هبت نسائم الحرية من تونس الخضراء، فهل تسري هذه النسائم في شوارع مصر، وليبيا والجزائر، والمغرب، والسودان، والأردن، واليمن، وسوريا، وغيرها أم أن هذه الشعوب فقدت حاسة الشم منذ عدة عقود، شعب مصر بالفعل فقد حاسة الشم بفعل التلوث والفساد الذي يزكم الأنوف، وأصبح عاجزا عن الفعل لأنه فضل أن يجاري الحكومة في فسادها عوضا عن العيش حياة كريمة، التونسيون وهم أفضل حظا من المصريين في التعليم والصحة، رفضوا الظلم الذي تمارسه فئة قليلة سيطرت على مقدرات البلاد، وتركت الشعب يكتوي بنيران البطالة والفساد وغلاء الأسعار، وأشعل الشرارة الأولى شاب جامعي يدعى quot;محمد بوعزيزيquot; حين أضرم النار في جسده النحيل في ولاية quot;سيدي بوزيدquot; احتجاجا على مصادرة سلطات البلدية quot;عربة خضارquot; كان يكسب منها قوت يومه ليعول أمه المسنة وأخواته البنات بل واهانته بصفعه على وجهه وهي مشاهد تتكرر ألاف المرات في مصر وها هم الشباب البائس يحرق نفسه في مصر والجزائر لعل الشعوب تتحرك.

الحكاية هي أن العاملين في مصر بمختلف مستوياتهم، اعتادوا على تلقي الرشا نظير قضاء المصالح، فكل موظف لديه راتب شهري من الحكومة، وما يوازي أضعاف هذا الراتب عشرات المرات من الرشاوى واستغلال الوظيفة، فمن المستحيل أن تقضي مصلحة في مؤسسة حكومية دون أن تدفع quot;المعلومquot; وتسمع كلمة quot;كل سنة وأنت طيبquot; طوال أيام السنة quot;والجنيه غلب الكرنيهquot; وغيرها من مصطلحات التسول، ترتفع الأسعار ويكتوي الموظفون بنارها ولا احد يتكلم لأن الحكومة تتغاضى عن فساد الجهاز الحكومي مادام لا يسبب لها صداعا، وتسمح للبرامج الحوارية بأن تطرح المشاكل وتكشف الفساد كنوع من التنفيس، أما بقية الشعب من الفقراء والمعدمين فتتولى بعض الجمعيات الخيرية شؤونهم، وبعض مؤسسات حقوق الإنسان وغيرها تتاجر بآلامهم لتستجدي الأموال من مؤسسات خليجية وغربية.

علاوة على ذلك فان النقابات في مصر فشلت في أن تؤدي دورها بمهنية، وتدافع عن مطالب أعضائها، وسارت في فلك الفساد، ومن تتمرد يكون مصيرها الوضع تحت الحراسة، ويمكن لهذه النقابات أن تفعل الكثير إن هي فكت ارتباطها بالنظام، فنقابة المحامين والمهندسين والصحفيين وغيرها يمكن أن تلعب دورا كبيرا في الدفاع عن مصالح أعضائها ضد الظلم بكافة أنواعه، اتحاد العمال في مصر يعد مثالا للفشل لأن المسئولين فيه عبارة شرذمة من الجهلة وضيقي الأفق، يسهل قيادتهم كالقطيع، عكس quot;الاتحاد التونسي للشغلquot; الذي يقوده قادة يدافعون عن مصالح العمال أولا لا مصالح النظام الحاكم.

