقين اللدودين رياضياً الاتحاد السوفياتي وألمانيا الشرقية، واستطاع البلد المضيف الانتصار فحصد 80 ذهبية مقابل 47 لألمانيا الشرقية و8 لبلغاريا وكوبا وإيطاليا.

ولان قلوب غالبية الرياضيين كانت مع المشاركة فان لجانا أولمبية عدة تمايزت عن القرار السياسي لحكوماتها وأكدّت استقلاليتها، وحضرت إلى موسكو حتى وان سارت خلف العلم الاولمبي كما حصل مع بريطانيا.

وجاء القرار الأسباني بالمشاركة بعد تصويت داخل اللجنة الوطنية فصوّت 17 عضوا معه ورفضه 14. وكان بالطبع موقفاً محرجاً لنائب رئيس اللجنة الدولية رئيس اللجنة الأسبانية انذاك خوان أنتونيو سامارانش المرشّح لرئاسة الدولية خلفا للورد كيلانين الذي بذل المستحيل للحد من أضرار المقاطعة.

وازاء المواقف التصاعدية، كان السؤال هل كان اختيار لاعب كرة السلة سيرغي بيلوف الذي خطف الفوز من الولايات المتحدة في نهائي دورة ميونيخ 1972، لإيقاد الشعلة من باب اغاظة الاميركيين؟.

ومن أبرز الملامح الميدانية، كانت تلك الظاهرة التي تمثلت بتخصّص بعض الدول في احتكار عدد من المسابقات، فألمانيا الشرقية احتكرت ذهبيات السباحة والتجذيف، والسوفيات ألقاب الجمباز ورفع الأثقال والرماية، والكوبيون بقيادة تيوفيلو ستيفنسون ذهبيات الملاكمة.

ولفت البريطانيون الأنظار في ألعاب القوى ولا سيما في ظل غياب الأميركيين، فبرز الاسكتلندي ألن ويلز وأحرز سباق 100 م.

تألق كو وتومسون
ولعلّ من أجمل المنافسات صراع العدائين ستيف أوفيت وسيباستيان كو الذي مهّد لسلسلة إنجازاتهما على مدى نحو عقد من الزمن، وقد فاز أوفيت في سباق 800 م وحلّ كو ثانياً، وحصد الأخير ذهبية 1500 م وجاء أوفيت ثالثاً.

وتميّز ديلي تومسون في المسابقة العشارية وفاز الإيطالي بييترو مينيا في سباق 200 م، بعد نحو عام من تحطيمه الرقم القياسي العالمي في دورة الألعاب الجامعية في مكسيكو (19.72ث) حيث بات أول من يكسر حاجز 20 ثانية، واستعاد الإثيوبي ميروتس يفتر الارث الإثيوبي في جري المسافات الطويلة فحصد ثنائية 5 و10 ألاف م، وبات الألماني الشرقي فالديمار سيربنسكي أول من يحتفظ بلقب سباق الماراثون.

وفي السباحة، عاد البريق كله إلى السوفياتي فلاديمير سالنيكوف أوّل من كسر حاجز 15 دقيقة في سباق 1500 م (14:58.27 د).

وفي رفع الأثقال، سقط أعظم رباع في العالم، السوفياتي فاسيلي ألكسييف عندما فشل في محاولاته الثلاث في رفعة الخطف، وتوارى عن الأنظار بعدما سجّل ما يزيد عن 80 رقماً عالمياً.

في المقابل، كانت البطلة الرومانية ناديا كومانتشي (18 عاماً) تحظى باهتمام الملايين وتسجّل احد أفضل إنجازاتها في مسابقة عارضة التوازن وتحرز العلامة الكاملة (10 من 10)، وتتبعه بإنجاز آخر على الأجهزة الثلاثة الأخرى الأرضي، المتوازيين مختلفي الارتفاع وحصان القفز. وكادت بفضل عروضها الساحرة تقود الفريق الروماني إلى المركز الأول لو لم تسقط في شكل دراماتيكي مفاجئ على جهاز المتوازيين لتحتل رومانيا المركز الثاني خلف الاتحاد السوفياتي.

