في وقت تواصل فيه فرنسا عمليات الترحيل الجماعي للغجر التي رفعت من شعبية ساركوزي رغم الانتقادات التي لحقت بسياسته الأمنية، باتت الدول الاوروبية تنظر الان الى هؤلاء كأمّة، يخلق وجودها واسلوب حياتها المشاكل الاجتماعية التي تترك آثارها في مجالات كثيرة.

موسكو: الغجر كلمة ساحرة، غامضة ظاهرة ومتناقضة، تتعاطى معها مخيلة الكثيرين بروح رومنطيقية واخرى بنفور وخوف، تدور حولهم الحكايات التي تشبه الاساطير دفعت كبار الشعراء والروائيين لتناولهم بأعمالهم كناس يجسدون الطبيعة الحرة والحب العميق والخيانة الجسورة، والانفعالات المنفلتة.

ولكن الغالبية في الحياة اليومية لا يطيقون الغجر فهم ضيوف غير مرغوب فيهم، يثيرون النفور، محتالون ولصوص نصابون. التطورات في القارة الاوروبية وفتح الحدود جعلت الغجر يتركون اقامتهم في شرق القارة ويغزون غربها باحثين عن ظروف حياتية افضل، فأثاروا المخاوف، ولم تقدم اوروبا حلولا ناجزة للمشكلة المتفاقمة، ابعد من اجراءات المنع والاقصاء.

تواصل فرنسا عمليات الترحيل الجماعي للغجر وغادرت البلد اول دفعة من اؤلئك الذين وافقوا على شروط حكومة نيكولا ساركوزي الرامية إلى تخلص فرنسا من وجودهم لقاء منحة مالية. والاعتقاد السائد ان المبعدين سيرجعون في اول فرصة ستتاح لهم، بيد ان شعبية ساركوزي اتسعت بفضل الضجة التي اثارها تقرير ترحيلهم.

وتتصف هذه الاجراءات بالقسوة والخروج على القيم الغربية باحترام حقوق الانسان ورعايته وتوفير حياة كريمة له، وصبت هذه الممارسات بعض الشيء في منفعة الحكومة الفرنسية، فعلى الرغم من ان دعاة حقوق الانسان وصفوا الاجراءات التي التجأ اليها ساركوزي بانها quot;فاشيةquot;، الا ان شعبية الرئيس ارتفعت بنسبة 2% مقارنة بشهر يوليو وقفزت من 32 الى 34%. وعلاوة على ذلك فان استطلاعات الرأي العام اظهرت ان 79% يدعمون تصفية مخيمات الغجر. ويدعم من 70 الى 80 % الاجراءات الاخرى التي تنظر بها الحكومة الفرنسية مثل حرمان الغجر واطفالهم من المواطنة على الجرائم التي يرتكبونها.

وعلى الرغم من ذلك تعرض الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لهجمات عنيفة بسبب سياسته الامنية تجاه الغجر فانتقدت وكالة مجلس اوروبا لمناهضة عدم التسامح ترحيل الغجر من فرنسا، واعتبرته تطورا سلبيا جدا. واضافت انه quot;خلال الاسابيع الاخيرة استهدفت تصريحات مسؤولين كبار في الحكومة الفرنسية الغجر المهاجرين، الذين يتعرضون جماعيا لاتهامات بارتكاب مخالفات جنائيةquot;. واضافت ان السياسات الحكومية ومشاريع القوانين القائمة على التمييز على اساس المصدر العرقي quot;غير مقبولة وتناقض الواجبات القانونية التي تتحملها مجمل الدول الـ47 الاعضاء في مجلس اوروباquot;. واعتبرت الوكالة ان quot;سياسة تقوم على الترحيل القسري واجراءات التحريض على مغادرة فرنسا لا يمكن ان توفر ردا دائماquot; على المشكلة. كما ذهب رئيس الحكومة اليميني السابق دومينيك دو فيلبان الى حد وصف هذه السياسة بـquot;العار الوطنيquot; ودعا كل مواطن فرنسي الى quot;التحرك حسب ما يمليه عليه ضميره اينما كان ومهما كان سنه (...) للتعبير بطريقته الخاصة عن رفضه لهذا الانحراف غير المقبولquot;. وتحدث دوفيلبان عن quot;واجب رفضquot; السياسة الامنية التي يطبقها ساركوزي، بعد ان كانت الكنيسة الكاثوليكية اعربت عن امتعاضها منها. ونددت المسؤولة الاشتراكية سيغولين روايال بسياسة ساركوزي في مجال الهجرة واعتبرت انها quot;تنتج العنفquot; من دون ان تكون فعالة.

