لم تكن احداث تونس لتحظى بما حظيت به من اهتمام واحتفاء لولا شح الاحداث المثيلة على الساحة العربية لعشرات السنين. والحقيقة ان هذه الاحداث انطلاقا من هذا الواقع تستحق الاهتمام والتمحيص لاستخلاص الدروس والعبر على مستوى تدبير الشأن العام وتأطير العمل الاجتماعي والاقتصادي من خلال سياسات تتسم بالنجاعة والفعالية. غير ان هناك ملاحظة أساسية على مجمل خطاب الاحتفاء السياسي بهذه الاحداث يثير التساؤلات وربما القلق حول طبيعة المنهجيات المعتمدة في تدبيجه والتي طلقت بشكل غريب كل اشكال الاحتياط التي ينبغي استحضارها في التعاطي مع احداث لم تستكمل بعد إنجازها وانما يتم إسقاط العديد من الرغبات التي مهما كانت مشروعة فإنها ابعد ما تكون من ان تكون محصلة تلك الاحداث. بل يمكن القول انها بعيدة أيضا عن ان تكون مؤشرا على كثير مما يتم تقديمه على انه من دروسها.

انه يمكن ملاحظة تضخم ايديولوجي بارز في قراءة احداث تونس الى درجة يمكن فيها ان تتحول تلك القراءة الى خطر حقيقي على الممارسة السياسية العربية في ضوء تلك الاحداث ليس على شكل تمجيد نوع من الارادوية المتطرفة والمتهورة فحسب بل أيضا الى الغاء مبدأ نظري حيوي في كل ممارسة سياسية وهو الانطلاق من التحليل الملموس للواقع الملموس. فالقول بان هناك تشابها في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العامة في مختلف البلدان العربية الذي يضمر استنتاج ان من شان تحرك شعبي على شاكلة ما حدث في تونس يلغي من حسابه واقع ان ليس هناك تماهيا بين الأوضاع هنا وهناك. وخاصة على مستوى طبيعة العلاقات بين النخب الحاكمة ومدى قوة الارتباطات فيما بينها وحجم قدرة تحمل البنى والمؤسسات التي يقوم عليها كل نظام لضغط وهزات المجتمع وطبيعة الموارد التي يتوفر عليها والتي يمكن تعبئتها لمواجهة تحديات الحالة القائمة. والحديث عن الموارد هنا يشمل عناصر ترتبط بالشرعية وأخرى ترتبط بالموارد الاقتصادية الملموسة.

من هنا فان الاستفادة من درس تونس ليست ممكنة الا متى تم تحديد الجهة المعنية بها. ذلك ان هذا التحديد هو الذي يتحكم في الاستراتيجيات والتكتيكات المتبعة من قبل كل جهة على حدة. اذ من البدهي ان درس الحركة الاحتجاجية بالنسبة لمن يدعو الى اعتمادها في عملية التغيير السياسي يختلف جوهريا عن الدرس المستفاد بالنسبة لمن يرغب في المحافظة والعمل على إفشال هذا النوع من التحرك قبل استفحال أمره. غير ان ما ينبغي الانطلاق منه هو ان الحالة التونسية ليست قابلة للتكرار في مختلف مستوياتها انطلاقا من مبدأ جدلي معروف منذ الفيلسوف الاغريقي هراقليط مفاده انه ليس بإمكان المرء الاستحمام في النهر مرتين.

قد يعتبر البعض ان في هذا التحليل تثبيطا للعزائم في الوقت الذي مطروح فيه شحذ الهمم للدخول في معارك التغيير الظافرة. بل قد يرى البعض فيه نوعا من تحايل قوى المحافظة للالتفاف على الثورة ووأدها في المهد غير ان الحقيقة غير ذلك تماما وهي بكل بساطة دعوة الى التبصر السياسي في معركة التغيير التي تعتبر الأهم من كل تهويمات ايديولوجية زائفة هنا او هناك.

