في ستة أيام فقط سقط النظام الذي كان يرعب العراقيين، وسط ذهول أعوانه العراقيين وحلفائه العرب والفرنسيين والألمان والصينيين والروس.
ومع سقوط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس، راح العراقيون، قبل غيرهم، يتساءلون: أين ذهبت الحكومة؟ وأين ذهب الحزب؟ وأين ذهب الجيش والحرس الجمهوري والأمن الخاص وفدائيو صدام والجيش الشعبي وجيش القدس؟ وأين سلاح النظام الذي كلف العراقيين آلامَ الحصار والفقر والجوع والخوف من المجهول؟
طبعاً لا بدّ من الاعتراف بأن القوة العسكرية الأميركية قوة هائلة لا قدرة لبلد كالعراق على قهرها وصدّها ومنعها من احتلاله. لكن الصحيح أيضاً أن الحاكم الحاذق هو الذي يزرع نظامه في قلوب مواطنيه، ويجعل سلامته أمانة في عنق الصغير قبل الكبير، والمرأة قبل الرجل، والفقير قبل الغني.
فلو قاتل كلُ العراقيين، في كل مدينة وقرية، وكل سهل وجبل، وكل حقل ومصنع، ما كان لرئيسهم المحبوب أن يسقط في ستة أيام، ويهربَ كبار قادة نظامه، بهذه السرعة والسهولة.

أقام حول حول نظامه جدرانا من الضغينة، وحبس نفسه في قمقم، بحراسة مريدين كاذبين وأتباع ٍ منافقين أغلقوا أبوابه في وجوه الناس، وسدوا أذنيه عن هموم الوطن، وأفهموه أن شعبه كله هو حفنة المستفيدين من سطوته وجبروته، وما عداهم خونة ُ وطن ٍ وشعب ٍ وأمة، خطـفـُهم وسجنـُهم وقتلُهم وإخفاء ُجثامينهم في القبور الجماعية حلال.
صار يرى مريديه، وقد أشبعَهم من مكارمه وعطاياه، فيظن أنهم الشعبُ كله، وأنه حبيبُ ذلك الشعب ومنقذه وباني مجده ومُطعم جياعه وكاسي عُراته الذين يُعدون بالملايين. بل إنه في كثير من خطاباته مـَنَّ على العراقيين، وعيَرهم بأنه ألبسهم أحذية، وكانوا قبله حفاة.

ولم يدرك أن ولديه وزوجاته وأبناء عشيرته وكبار معاونيه عبثوا بجياع الوطن وكراماتهم، وجعلوا من كل عراقي عدوهم، وعدوه.
غاية هذا الكلام ليست العودة إلى تلك الذكريات المقيتة، ولا محاكمة عهد مضى واندثر وأصبح في ذمة التاريخ. بل هو إقرار بأن رفاقنا زعماء العراق الجديد يفعلون بشعبهم اليوم مثل ما كان يفعل السلف الراحل وأكثر. لم يتعلموا، لا من الماضي القريب، ولا من الماضي البعيد، في عراق العواصف والزوابع والرعود.
فكل ما يشغلهم ويؤرق لياليهم ويدفع بهم إلى السفر من عاصمة إلى أخرى طلبا للنجدة والعون هو الكرسي، أما الدولة وأموالها ومؤسساتها وجيشها وشرطتها وآبار نفطها فأدوات لخدمة ذلك الكرسي والحفاظ عليه، أما الشعب فلا يهم، جاع أم شبع، خاف أم أمن.

نفر من زعماء المصادفة أقاموا دولتهم في أشبار من (كرادة مريم)، وأصبحوا عليها ملوكا وأباطرة. كلـُهم، في واد، وشعبُهم وأحلامه وآلامه ومخاوفه في واد. لا يخرج أحدهم من قمقمه السحري إلى (قنبر علي) أو (الشورجة) أو شارع الرشيد أو (الشواكة) و(علاوي الحلة)، ناهيك عن البصرة والناصرية والكوت والديوانية والرمادي والموصل والفلوجة وتكريت. لا يعرف الرئيس نوري المالكي كم بلغ سعر الطماطم اليوم، ولا حالة الخيار والخس ولحم الخروف، ولا متى ُيزرع الشعير، ومتى تحصد الحنطة. يعرف فقط ما تريده إيران، وما يُرضي مقتدى، وما يُسقط أياد علاوي، وما يبعد عن مملكته عادل عبد المهدي. صار يتوهم، كصدام حسين، أنه الكاسي والمطعم والحامي. صار يمَن ُ على العراقيين بأنهم كانوا يخافون أن يخرجوا من بيوتهم قبل مجيئه، فآمنهم من خوف، وكانت ثلاجاتهم خاوية فأطعمهم من جوع، وهو الذي عبَّد لهم طرق الرحيل من بغداد إلى عمان، ومن الموصل إلى دمشق، ومن البصرة إلى طهران.