ان مشكلة تكييف الاقليات الغجرية، التي مست سابقا بلدان وسط وشرق اوروبا، اصبحت فجأة قضية ملحة في غرب القارة التي شرعت النظر بتفهم اكبر للخبرة التي تراكمت من تسوية المشاكل القومية في وسط اوروبا، وحينما كانت القضية تمس دولا اخرى فان بروكسل كانت تدافع عن القيم التقليدية. واصدرت محكمة حقوق الانسان في ستراسبورغ قرارات ادانة بشأن ممارسة العنصرية ضد الغجر في جمهورية التشيك وسلوفاكيا وهنغاريا. وباتت تنظر الدول الاوروبية الان الى الغجر كأمّة، يسبب وجودها واسلوب حياتها بخلق المشاكل الاجتماعية التي تترك آثارها على مجالات كثيرة. واستثمر الغجر فتح الحدود للتنقل بحرية بين دول الاتحاد الاوروبي والاستفادة من الضمانات الاجتماعية. وكانت ايطاليا اول الدول الاوروبية التي واجهت مشكلة ظهور مخيمات غجرية كبيرة حول مدينة روما. ويُقدّر عدد الغجر بين اثني عشر مليون وخمسة عشر مليون في عموم أوروبا.

واقلعت الاسبوع الماضي رحلتان من باريس الى بوخارست تقل عوائل الغجر الذين جاؤوا إلى فرنسا من رومانيا. ويذكر انهم دخلوا فرنسا بطرق مشروعة ـ كمواطنين رومانيين، يحق لهم التنقل في دول الاتحاد الاوروبي من دون الحصول على تأشيرة دخول. بيد ان هذا لا يمنحهم تلقائيا حق الاقامة الدائمة ولا الحصول على عمل. اي انهم دخلوا بصورة مشروعة، ولكنهم اقاموا في مخيماتهم بصورة سرية غير مشروعة.

وتصل نفوس الغجر في فرنسا على اقل تقدير الى 400 ألف شخص. ويقطن غالبهم في البلاد على مدى مئات السنين. وكلهم يتمتعون بالمواطنة الفرنسية، ويجري التعاطي مع اسلوب حياتهم كجزء من التراث الثقافي والحضاري ويلزم القانون السلطات المحلية تخصيص قطعة ارض لتوقف قوافلهم، وهناك في فرنسا حوالى 15 ألف غجري قادمين من اوروبا الشرقية اغلبهم من بلغاريا ورومانيا التي انضمت عام 2007 للاتحاد الاوروبي.

كانت الحكومة الفرنسية قد قامت في السنوات الماضية بترحيل المهاجرين بصورة غير مشروعة بما في ذلك الغجر. وطالت تلك العمليات 10 آلاف غجري، من اصول رومانية وبلغارية. ولكن هذا لم يمنع من عودة غالبيتهم بعد فترة قصيرة. ولم تختلف الاجراءات الجديدة عن سابقتها بشيء سوى انها اثارت ضجة عالمية. وذهب بعض المراقبين الى حد القول ان احدى مهام السلطات الفرنسية انحصرت في لفت الانظار لخطواتها.