وما يسجّل لكومانتشي أنها، على رغم نكستها، تفوّقت على نفسها لاحقا، وأحرزت ذهبية الحركات الأرضية.

وفي الكاياك، دشّنت الألمانية وكانت شرقية آنذاك بريجيت فيشر مسيرة حصدها الميداليات التي بلغت حتّى عام 2000 سبع ذهبيات وفضيتين.

والمسابقات الجماعية لم تخل من المفاجآت، وكان أبرزها سقوط المنتخب السوفياتي أمام يوغوسلافيا في كرة السلة، وخروج السوفيات من ميدان الصراع على ذهبية كرة القدم واحتلالهم المركز الثالث واكتفاؤهم بميداليتها البرونزية، فيما نجحت تشيكوسلوفاكيا في الفوز بالذهب بتغلبها بهدف على ألمانيا الشرقية بطلة دورة مونتريال 1976.

وكان لبنان وعلى رغم محنة الحرب التي تقطع أوصاله، البلد العربي الوحيد الذي أدرج اسمه على لائحة الميداليات بعدما أحرز بطله حسن بشارة برونزية المصارعة اليونانية الرومانية في وزن ما فوق 100 كلغ.

وإداريا حصل العرب على تأييد خمسة اتحادات دولية هي كرة السلة والكرة الطائرة وكرة اليد والمصارعة ورفع الأثقال لقبول فلسطين عضواً دائماً في عائلتها، وعملاً بالقانون الأولمبي باتت الطريق ممهدة أمام الرياضيين الفلسطينيين للمشاركة في الألعاب المقبلة في لوس انجليس.

حركة بولندية مزعجة
ومثلما استحقت النتائج اللافتة والأرقام القياسية الأضواء، لم تمح الذاكرة الرياضية فوز البولندي فلاديسلاف كوزاكييفيتش في القفز بالزانة وتحول صورته وهو يرفع يده بحركة تعبر عن التحدّي والقوّة رمزاً لـ"مقاومة" من نوع مختلف في أنحاء العالم.

وصفت الحركة بيده بالمزعجة للسوفيات، وهو قام بها يوم الأربعاء 30 تموز (يوليو) 1980 في اختتام مسابقة استمرت نحو ست ساعات، وتابعها بلهفة 50 ألف متفرج صفروا استهجاناً لفوزه مسجلا 5.78 م، محطّما بفارق سنتيمتر واحد الرقم القياسي العالمي الذي حققه الفرنسي فيليب هوفيون، لكنه توّج وسط مدرجات شبه خالية ومصابيح مطفأة.

ويكشف "البطل المقاوم" انه بداية لم يع ردّ الفعل القوي الذي سيلي حركته والتي اعتبرها عفوية، "فسفير بولندا في موسكو طلب من بعثتنا إقصائي وسحب ميداليتي ومعاقبتي لكن الشعب البولندي ساندني، ولم يجرؤ المسؤولون على معاقبة فائز في عز اضرابات ورش بناء السفن في حوض غدانسك، وصعود نجم حركة التضامن وزعيمها ليخ فاليسا".

ويضيف كوزاكيفييتش "كانت عيون المخابرات السوفياتية على الرياضيين البولنديين في كل مكان، وأحيانا كنا نمنع من تبادل وجهات النظر والالتقاء في غرف القرية الأولمبية".

غير أن التداعيات السلبية كما حصل في استاد لينين لاحقت كوزاكييفيتش طويلاً، إذ ضيق عليه ومنع من مشاركات خارجية عدة واحتجز جواز سفره.

هذا ولم تنته مسابقات المبارزة بسلام، فخلال نصف نهائي سلاح الشيش للفرق، أصيب بطل العالم السوفياتي فلاديمير لابيتسكي بسلاح منافسه البولندي الذي اخترق السترة الواقية، وكان لابيتسكي محظوظاً لأنه لم يصب في قلبه.