نحن السوريون وغيرنا كثيرون يعرفون جيداً سوريا ما قبل 15 آذار، ذلك البلد الرازح تحت حكم حزب البعث منذ عام 1963 وحكم الأسد الأب والابن منذ 1970، بغض النظر عن دور هذا الحزب بعد انقلاب 8 آذار أو بعد السيطرة الأمنية عليه وعلى البلاد لاحقا، سوريا كانت مع شقيقتها البعثية، العراق، البلد القمعي لكل إنسان يتوق إلى الحرية، كانت بلد الأجهزة الأمنية بامتياز، وبلد تغص بالمعتقلين السياسيين، مئات الآلاف منهم ملئوا سجونها فلم تفرغ يوما من معتقلي الرأي والتواقين للحرية. كانت بحق بلاد قمعستان على حد تعبير الشاعر السوري الراحل نزار قباني.
على أن الذي ميز حال سوريا، هو أن هذا القمع الأمني اقترن بانتهاج سياسية إعلامية دعائية مجدت الرئيس وحزبه وإنجازاته الوهمية، و كرسوا لهذه السياسة كل وسائل الإعلام، المرئية والمسموعة والمكتوبة، هذا عدا عن حضور القائد في الساحات العامة في معظم المدن السورية من خلال تماثيله التي لم تكن تحصى، و صوره التي وزعت و علقت في كل محل ودكان وقاعة ومدرسة ومعهد وجامعة وحتى بعض المساجد والكنائس كانت تحتوي على صور الرئيس الراحل حافظ الأسد، التي أصبحت مألوفة لنا واعتدنا عليها..!. أرادت الأجهزة الأمنية أن يكون الأب القائد كالإله الذي يمشي على الأرض موجوداً في كل مكان، إنها سياسة الثقافة المستترة لترسيخ صورة القائد في عقول السوريين وذاكرتهم، وحتى الدفاتر والكتب المدرسية والورق النقدية كان لها نصيبها من صور الرئيس.
لا يبدأ الإنسان عادة بفهم السياسة بسن مبكرة ولكننا و من باب الافتراض و جدلا أن البعض يبدأ وعيه السياسي بالتشكل في ربيعه الخامس عشر، وبما أن الانقلاب الذي جاء بحافظ الأسد ( تسميه بروبغاندا النظام حركة تصحيحية ) كان قد حدث في عام 1970، وطالما أن نصف عدد سكان سوريا الآن أي حوالي 11 مليونا عمرهم أقل من 25 عاما على ذلك يكون عدد السوريين ممن بلغت أعمارهم 55 عاما و مادون ذلك حوالي 17 مليون سوري على الأقل، إذن كل السوريين الذين ولدوا بعد عام 1955 و قرابة 77 بالمائة من المجتمع السوري لم يسمعوا برئيس للدولة في حياتهم السياسية سوى بالرئيس حافظ الأسد و ابنه من بعده، كل هؤلاء لم يعرفوا على رأس السلطة في سوريا منذ بلوغهم مرحلة الوعي السياسي إلا الرئيس حافظ الأسد ووريثه السياسي، و لم يشاهدوا خلالها سوى صور الأب القائد أو صور ابنه تملأ كل الأنحاء و الزوايا و الجدران في سورية كدلالة لا تخطئ على معايشتهم نظاما أمنيا قمعيا كانت سمعته السيئة منتشرة في كل المنطقة، لكن على الرغم من هذه الحقائق المدعمة بالأرقام و رغم كل هذا القمع و التضليل و تشويه الوعي و قولبته، استطاع الشباب السوري إشعال الانتفاضة أولا على خوفهم الداخلي المزروع فيهم منذ ولادتهم و ثانيا على الواقع الآسن القمعي الفاسد كله بشموليته و كليته. انطلقت شرارة الثورة في 15 آذار بالعشرات أولا وأصبحت بعد ذلك بعشرات الآلاف ولم يعد الخوف يشكل أي حاجز عند شرائح شعبية كبيرة تتزايد أعدادها من أسبوع تلو آخر.لم يحد من ذلك سقوط أكثر من 1500 شهيد وإصابة الآلاف واعتقال عشرات الآلاف. بعد مضي 100 يوم على الثورة فشل النظام إلى حد بعيد في جر الثورة السورية إلى مستنقع العنف و رد الفعل على القمع الذي تتعرض له، الثورة السورية حافظت على سلميتها و لا طائفيتها بالرغم من كل محاولات النظام في إثارة النعرات الطائفية وتسليح أناس وإهانة آخرين وقتلهم، بل بالعكس كلما ازدادت أساليب النظام السوري قمعية ازدادت لحمة السوريين تماسكا و اتساقا و ألقا، و تعمق تضامنهم و ازداد رسوخا و صلابة.
فهل سيقتنع النظام أخيرا بفشل سياسة التفرقة و عقم حله الأمني القمعي، وهل سيستمر السوريون بالتماسك حول بعضهم، بكافة أطيافهم ومذاهبهم حتى تتحقق كل مطالب ثورتهم السلمية؟ كل الدلائل تشير إلى ذلك، وهذا ما سيعطي الانتفاضة السورية سماتها الخاصة و الاستثنائية و يضمن لها النجاح.
- آخر تحديث :
التعليقات