من اجمل التحقيقات التي قرأتها منذ سنوات كانت تلك التي اجراها الزميل الكاتب والصحفي عبدالرحمن الماجدي مؤخرا على صفحات ايلاف تحت عنوان ( محلة التوراة في قلب بغداد.. إرث اليهود المنهوب )* وتحدث فيها عما حصل لليهود العراقيين من عمليات تقتيل ونهب وسلب، حيث يقول:
( هجم المئات من سكان بغداد على محلات اليهود العراقيين عام 1941 لينهبوا بالقوة كل ما خف أو ثقل حمله وغلا أو رخص ثمنه، بتحريض من حكومة رشيد عالي الكيلاني المؤقتة التي كانت توالي ألمانيا آنذاك وأطاحت بالوزارة، وأجبرت الوصي عبد الاله على الفرار، حيث كان للخطاب القومي والديني ضد اليهود أثره في هجوم الغوغاء على محلات اليهود والاعتداء عليهم ونهب ممتلكاتهم و قتل أعداد كبيرة منهم بينهم عدد من الاطفال الذين كانوا يلعبون قرب بيوتهم وهرع أهلهم للهرب داخل البيوت خوفا من هجمات الغوغاء، ولم تفلح تدخلات بعض جيران اليهود من المسلمين فقد وصل عدد القتلى نحو 850 قتيلاً من اليهود خلال يومين ودفن عدد كبير منهم في مقبرة جماعية في بغداد، ولم يعثر ذوو الأطفال على أحد منهم بين الأحياء يومئذ ).
ربما كانت تلك بداية الفرهودات الحكومية التي تم تطويرها من مدرسة الغزو المعروفة في الجاهلية والتي استمرت الى ما قبل عقود قليلة من الزمان، حيث بدأت الانظمة الحاكمة تأخذ مأخذ العصابة او العشيرة في القيام بالغزو كما حصل في غزوات النظام العراقي السابق لشعبه في الشمال والجنوب او لجيرانه واشقائه، وما تبع ذلك من فرهود منظم تقوم به اجهزة ذلك النظام او تحت اشرافها كما حصل في اربعينات القرن الماضي مع اليهود العراقيين او ما حصل مع الكرد العراقيين في كركوك الذي عرف بفرهود كركوك حيث استبيحت اموال وارواح الاهالي من سكان المدينة، وكذلك حصل مع الكرد الفيليين الذين تمت فرهدتهم وانفلتهم باوامر واشراف مباشر من قبل قيادة النظام السابق، وما تلى ذلك من عمليات نهب وسلب في الشمال والجنوب، توجت اخيرا بالفرهود الاكبر او ما اطلق عليه بالحواسم، والذي ما زال مستمرا حتى يومنا هذا وبنجاح منقطع النظير واشكال واقنعة اكثر تطورا وحداثة بالتعاون مع احدث عمليات الفساد المستوردة من الحلفاء والاصدقاء الجدد، وتحت شعارات ومزايدات اقلها شماعة النظام السابق!.
لقد بحثت عن اصل كلمة فرهود بمعناها ودلالتها في اللهجة العراقية، فوجدت تقاربا بين كثير ممن ارجعها الى ادغام فعل وصفة انتجتهما الحكومة العراقية مطلع اربعينات القرن الماضي واساسهما ( فر أي هرب اليهود ) كما ذكر الكاتب كامل داود* في بحثه المنشور على صفحات الحوار المتمدن، او كما جاء في تحقيق الزميل الماجدي حول مفهوم الفرهود الذي تبلور نتيجة كثرة الاستخدام والاستدلال على فعل ما، تنتجه عملية الفرار او الهروب، اصبح فر.. يهود ( فرهود ) ومن ثم اصبحت تعني إباحة الاستحواذ بأي شكل من الأشكال على كل ما تركوه الهاربين منهم او الباقين من اعداء الدين والدولة كما كانوا يوصفون!؟
ورغم ان الأحداث في تلك السنوات وما تلاها من عمليات تطوير لمفهوم الفرهود لم تكن محط اهتمام الاعلام او الباحثين او حتى المهتمين بحقوق الانسان، فقد تطورت الامور والآليات من تعرض عشرات الآلاف من اليهود الى السلب والنهب الى عشرات الملايين من كل العراقيين وعلى معظم مساحة البلاد حيث وصلت مستويات الفرهدة ( وهي مصطلح اكثر حداثة من الفرهود ) الى عملية اكثر شمولية واتساع اطلق عليها اسم الحواسم الشهيرة التي طالت كل شيئ على الارض وباطنها وفضائها، حيث تعرضت هذه المرة كل البلاد باستثناء اقليم كردستان الذي كان يتعرض طوال تاريخه الى كل انواع الفرهدة والتحرير على طريقة الرفاق حينما كانوا يداهمون القرى والاحياء بحثا عن السلاح والهاربين والعصاة فيحملون في طريق مداهمتهم وتفتيشهم ما خف وزنه وغلا ثمنه؟
ويقينا ان عمليات الفرهود لم تكن حصرا على العراقيين فقط، حيث شاهد الملايين من الناس عمليات الفرهدة التونسية واختها المصرية أبان انتفاضتيهما حيث تعرضت البلاد في اول الامر الى عمليات نهب وسلب محدودة، ويبقى الفرق بين الاثنتين وشقيقتهما هنا في العراق ان الدولة لم تكن منهارة تماما كما حصل حينما دخلت القوات الامريكية الى البلاد واحتلت العراق، واخيرا لن ينسى الامريكان كيف تعرضت ولاية سان فرانسسيكو قبل سنوات الى عمليات نهب وسرقة كبيرة طالت معظم محلات ومخازن المدينة حينما انقطع التيار الكهربائي عنها لساعات فقط، ومن هنا نستنتج ان كثير من عمليات النهب والسلب تحصل حينما تفقد الدولة قدرتها او تنهار مؤسساتها فتظهر مجاميع اللصوص وقطاع الطرق وتفعل فعلتها، الا ان ما يجري من فساد ونهب وسلب وفرهدة من خلال مؤسسات الدولة انما جاء امتدادا لتلك المهرجانات من استباحة الأموال العامة والخاصة امام اصحابها بل وعمليات القتل واحراق والابادة لما لا يستطاع حمله، كما كان يحصل في عمليات الفرهود في قرى كردستان العراق ابان السبعينات والثمانينات من القرن الماضي وما حصل في كركوك من عمليات الفرهود سيئة الصيت نهاية والخمسينات ومطلع الستينات من نفس القرن، وما حصل من جرائم بشعة اثر انتكاسة الانتفاضة في الجنوب 1991م، حيث غدت تلك الممارسات مدرسة لتخريج هذه المجاميع المتمرسة اليوم بامتصاص الأموال العامة في كل مفاصل الدولة وقنواتها، حتى باتت البلاد من أكثر بلدان العالم فسادا وفشلا في الأداء الاقتصادي والإداري.
وتبقى المصطلحات الثلاث: الفرهود وهو استباحة اموال الاهالي تحت انظار الحكومة او باشرافها، والحواسم نهب وسرقة الاموال العامة عند انهيار الحكومة، والفساد وهو الاثنين معا ولكن من خلال الدولة ومؤسساتها كما يحصل في كثير من الدول المصنفة بالفساد المالي والاداري، تبقى هذه المصطلحات تمثل تقهقر الدولة وفساد مؤسساتها ومن ثم ثلاثي انهيارها اجلا أم عاجلا.
التعليقات