لم يبقَ مثقفٌ عربي، أو صحفي، أو كاتب، أو صاحب رأيٍّ وشأنٍ في السياسة وأحوالها، إلا ودلى بدلوه في ثورة تونس الشعبية، الجماهيرية بإمتياز، والتي انطلقت شرارتها من قلب quot;التونسي الأخيرquot; محمد البوعزيزي، في جمعة النار الموافق 17 ديسمبر من العام الماضي.

الكل كتبَ مع تونس الثورة، وهتف مع الشارع الثورة، ونفخ في النار الثورة، واستجاب لقدر الشعب الثورة الذي أراد لنفسه الحياة، وقرأ الفاتحة على نهاية الديكتاتور الهارب من لهيب الثورة، وفرح مع جمهور الثورة، ومشى معه إلى قرار الثورة، وحكومة الثورة، وديمقراطية وحرية الثورة، وحق تقرير مصير الثورة.
الكلُّ، سجلّ موقفه quot;التاريخيquot;، ومشى.
الكلّ، قال كلمته التونسية، مع تونس الأخضر الجديد والتونسيين، ومضى.

إلى هنا يبقى الأمر عادياً أو ربما دون العادي أيضاً، فالحدث الساخن يستجلب على الدوام آراء وكتابات ومواقف وتحليلات ومتابعات وسجالات ونقاشات ساخنة.

ولكن اللاعادي، في بعض ما كُتب ولا يزال في شأن تونس الثائرة، شمالاً ووسطاً وجنوباً، هو محاولة البعض(الليبرالي على وجه الخصوص) من المعوّلين على ريادة المثقف العربي(الماشي خلف الشارع دائماً) ودوره الفاعل في التغيير، للإلتفاف على الثورة في كونها ثورة بوعزيزية جماهيرية عشوائية بلا quot;قائد مثقف/ أو مثقف قائدquot;، وتسجيلها برسم quot;مثقف ليبراليquot; غائب أصلاً ومحدود التأثير عربياً، ليس في تونس فحسب، وإنما في عموم العالم العربي، من المحيط إلى الخليج.

المثقف العربي(أو الدائر في فلكه من ثقافات أعجمية أخرى)، الذي هو في الأغلب(على مستوى علاقة الثقافة بالسلطة) جزءٌ من المشكلة، أكثر من أن يكون جزءاً من الحل، لا يقفز على الثقافة ورسالتها المتحولة، في كونها عقلاً للتغيير فحسب، وإنما يقفز على الجمهور أيضاً، بإعتباره صانعاً نهائياً في كلّ تغيير، ومحركاً أساسياً لتاريخه.

لكأنّ جمهور الثقافة الغائب عن ثقافة الجمهور، عربياً، قد قرر بسكوته(الذي من ذهبٍ) على فساد النظام العربي، وفساد حكامه الذين يحكمون البلاد والعباد، بديكتاتوريةٍ استثنائية قلّ مثيلها في العالم، قرر الإنسحاب من الشوارع، أو القفز فوقها إلى إشعارٍ حكوميٍّ آخر.

المثقف العربي، الذي قررّ الغياب عن الشارع ونبضه، لا يعيش مع quot;شعب الشارعquot;، إلا نادراً، وإنما يعيش فوقه، أو بجواره البعيد في أحسن الأحوال.
لذا هو لا يتقدم شعب الشارع، وإنما الشعب يتقدم عليه.
هو، لا يؤثر بشعب الشارع، وإنما يتأثر به.
هو لا يقود الشارع، وإنما ينقاد إليه.
هو، لا يكتب تاريخ الشارع، وإنما الشارع يكتب تاريخه.
هو لا يقوم قومة المثقف الذي يسبق الجمهور، وإنما يصحو بعد قيامة شوارعه.

إنه مثقف ما بعد قيامة الشوراع بإمتياز، الذي سرعان ما يغيّر جلده مع رياح تغييرها.
هو، لا يغيّر، بقدر ما أنه يتغيّر.

أنه مهندس السكوت على حاجات الشوارع إلى أن تقوم قيامتها.
هو، في الغالب لا ينتقد الحكام في فوق الشوارع، بأسمائهم الصحيحة القائمة على ديكتاتورياتهم الصريحة، التي تُعلى ولا يُعلى عليها، إلا نادراً، وان انتقد فأنه ينتقد الصفة بدون موصوفها.
هو ينتقد الديكتاتورية دون الإشارة إلى السيد الديكتاتور.
أو ينتقد quot;الديكتاتورية الخالصةquot;(المجردة) دون التطرق إلى نقد quot;الديكتاتور العمليquot;(والعبارة مقتبسة من مقولتي العقل الخالص والعقل العملي عند الفيلسوف الألماني إيمانوئيل كانط)
هو يشكو من فساد النظام العربي، دون تشخيصٍ للقائمين على فوق الفساد.