راح يعير العراقيين بعدم الوفاء، ويهدد خصوم دولته بأنه، إذا ما تعرض لسوء، لا يرد الصاع صاعين، بل ثلاثة. وصدام حسين أيضا كان يهدد بـ (الطـرّ أربع وصَل)، أي بشطر الجسد إلى أربع.

إن المالكي ومنافسيه في الرئاسة يتلاعبون بالوطن والمواطن، دون خوف ولا حياء. أجروا انتخاباتهم في آذار. وصدق الناخبون ديمقراطيتهم، فتحدوا جميع المخاطر والمصاعب والمنغصات، وزحفوا زحفا ليُودعوا في صنادق الاقتراع أحلامَهم وآلامهم، صابرين محتسبين.
وحين تمادى زعماؤهم الجدد في العراك على الكراسي راح هؤلاء الناخبون المساكينيمنون أنفسهم بحكومة، أية حكومة، حتى لو كانت بوزراء من سقط متاع العراقيين، ومن أقلهم كفاءة وخبرة ونزاهة. وها نحن في تشرين ولا حكومة.

ما لم يحدث في العراق، من أيام فيصل الأول وحتى نهاية زمن صدام حسين، يحدث في ظل زعماء العراق الديمقراطي الجديد.
تبين أن نتائج تلك الانتخابات غير مهمة، وأن ديمقراطيتهم مغشوشة. فهم لم يرضوا باقتسام الغنائم كلٌ على قدْر ما انتزعه من أصوات الناخبين، بل كلٌ على قدر ما يملكه من عضلات وأموال وأسلحة، ومن قدرة على حبك المؤامرات والدسائس، ومن شطارة في عقد الصفقات، ومن قدرة على حصاد المساعدات الخارجية التي تعينه على كسر أنوف شركائه الآخرين.

وحين عجزوا عن الاتفاق على القسمة في بغداد، وافقوا، جميعا، على أن يقتسموا في أربيل، حول طاولة مستديرة، دون شروط مسبقة.
أي أننا عدنا إلى المحاصصة. وهذا يعني أن الحزب الذي سقط في الانتخابات ولم يمنحه شعبه شيئا من الثقة صار شريكا في الحكومة المقبلة، وسيحصل على وزارة أو وزارات يملؤها بمن يريد رئيسُ الحزب إكرامَه من رعاياه وعبيده، حتى لو كان حمارا بأذنين.
أما الانتخابات، وأما المعارك التي دارت حول نتائجها، وأما إعادة فرز أصواتها مرة ومرتين، وأما الاحتيال عليها بالتحالفات اللاحقة التي باركها القضاءُ المستقل، فلم يعد أحد منهم يتذكرها، أو يود الحديث عن أخبارها.

لماذا إذن كانت الانتخابات، ولماذا استغرقوا ثمانية شهور من الجدل والمماحكات والمشاكسات ليكتشفوا أنها زائدة وتافهة، وأنهم لا يحتاجون إلى نتائجها البائسة؟
ألم يكن الأوفرَ لهم ولجماهير ناخبيهم، من البداية، أن يجلسوا حول مائدة مستديرة، ويقتسموا الغنائم بالتي هي أحسن، ولا يُغضبوا الملايين من الناخبين الذين كبُر عليهم أن يرمي الديمقراطيون الجدد بأصواتهم وأحلامهم وآلامهم في المزابل؟ ألا يخافون الحليم إذا غضب؟. ألا يعلمون بأن كيل هذا الحليم يفيض بأكثر مما يكون الفيض، وهم غافلون، وسائرون إلى نهاية لا تختلف كثيرا عن نهاية من سبقوهم في الكفر والفساد والعبث بحقوق الوطن وكرامة المواطنين؟. المسألة الباقية هي متى وكيف، وإن غدا لناظره قريب.