وسبقت عمليات الترحيل في عام 2010 سلسلة من الاحداث التي فاقمت التوتر في اجواء مخيمات الغجر في فرنسا. ودارت اغلب التطورات في بلدة سينت ـ اتيان في وسط فرنسا، حيث اطلقت الشرطة النار على الشاب الغجري الفرنسي لويجي دوكين (22 عاما) الذي لم يستجب لاوامرها في التوقف وهاجم احد عناصرها، وأرداه قتيلا، واشير الى انه كان قد قام بأعمال سرقة قبل ذلك.

واثار اغتيال لويجي دوكين الاضطرابات التي قام بها عشرات الغجر الفرنسيين المسلحين بالقضبان الحديدية والفؤوس حيث هجموا على قسم الشرطة في سينت اتيان وقطعوا الاشجار المحيطة بالمبنى واضرموا النار في السيارات، وسرعان ما انتقلت المواجهات الى جرينوبل في جنوب فرنسا.

وفي ضوء تلك الاحداث اعلن الرئيس ساركوزي ان مخيمات الغجر تشكل خطرا على امن المجتمع الفرنسي، واصبحت مرتعا لتفشي الجريمة بما في ذلك تهريب المخدرات والدعارة. واللافت ان غضب السلطات الفرنسية انصب على غجر دول اوروبا الشرقية الذين لم يشاركوا في تلك الاضطرابات.

من الصعوبة القول ان السلطات الفرنسية لم ترصد الفروق بين المواطنين الفرنسيين والمهاجرين بصورة غير مشروعة من اوروبا الشرقية. إلا أن ثمة تفسيرا اكثر منطقية مفاده ان تطبيق قانون الترحيل على الغجر الفرنسيين مسألة مستحيلة، فثمة فرصة جذب الانتباه نحو ترحيل المهاجرين بصورة غير مشروعة من اوروبا الشرقية الذين يسري عليهم مفعول الترحيل، وبهذه الطريقة استطاعت الحكومة ان تبدي الشدة بحل القضايا الاجتماعية الحادة من دون القيام بما يستحق اللوم، وعززت موقعها وسط الغجر الفرنسيين والرومانيين.

واقبلت الحكومة الفرنسية على معالجة المسألة بصورة جذرية، فالى جانب ترحيل المهاجرين بطرق غير مشروعة، فانها شرعت بحملة صاخبة بتهديم المخيمات والمعسكرات ـ ومن المرتقب تصفية 300 وحدة منها في الاشهر القريبة القادمة. وفي الوقت نفسه زعمت السلطات ان الترحيل يجري على اساس طوعي، وان الحكومة ستمنح كل شخص يغادر البلاد 300 يورو وتعطي 100 يورو اضافية على كل طفل، ووفقا لمعطيات الهيئات الحكومية فقد وافق 700 شخص على هذه الشروط.

من المفهوم ان اجراءات ساركوزي لن تحسن باي حال من الاحوال حالة الغجر في وطنهم، فالكثير منهم يتوجهون الى فرنسا وغيرها من الدول الاوروبية على امل تحسين ظروفهم المعيشية، فغجر رومانيا يشكون من انعدام فرص العمل ووسائل المعيشة، اضافة الى ان مستوى نفور دول اوروبا الشرقية منهم اعلى بكثير مما هو في الغرب، فهم اصبحوا امة تعيش على هامش الامم الاوروبية.

ان الغجر اليوم مشكلة اوروبية حادة جعلت الاوروبيين يتراجعون عن قيم حضارتهم في حماية حقوق الانسان والتسامح مع الاخر وأيا كان البلد الذي يأتون منه أو يُقيمون فيه فإن هؤلاء يعانون التمييز العنصري وظروف عيش عسيرة، ونسبة الأمية بينهم مرتفعة جداً ونسبة البطالة تقارب مئة في المئة ومعظمهم فقراء وإضافة الى ذلك تتردد افكار غريبة عن الجواز بالتعامل بعنصرية مستنيرة مع الامم المتخلفة الرافضة للتطور على النمط الاوروبي.