بعد النجاح السياسي لمبادرة الطاولة المستديرة لرئيس اقليم كوردستان مسعود البارزاني وانفراج ازمة تشكيل الحكومة العراقية، ودخول العملية الديمقراطية في مسارها المتواصل، واختيار القيادات الرئاسية للعراق وفق الالية الدستورية من قبل الدورة الجديدة لمجلس النواب في ظل quot;الجمهورية الثانيةquot; للعهد الجديد بعد سقوط صنم الطاغية عام الفين وثلاثة، و بقاء الرئيس المخضرم جلال طالباني من تحالف الكتل الكوردستانية لفترة رئاسية ثانية بالمشاركة مع رئاسة نوري المالكي من التحالف الوطني لمجلس الوزراء المقبل ورئاسة اسامة النجيفي من القائمة العراقية للجمعية النيابية، فان الاتفاق الذي توصل اليه قادة القمة العراقية يشكل انجازا سياسيا كبيرا لتحديد حاضر ومستقبل العراق، وبالتزامن مع هذه التطورات استمر الجدل حول مواقف ائتلاف العراقية وأولها الموقف غير الدستوري الذي ابداها القائمة في الجلسة الرسمية لمجلس النواب لانتخاب الرئاسات الثلاث من خلال مطالبتها بالتصويت على اعفاء مجموعة من قياداتها من قانون اجتثاث البعث قبل التصويت على اختيار مرشح لرئيس الجمهورية، وهو الامر الذي شكل جهلا كبيرا من قبل القائمة لتحديد الاطار القانوني والدستوري لمطلبها.

وبالرغم من هذا التعثر غير المؤثر لاعمال المجلس، فإن الاستحقاقات الوطنية لأبناء الأمة العراقية تبقى ضمن الاولويات الرئيسية والأساسية للقيادات السياسية الجديدة، وكذلك للاحزاب والكتل البرلمانية، وبالأخص السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولا شك ان هذه المسؤولية تحمل استحقاقات كبيرة تعود بمسؤوليتها الى الحكومة الوطنية المقبلة الموحدة، المؤمل تشكيلها قريبا.

والمعلوم ان العملية السياسية لادارة الدولة تعرضت الى اخفاق طوال الشهور الماضية، ولكن بفضل اتفاق الطاولة المستديرة، تمكنت القيادات العراقية من الوصول الى مخرج لوضع ارضية متينة لتشكيل الحكومة المقبلة للبدء بالبناء وتوفير الخدمات والاصلاح والتجديد لتستوعب الواقع الجديد الذي اخذ طريقه الى الساحة السياسية من خلال مشاركة عامة لكل القوى، للتعامل مع الاحداث والوقائع العراقية بموضوعية وواقعية ومسؤولية.

هذه الأرضية الجديدة في تثبيت وجود حكم مقتدر وفعال، ستساعد على تجديد روحية البناء المغروسة في نفوس العراقيين وفق اطر جديدة مؤمنة بالحياة المدنية الحديثة المبنية على النهج والفكر الانساني، وهذه الاطر تسمح للتأمل بتقديم رؤية سياسية جديدة من قبل الحكومة المقبلة لقراءة المكونات والمفردات للاحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية التي مر بها العراق، والاستفادة من خلاصة العملية السياسية والديمقراطية التي مر بها البلاد في السنوات الماضية.

وتوزايا مع الرؤية السياسية لبرنامج العمل الذي ستقدمه الحكومة المقبلة، فان طرح رؤية موزونة من باب التنوير السياسي يمكن تبنيها من قبل قيادات الكتل العراقية تعتبر حاجة ملحة لضرورات سياسية وتاريخية يمر بها الواقع العراقي، وهي رؤية اساسها المنطق ودافعها الواقعية، لتبنيها والاعتماد عليها كخارطة طريق، للانطلاق بالدور الحيوي للحكومة على الساحة من خلال تبني مشروع وطني وفق منظور الامة العراقية، للانتقال بواقعها الى مرحلة جديدة قادرة على تلبية الاحتياجات الحقيقية للتطوير بواقع حياة العراقيين انسانيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا واستراتيجيا، والرؤية المقترحة على الرئيس جلال الطالباني ورئيس الحكومة نوري المالكي ورئيس مجلس السياسات العليا ايد علاوي، تمثل مشروعا سياسيا عراقيا وهو يتضمن ما يلي:

اولا: تبني نموذج سياسي حكيم في مجلس السياسات العليا، باشتراك كل الكتل، لارساء امتداد نسيجي داخل البنية العراقية، بقيادة قادرة على تبني المشروع الوطني عراقيا لخدمة كافة المكونات القومية والدينية والمذهبية، بكافة شرائحها وفئاتها وتجمعاتها المدنية.

