من كان يتوقع بأن النرويجي أنديرش بيرفيك، الذي قتل 77 فردا ً أغلبهم من الشباب المراهقين، يمكن أن يكون حرا ً طليقا ً بعد أن يقضي فترة علاجه في إحدى المصحات النفسية. لقد شخص علماء النفس أنديرش بيرفيك على إنه مريض نفسيا ً بما يسمى بارونيد الشوزفرينيا وهو من أكثر أنواع الشوزفرينيا شيوعا ً حيث يصاب المريض أولا ً بالبارنويا وهي المبالغة في الشك والإتهام للآخر والخوف منه ويراود المصاب شعور دائم بأن هناك مؤامرة تحاك ضده.
أما ثانيا ً فيحس المصاب بإضطراب في التفكير والرؤية الخاطئة للواقع أو الوهم والإعتقاد الزائف، حيث يسمع أصوات ويرى صور تبدو له حقيقية، بل يسمع أوامر هي محض خيال وهي من صناعة عقله الباطن ولايستطيع أحد أن يقنعه بأن إعتقاده زائف وغير حقيقي ولو كان العالم باكمله ضده. وكعادة المصابين بهذا المرض فقد رفض أنديرش بيرفيك هذه الإدعائات فهو يعتقد بأنه ليس مريض نفسيا ً بل أحد فرسان المعبد ومكلف بتنفيذ فعلته بإعتباره جندي قام بواجبه المقدس.
أن قضية النرويجي أنديرش تطرح أسئلة عديدة على جميع المستويات، فمن الناحية القانونية والأخلاقية كيف يمكن معاقبة مريض، بل كيف يمكن محاسبة أي شخص على فعل وهو مجبور عليه بفعل دوافع نفسية. أن الفعل مرتبط إرتباط وثيق بالقصد والقصد مرتبط بالفعل العقلي للإنسان العاقل، ومعنى أن هناك قصد من الفعل هو بأن هناك غاية عاقلة وراء ذلك الفعل، والفعل هنا يمكن أيضا ً أن يكون إمتناعا ً. وبغض النظر إن أتفقنا أو لم نتفق مع هذا النظرية فأن الفعل مرتبط بالمسؤولية عنه، فكيف يتم محاسبة شخص مصنف على إنه غير مسؤول عن عمله أو مصنف على إنه غير عاقل؟ هذا من الناحية الأخلاقية والقانونية، أما من الناحية الاجتماعية فهناك أسئلة كثيرة لابد من مناقشتها.
هل يرتبط كل عمل إرهابي بالجنون؟ بالتأكيد لا، فهناك أفعال تقف ورائها منظمات إرهابية لها أيدلوجياتها التي تلغي الآخر وتنفيه ماديا ً. من جهة أخرى هل كل إرهابي مجنون؟ بالتأكيد لا، لكن يوجد هناك من الإرهابيين من هم مصابون بأمراض نفسية إذ لم تتح لهم نفس الفرصة التي حضي بها أندرش النرويجي للتشخيص النفسي. لابد أن نفهم أن الفاصل بين الإنسان السوي والمصاب نفسيا ً يختلف من ثقافة إلى أخرى، حيث لايوجد حد فاصل بين العقل والجنون أو بين ماهو سوي وغير سوي، بل هي أنساق وخطابات تشكلها ثقافتنا على رأي ميشيل فوكو. فهناك الكثير ممن نعيش معهم هم أناس أسوياء فما أن تتاح لهم الفرصة حتى يتحولوا إلى وحوش كاسرة، وحسبك أغلب خلفاء بني أمية الذين كانوا يطوفون برؤوس المقتولين من معارضيهم السياسيين وليس إنتهاء ً ببني العباس الذين بدأت خلافتهم بمائدة على أجساد بني أمية أقامها خليفتهم الأول السفاح. هل هذا إرهاب أم جنون؟ ولماذا نغوص في التاريخ كثيرا ً فحسبنا مايحدث اليوم من فضائح لدكتاتوريات سقطت وخلفت ورائها فضائح من الجنون في طرق القتل والتعذيب لأناس أبرياء.