جلّ ما نقرأه، في المشهد الثقافي العربي، هو نقد quot;معمّمquot; للشموليات العربية، بإعتبارها حالة عربية عامة، يتساوى فيها الكلّ مع الكل(ما في حدى أحسن من حدى)، إذ يجري الحديث عنها ضمن مقولات معممة فضفاضة بلا حدود، تسبح في فضاء عربي نكرة، من قبيلquot;النظام العربيquot;، وquot;الركود السياسي العربيquot;، وquot;فساد وتخلف وتورط وتشبث وتعنت النظام العربيquot;، دون تشخيصٍ لنظام محدد بذاته، أو مسؤولٍ قائم على فوقٍ بعينه.

السياسة تفرض أولوياتها وشروطها على طول الثقافة وعرضها، من المحيط إلى الخليج.
والحالُ، ليس للثقافة إلا أن تسكت وتسكت وتسكت، إلى أن يصدّق الناس بأنّ السياسة القائمة على إدارة شئونهم، هي كلّ الحقيقة وماوراءها.

تاريخ الديكتاتوريات العربية وأخواتها من quot;الغيتوهاتquot; الجمهورية والفوق جمهورية، يشهد على أنّ المثقف العربي الماضي في سكوته العظيم، ليس حاملاً للتغيير أو متغيراً، بقدر ما أنه quot;متحوّل تحت الطلبquot;، يتغيّر من ثابتٍ إلى آخر، كلما اقتضت حاجة quot;الثبات السياسي العربيquot; إليه.

فماذا فعل المثقف العربي، طيلة حكم الديكتاتورية الصدامية الماضية، عندما كان الشعب العراقي يُقتل بالجملة، ويُؤنفل بالجملة، ويُضرب بالكيمياء بالجملة، وتُنتهك كرامته وتُمتهن إنسانيته ويُغتصب عراقه بالجملة؟
ألم يكن المثقف العربي، عراقئذٍ، من أكبر الساكتين على واحدةٍ من أفظع وأشنع الديكتاتوريات التي شهدتها المنطقة العربية والعالم في القرن الماضي؟
كم مثقفاً عربياً(خارج العراقي المكتوي بنار عراقه)، أو كاتباً، أو صحفياً، أو محللاً سياسياً انتقد ديكتاتور quot;جمهورية الخوفquot; قبل سقوط صنمه في التاسع من نيسان 2003؟
ألم يُمدح ديكتاتور العراق الأخير، على لسان حال الشعر العربي بquot;الظل العاليquot;؟
أليس المثقف العربي هو أول من برّأ صدّام حسين من إعدامه لحلبجة بالكيمياء، تحت حجة سقوط أكراده في quot;الخيانة العظمىquot;؟
ألم يبارك زعيم أكبر قضية عربية عادلة(القضية الفلسطينية) الراحل ياسر عرفات صدّام على قصفه لأكراده بالكيمياء، وكأنهم quot;شعبٌ مارقquot; بدون قضية؟
سجّل الكوبونات الصدامية الحافل بالأسماء الثقافية العربية الكبيرة والصغيرة، هو أكبر شاهدٌ على السقوط الكبير للمثقف العربي، في فخاخ عكوس الثقافة وأضدادها.

ذات الشيء يمكن سحبه على أنظمة الحكم العربية الأخرى، الشمولية والديكتاتورية والأتوقراطية والثيوقراطية والوراثية.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، قلّما تقرأ لمثقفٍ أو كاتب عربيٍّ(خارج السوريين) تناول الشأن السوري، بالنقد لديكتاتورية الأسد الأول سابقاً، أو الأسد الثاني لاحقاً، التي تحكم سوريا بالحديد والنار والتهديد والوعيد، منذ أكثر من أربعة عقودٍ من الزمان.
قلّما تسمع صوتاً عربياً مسموعاً، ينتقد الديكتاتور السوري لما يمارسه من انتهاكات ضد كلّ ما يمتُّ إلى حقوق الإنسان والمكان بصلة.
وقلّما تجد كاتباً عربياً، يكتب عن إرهاب النظام السوري المنظّم ضد شعب الشارع.