ثانيا: اختيار المنهج الفكري الانساني وفق المنظور العراقي، كبرنامج عمل للحكومة ولمجلس السياسات، يستلهم اسسه من المباديء والحقوق الاساسية الواردة في الدستور الدائم والاعلان العالمي لحقوق الانسان واللوائح الدولية للحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والثقافية.

ثالثا: تبني الفكر والبرنامج الاقتصادي للدولة العراقية، على أساس الاشتراكية الديمقراطية، بوضوح وبيان المعالم الاساسية لها وفق اطر محددة ومفهومة ومقروءة لكل عراقي، ومبنية على اسس قادرة على كسب المواطن لدعم وترسيخ الانتماء الوطني، استنادا الى المباديء الاساسية للحرية والحقوق المدنية لضمان حياة الفرد والعيش بكرامة.

رابعا: تبني برنامج خدمي واقتصادي شامل لانماء وتنمية الانسان العراقي، واعتمادا على رؤى وبرامج ومشاريع خدمية واجتماعية واقتصادية تقوم بها الدولة اعتمادا على كتلته المالية وصناديق ممولة ممكن اطلاقها من خلال افكار مصرفية وتجارية واستثمارية، وبمشاركة جماعية، من خلال ربط تلك المشاريع بتماس مباشر مع المواطن، لكي تعود المنافع اليه بطريقة مباشرة، واعتماد النهج الفكري العملي والتطبيقي المستنبط من الواقع الاكاديمي والاقتصادي والتجاري والاجتماعي في العراق.

خامسا: تبني وثيقة لارساء العدالة الاجتماعية مستخلصة من دراسة الواقع الاجتماعي والفكري والثقافي للعراق خلال العقود الماضية، بموضوعية ورؤية تحليلية اكاديمية وبحثية، للاستناد اليها للاسترشاد بها في تنفيذ الخطط والبرامج التي تقدم عليها الدولة العراقية، اعتمادا على مبدأ اساسي هو رعاية المصالح العليا للعراقيين.

سادسا: تبني رؤية عراقية لمعالجة ظاهرة الفروقات الطبقية الشاسعة البون للمستويات الاجتماعية والمعيشية والحياتية المتابينة التي ترسخت في واقعنا العراقي بين أقلية ثرية متسمة بالرفاه الجنوني وأغلبية فقيرة لا تتوفر لاغلبها ابسط مقومات الحياة، ومنح هذه القضية الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع العراقي حقها في البحث والدراسة والمعالجة، لانها بدأت تستفحل وتسبب مشاكل وازمات اجتماعية كبيرة.

سابعا: استحداث وزارتين، الاولى بعنوان وزراة تنمية القرى والارياف، والثانية بعنوان وزارة حماية المستهلك، للضرورة وحاجة المواطنين الماسة لخدمات هاتين الوزارتين.

ثامنا: اطلاق صندوق براسمال كبير من الموارد والمنح والمساعدات الاجنبية باسم quot;صندوق المشاريع الصغيرةquot; لتقديم القروض الميسرة ولاجل طويل لاقامة المشاريع الصغيرة على مستوى الافراد لضمان توفير فرص العمل لشرائح كبيرة من العراقيين.

هذا المنظور باختصار هي رؤية فكرية وسياسية مطروحة امام الرئيس الطالباني والمالكي وعلاوي، لدراستها وتبنيها للخروج بقرار لدعم وتشكيل حكومة عراقية فاعلة، تحمل مشروعا ليبراليا ورؤية عملية للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للامة العراقية، من واقع احترام العملية السياسية والديمقراطية والاستناد الى المباديء الواردة في الدستور الدائم، لضمان نموذج متقدم من البرنامج السياسي الوطني المتجدد والمقتدر على ضمان البيئة السليمة لجمع شمل العراقيين جميعا انسانيا ومدنيا ووطنيا، ونأمل ان تؤخذ هذه الرؤية حقها من قبل قيادات الكتل العراقية جميعها، للانطلاق بالعمل الجاد لبناء العراق لضمان الحاضر والمستقبل.


[email protected]