بين هذا وذاك تأتي الأحزاب المستأنسة، ففي مصر أكثر من أربعة وعشرين حزبا ليس لهم وجود في الشارع، الصراعات بين زعاماتها وأعضائها من المضحكات المبكيات، ومعظمها تدعو إلى الديمقراطية، وهي دكتاتورية في ممارساتها، وكلها ديكور لتجميل وجه نظام قبيح، هذا بالإضافة إلى أن مصر تعيش مرحلة quot;التدين الشكليquot; فالسياسيون احترفوا الكذب والخداع، والشباب بات مخدرا بفضل quot;دعاة جددquot; كل ما فعلوه تغيير في الشكل لا في السلوك، ويجنون من وراء ذلك أموالا طائلة وquot;خطباء مساجدquot; لا يربطون الدين بالواقع، على غرار ما كان يفعل الشيخ quot;عبد الرشيد صقرquot; رحمه الله في خطبة الجمعة بمسجد صلاح الدين بالمنيل قبل أكثر من ربع قرن، يتحدث خطباء هذه الأيام عن أشياء يغلب عليها الجهل وإزكاء روح التعصب، فلا الشباب أنصلح حاله، ولا المجتمع المصري تقدم، أيمكن في ظل هذه الأحوال أن تقود الجماهير الشارع المصري نحو التغيير، وتناضل بشكل سلمي من اجل رحيل النظام طمعا في حياة كريمة تسودها الحرية والعدالة، وتفتح آفاقا جديدة لحل مشاكل البطالة والفساد والتعليم وغيرها من القضايا المزمنة التي تتفاقم عاما بعد عام.

وما كان يحدث في تونس مشابه تماما لما يحدث في العالم العربي، وأتمنى أن تتكلل ثورة تونس الشعبية بالنجاح، ولا اخفي عليكم القلق الذي ينتابني على هذه الثورة الوليدة من لصوص الثورة، فهاهو رئيس الحكومة محمد الغنوشي يصرح لقناة quot;فرانس 24 quot; بأنه اتصل بالرئيس المخلوع في منفاه في السعودية، ليطلعه على تطورات الوضع، واستشعر بأن هناك مؤامرات تحاك في الغرف المغلقة لنشر الفوضى وإجهاض quot; ثورة الياسمينquot; وإعادة الرئيس المخلوع ليرتاح من ترتعد فرائضهم في عواصم عربية عديدة، خاصة وان حزبه quot;التجمع الدستوريquot; هو الذي شكل الحكومة وهو ما يتطلب من شعب تونس مواصلة النضال، وحل حزب الرئيس والقبض على رموزه وأولهم الوزير الأول محمد الغنوشي والرئيس المؤقت quot;فؤاد المبزعquot; وقبل الختام اطرح مجموعة تساؤلات على القادة العرب وهم يحضرون قمتهم الاقتصادية في شرم الشيخ اعرف أن الإجابة عليها صعبة وهي :هل يعيد الحكام العرب النظر في الإصرار علي البقاء في السلطة حتى يأتيهم اليقين أي quot;الموتquot;، وتغيير الدساتير من اجل البقاء والتوريث؟ وهل يراجعون مواقفهم من مستشاريهم اللذين يزينون لهم الباطل كما اعترف زين العابدين في أخر خطاب ألقاه قبل الرحيل؟ وهل يفكون عرى العلاقة بين رأس المال بالسلطة ويعرفون أن رجال الأعمال لا يهمهم سوى مصالحهم؟ وهل يكفون عن الخداع والكذب على شعوبهم وإقصاء المعارضين والشرفاء؟ وهل يكفون عن الثقة في حماية واشنطن والغرب لعروشهم؟ وهل يمتنعون عن تنفيذ مطالب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهما من المؤسسات الغربية طالما تعارضت مع مصالح شعوبهم؟

هل آن الأوان أن يقتربوا من شعوبهم وقوى المعارضة المخلصة ويحتضنون كل الأفكار من علمائهم ومفكريهم الذين ضاقت بهم الحياة في أوطانهم فعاشوا في مجتمعات تقدرهم وتستفيد من علمهم، أم سيصمون آذانهم عن كل ذلك حتى تأتي انتفاضة شعبية تقتلعهم من على عروشهم فيفروا مذعورين كالفئران، ويتخلى عنهم الصديق قبل العدو. أقول للحكام العرب قبل أن يقترب الطوفان خذوا العبرة من quot;زين العابدينquot; واستقيموا يرحمكم الله.

rlm;إعلامي مصري