واذا لم يكن بإمكان احد إنكار دور الحركة الجماهيرية في صنع التغيير السياسي وتحديد أبعاده ورسم سقوفه في مختلف المجالات والميادين، فانه لا يمكن الانطلاق مما يشكل أسلوبا استثنائيا في عملية التغيير ضمن اوضاع سياسية عامة خاصة، لتنصيبه على راس كل الأساليب المعتمدة في مختلف التقاليد الديمقراطية في العصر الحديث. اذ لسنا امام اوضاع متماثلة في كل الحالات، ولا يجوز تعميم ما ليس قابلا للتعميم.
فالمسألة الديمقراطية تقتضي اعتماد اساليب الاقتراع والاستفتاءات العامة ومختلف الاستشارات السياسية والشعبية التي تعطي الأولوية لاساليب التشاور والحوار. بل ان الأنظمة الديمقراطية قد حددت قواعد بعينها للتعامل مع الحالات الاستثنائية مثل الأزمات الاجتماعية والسياسية ومختلف حالات الاحتقان التي تعرفها الحياة السياسية بين الفينة والأخرى.

صحيح ان خروج الشعب الى الشارع اقتراع من نوع خاص. لكن تعارض شرعية صناديق الاقتراع مع شرعية حركات الشارع تطرح مسألة دستورية جوهرية ينبغي للنظام السياسي البت في وضع القاعدة الشاملة لمختلف الحالات الاستثنائية.

لعل هروب بن علي في الحالة التونسية هو الذي حسم الموقف لصالح شرعية الشارع على استمرار شرعية الانتخابات وهذا هو مصدر ما يمكن الوقوف عليه من ارتباك سياسي لدى التعاطي مع الاحداث منذ انطلاقها. فإذا كان الجميع قد دعا النظام الى الانفتاح على مطالب المحتجين وتخفيف وطأة القمع، فان ذلك يدخل ضمن طبيعة الاشياء، ولا يمكن إعادته حصرا الى رغبة لدى هذه الدولة او تلك في إبقاء الامور على ما هي عليها الأمر الذي يعني محض الدعم لنظام بن علي على حساب حركة الشعب التي تصاعدت في راديكاليتها مع مرور الايام الى ان وصلت الى المطالبة برحيل رئيس النظام وعائلته وتحولها الى شعار مطروح للإنجاز.

إن قراءة موضوعية لما جرى في تونس لابد لها من اعتباره حركة جماهيرية، غير انها حركة محدودة، متى تمت مقارنتها بالحركات الجماهيرية التي عرفتها بلدان اخرى بما في ذلك حركتين عرفتهما تونس ذاتها عامي ١٩٧٨ و ١٩٨٤ لكن اما ميز هذه الحركة هو قدرتها على فرض ابعاد الرئيس زين العابدين بن علي عن السلطة في حين ان الحركات السابقة تم قمعها قبل تحقيق اي شيء تقريبا ودون ان تتحول الى طرح مطالب سياسية محددة.

وهناك اسباب عديدة أدت الى هذه النتيجة منها، على الخصوص، التململ الذي حدث داخل الطاقم القيادي في الحزب الحاكم حيث تفاقم الصراع بين انصار بن علي من قيادات الحزب الحاكم العليا والوسطى وبين اصهار الرئيس وزوجته الذين يحاولون إدامة كفة ميزان المصالح الاقتصادية والسياسية راجحة لفائدتهم دونما أدنى تفكير في المخاطر المحدقة بالنظام والتي استشعرها الفريق الحزبي القيادي على ما يبدو منذ وقت مبكر لذلك لم يبد اي حماس في الدفاع عن هذا النظام الذي انحرف الى مجرد خدمة مصالح معسكر عائلة ليلى بن علي ان صح التعبير.