فمنهم من يقتل المعارضين بالديناميت ومنهم من يحرق السجون بهم، فهل هذا إرهاب أم جنون؟ الغريب أن لكل دكتاتور ماض طفولي مؤلم يشكل له عقدة نقص كما يحللها أيرك فروم عالم النفس الألماني. حتى أنديرش النرويجي تقول عنه بعض الصحف بإنه تعرض للإستغلال الجنسي في طفولته. لا أريد أن أبرر للدكتاتور أوالطاغية فعلته ولايمكن حتى تفسير ظاهرة الإرهاب بهذا الشكل وذلك لأن إرهاب الدكتاتور مرتبط بشكل وثيق بثقافة الإلغاء والإقصاء وربما هو يكون ضحية وأداة لهذه الثقافة البائسة، فبدل أن نتحدث عن دكتاتور مريض نفسيا ً يكون الحديث عن ثقافة ومجتمع مريضين نفسيا ً!
بعيدا ً عن تشعبات الإرهاب والجنون القانونية والأخلاقية والإجتماعية، السؤال الأهم هو، كيف يمكن أن نمنع وقوع كارثة يقوم بها مجنون على طريقة أندريش النرويجي أو على طريقة الزرقاوي بتفخيخ سيارة في شارع أمام مدرسة لايوجد فيها غير الأطفال الأبرياء. بل كيف نمنع من هم مصابين عقليا ً بأن يكونوا أدوات لمخططات إجرامية تقوم بها منظمات إرهابية. ربما سيكون الجواب صعبا ً، هذا إن وجد جواب أصلا ً.
ولكن، يمكن تقليل الخطورة بشكل كبير من خلال الحد من أن يكون المجنون أداة بيد المجرم من خلال إنشاء منظومة حماية إجتماعية. فعلى سبيل المثال وفي السياسة إذ أن الديمقراطية بكل بساطة تمنع الدكتاتور من أن يصل لسدة الحكم بشكل نسبي، ولكن هناك بالتأكيد إستثناءات كالقائد النازي هتلر الذي وصل بشكل ديمقراطي للسلطة. في نفس الوقت لايستطيع شخص مثل القذافي أو صدام حسين أن يكون رئيسا للوزراء ولو إسبوعا ً واحدا ً في دولة كالسويد أو الدنمارك لأن المؤسسة من تحكم هناك ويضبطها الدستور والبرلمان وقوانين وبيرقراطية شديدتين. أن الدولة التي تعتمد في شؤونها على المؤسسات ستمنع بالتأكيد أن تكون الأمور بيد فرد واحد فيصير دكتاتورا ً ويصيح...أنا الدولة والدولة أنا.
من هذا المنطلق يمكن أنشاء منظومة أجتماعية تمنع المتطرفين والمغرر بهم والمرضى النفسيين بأن يكونوا أدوات للقتل والإرهاب وذلك من خلال ترسيخ ثقافة التسامح وقبول الآخر المختلف بالدين والعرق والقومية. لم يكن ليفعل أنديرش النرويجي فعلته لولا وجود خطاب يدعو للكراهية وعدم قبول الآخر، بالخصوص ضد المهاجرين في النرويج، فهو لم يقتل أناس عاديين بل قتل شباب يتبعون الحزب الديمقراطي الاشتراكي النرويجي المتساهل مع المهاجرين في جزيرة أوتويا. أن ترسيخ هكذا خطاب لايتم إلا في مجتمع ديمقراطي وهو بحاجة لنشاط ثقافي وجهد إستثنائي ينشر الوعي ويؤسس لثقافة تعتمد على قاعدة إنسانية في مجتمع مدني. ويحتاج هكذا خطاب إلى تعديل وتشريع قوانين تحاسب وتعاقب كل فرد يدعو للعنصرية والكراهية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى على المجتمع أن يحمي نفسه من خلال تطوير أدوات العلاج النفسي لتفادي تطور الأمراض النفسية عند الكثيرين. فهناك الكثير من الأمراض النفسية التي يمكن معالجتها والشفاء منها أو الحد من خطورتها على المريض نفسه وعائلته والمجتمع، وهنا يأتي دور الدولة على أساس أنها تملك الثروة لتطوير طرق العلاج النفسي وإنشاء المستشفيات وما شابه ذلك.
إذن، لايمكن لأي إرهابي وإن كان مريض نفسيا ً أن يقوم بأي فعل إجرامي إذا كان هناك نظام يمنع أو يحد من تبني الأفكار والأيدلوجيات التي تحث على الكراهية وإلغاء الآخر فيذوب حينها الحد الفاصل بين العقل والجنون ليتحول الفرد البسيط إلى أداة للقتل ومجرم متطرف مستعد أن يضع العالم تحت قدميه.
التعليقات