كم كاتباً للرأي كتب عن سجون سوريا الأسد، وتاريخها الحافل بالسجناء السياسيين وسجناء الرأي والضمير، الذين قضوا سنيناً طويلةً، من التعذيب والخوف والإرهاب خلف قضبانها، على مرأى ومسمع أهل الثقافة والكتاب من المحيط إلى الخليج؟
كم كاتباً في الحرية، كتب عن اختفاء 17 إلى 25 ألف سجين سياسي سوري ولبناني وعربي في سوريا المعتقلات، حسب تقريرٍ للجنة السورية لحقوق الإنسان لعام 2010؟
كم مثقفاًً رفع صوته ضد جوع الشوارع السورية التي يعيش شعبها وفقاً لبعض الدراسات الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام2007 بنسبة ما يقارب 30% تحت خط الفقر؟
كم كاتباً في الحق، انتقد قانون الطورائ المفروض على الشعب السوري منذ أكثر من نصف قرنٍ من الزمان، بحجة quot;العدو الصهيونيquot;، الذي لم تطلق سوريا في جبهته طلقة واحدة طيلة أربعة عقودٍ من quot;العداوة الضروريةquot; مع quot;عدوٍّ ضروريquot;، بقيادة quot;القائد الضرورةquot;؟
كم مدافعاً عن quot;أخوة الشعوبquot; دافع عن أكراد سوريا الممنوعين من المواطنة السورية، فضلاً عن مكتوميتهم السياسية والإقتصادية والثقافية، على مستوى سوريا الرسمية، ومنعهم البات من أية مشاركةٍ علنيةٍ فيها؟
كم ثائراً عربياً ثار مع انتفاضة قامشلو في 12 آذار 2004، التي كان يمكن لها أن تصبح quot;ثورةً سوريةًquot; من دمشق إلى قامشلو، عندما أسقط الشارع الكردي تمثال الديكتاتور لأول مرةٍ، في قلب قامشلو التي انتشرت شرارتها، غضبَئذٍ، في كل المدن الكردية من عفرين إلى ديريك، فضلاً عن المدن السورية الأخرى التي تسكنها جماهير كردية، مثل دمشق وحلب والرقة؟
كم جهةً إعلاميةً عربيةً نقلت وقائع quot;القيامة الوطنيةquot; في قامشلو المنتفضة، آذارئذٍ، بمهنية، وquot;حياديةquot;، لنقل quot;الحقيقة الكرديةquot; في كونها quot;حقيقةً وطنيةً سوريةًquot; أولاً وآخراً؟
ألم تسمى تلك quot;القيامة الوطنيةquot;، التي راح ضحيتها حوالي أربعين شهيداً رميوا بالرصاص الحي، في الإعلام العربي قاطبةً، بquot;أحداث شغبٍquot;، كما كان يسميها الإعلام الرسمي السوري؟
ماذا لو قامت quot;القيامة الوطنيةquot; ذاتها في مكانٍ سوريٍّ آخر، خارج المكان الكردي في قامشلو وأخواتها؟
ألم يسكت المثقف العربي(السوري في بعضه الأكبر ضمناً)، مع النظام الرسمي العربي، على انتفاضة مواطنه الكردي في قامشلوا، ربما عملاً بقاعدة quot;أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماًquot;؟
ثم أوليست الديكتاتورية عابرة للقوميات، ولا فرق بين ديكتاتورٍ عربي أو أعجمي إلا بالإسم؟

في قضية quot;نصرة الأخ ظالماً أو مظلوماًquot;، والحق يُقال، لا يختلف المثقف الأعجمي(الكردي ضمناً) عن مواطنه أو جاره العربي، بشيء.
كلٌّ ينصر أخاه الديكتاتور على طريقته الخاصة.
كلٌّ quot;يمدح في quot;ظله العاليquot; بلسانه الخاص.
وكلٌّ يقفز على شوارعه المكتوية بنار quot;الأخ الديكتاتورquot;، وفقاً لفقهه السياسي الخاص.

هي، هنا وهناك، ثقافة واحدة تشمل الجميع، يرتكبها المثقف العربي وآخره الأعجمي، الذي يعيش بين ظهرانيه، على حدٍّ سواء.
أنها ثقافةٌ القفز فوق الشوارع، وجمهور الشوارع، وحياة الشوارع.
أنها ثقافة القفز فوق الحواس: لا ترى الشوارع ولا تسمعها ولا تلمسها ولا تشمّها ولا تحس بها، إلا بعد قيامتها، أو بعد أن تدق رؤوس شعوبها بفؤوس الحكام.


هوشنك بروكا
[email protected]