ولعل الخطأ القاتل الذي أدى الى قلب الموازين رأسا على عقب في العلاقة بين الطرفين موقف بن علي المهادن لمراكز القوى المتمحورة حول زوجته وأصهاره وتوجهه لاحقا نحو الإطاحة بالطاقم الحزبي المحيط به خاصة من كبار المؤولين في الدولة الذي اتهمه بخداعه وتغليطه. وهذا ما يفسر كيف ان هذا الطاقم قد استطاع الاستقواء بالحركة الجماهيرية التي تحولت الى حركة في مواجهة بن علي وافراد اسرته، وكان لموقف الجيش من المتظاهرين دوره الحاسم في إفشال حسابات بن علي الذي اضطر الى المغادرة دون ان يكون له رأي في فترة ما بعده، لانه بعد اعلان الحرب على الدائرة الضيقة المحيطة به قوض بنفسه الدعامة الاساسية لنظامه لان استعداءها دفعها الى حسم الامور بسرعة حفاظا على الحزب الذي اصبح من مصلحته التخلص من رئيسه لعل وعسى.

ومن بين تلك العوامل ايضا وهو ربما يشكل السبب الاساسي الثاني فهو عدم بروز قيادات سياسية تقليدية او حديثة وراء الاحداث الامر الذي أعطاها بعدها الاجتماعي الجماهيري السياسي في نهاية المطاف. وقد عقد هذا الوضع امر القيادات التابعة لمعسكر بن علي التي افتقدت الى عدو واضح المعالم يمكن توجيه اصابع الاتهام اليه بكونه وراء الاحداث تنفيذا لأجندة أجنبية معادية. اذ من شأن ذلك تبرير عملية القمع والتنكيل بالحركة الاحتجاجية ورموزها.

فهل يمكن القول ان نظرية روني غاليسو حول الانتفاضات الشعبية في بلدان المغرب العربي تظل إجرائية في تفسيرها باعتبارها انتفاضات مطلبية في جوهرها تناشد النظام القائم للاستجابة لها ولا ترمي في العمق الى القضاء عليه وبناء نظام جديد على انقاضه؟

ان احداث تونس تقع في منتصف الطريق بين تأكيد هذه النظرية وتفنيدها. فهي في الوقت الذي لم تستطع فيه تغيير النظام وبناء نظام جديد تماما، استطاعت الإطاحة برأس النظام على كل حال. وهذا إنجاز يحسب لها. الامر الذي يعني انها ازاحت عقبة أساسية في وجه التغيير في المستقبل وليس هذا عائدا بصورة حصرية الى ان النظام الذي اقامه بن علي يتميز بالشدة في التعامل مع خصومه السياسيين ومع كل حركة جماهيرية يمكن ان تعمل على تحديه فحسب بل أيضا لانه لم يكن من السهل تكوين رأي عام واسع النطاق ومؤثر ضد بن علي الذي ارتبط اسمه بالعديد من الانجازات في المرحلة التي اعقبت إطاحته بنظام بورقيبة، علاوة على تخوف مجمل قوى المجتمع السياسي والمدني من استغلال القوى الاسلامية المناهضة للحريات المدنية وضع اللاستقرار فتنقض على المكتسبات التي راكمها الشعب التونسي خلال مرحلة الاستقلال الوطني وتحت حكم رئيسين لكل منهما حسناته وإنجازاته وسيئاته وإخفاقاته، بطبيعة الحال.

ويبدو ان الحكومة الائتلافية الراهنة ترغب في ابعاد نفسها عن النظام السابق علها تنجو من السقوط بعد بروز مواقف تدعو الى الاستمرار في الاحتجاج الى ان يتم القطع النهائي مع نظام بن علي. ان فتح تحقيق قضائي بتهمة سرقة أموال وتصدير العملات الاجنبية ضد بن علي يؤكد أمرين اثنين في آن واحد: الامر الاول ان الحركة الشعبية التي أسقطت بن علي قد وجدت لها صدى في الأوساط القيادية في الحزب الحاكم، هذا اذا لم تكن اطراف منه قد ساهمت، بهذا القدر او ذاك، في هذه الحركة مباشرة او بصورة غير مباشرة عبر بث المعلومات الحاثة على الاستمرار في العمليات الاحتجاجية مثل تقديم معطيات ذات مصداقية حول الحالة التي عليها الدائرة الضيقة المحيطة بالرئيس المطاح به. الامر الثاني الاستعداد شبه التلقائي للتكيف مع مستجدات الوضع كما لو كانت هذه القوى مهيأة للدخول في مرحلة جديدة.