المجتمع الانساني شهد بمراحل زمنية متلاحقة ارساء منظومة اخلاقية لتنظيم العلاقات وقد كانت للاديان الدور الرئيسي في انظلاق مكونات هذه المنظومة، ولكن مع تطور الحياة وارساء النظام الديمقراطي وتوثيق الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للانسان، اتسع اطار المنظومة الاخلاقية للمجتمعات ليشمل مساحة واسعة من المفردات التي تتحكم بمسار الحياة في عالمنا المعاصر.

ولا شك ان المنظومة الأخلاقية في العالمين الشرقي والإسلامي تعاني وضعا مترديا من الناحية المنهجية والتطبيقية مع نقص كبير في الجوانب الفكرية والنظرية والبحثية، وتعود اسباب هذا التردي الى استبداد وطغيان الأنظمة السياسية وغياب البنيان التنموي للانسان وترسيخ الواقع الطبقي بين مكونات المجتمع وفقدان العدالة واحتكار السلطة والمال والثروة من قبل أقلية متسلطة على الشعب، والاتكال على النظم التقليدية وفشل المناهج التربوية, وتخبط التيارات الدينية واشاعة مفاهيم غيبية غير واقعية بعيدة عن المدنية والعقلانية، وفرض المصالع التجارية والمالية والاقتصادية والمنافع الشخصية على الالتزام الاخلاقي، وسيطرة النزعة الاستغلالية والجشعية على القيم والمباديء من قبل الفئات السياسية التي تسير السلطة في ادارة الدولة، ونتيجة لهذه الاسباب ترتب نفاذ الفساد بعمق شديد الى داخل المكونات والهياكل الهرمية لما يسمى بكيان الدولة.

والعراق في واقعه الراهن علامة بارزة وعلى موقع متقدم لانهيار المنظومة الاخلاقية ومنها الفساد المستشري الذي جعله ان يتربع على مستوى عالمي كما يؤشر اليها مؤشر التصنيفات السنوية لمنظمة الشفافية الدولية، وهذا دليل واضح على انهيار منظومة الاخلاق داخل بنية الدولة العراقية وداخل الفئة السياسية الحاكمة للسلطة على مستوى السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهذا يعني افتقار أهل الحكم وعلى رأسهم الرئاسة والحكومة والبرلمان في العراق الى ابسط قيم الاخلاق التي يلزم توفيرها لدى القائمين بالمناصب والمواقع الرسمية.

ونتيجة للممارسات والسلوكيات النابعة من فساد مطلق لأهل السلطة والاطراف السياسية والكتل البرلمانية يمر العراق بمرحله انهيار خطيرة بمنظومة الاخلاق التي تتحكم بالدولة، ولو استمر الحال على واقعه سنشهد انهيارا كاملا لبنيان الدولة والمجتمع العراقي، وقد يلحقه انهيار تام للامة العراقية.

ويقينا عندما تنهار المنظومة الأخلاقية للدولة والمجتمع تصبح الأمة معرضة لشتى أنواع المصائب والويلات وأخطرها الانهيار الكامل لبنية المجتمع، والمنتفعون من حالة التحكم بالعملية السياسية لادارة السلطة في بغداد لا يهمهم المنظور المستقبلي للعراقيين وهم متربصون للاستفادة بشتى الاساليب والطرق من الابواب التي فتحوها وسيطروا عليها داخل حلقات السلطة بالعراق ويتحينون الفرص من أجل الإنقضاض عليه واستغلاله لنهب خيراته وامواله وثرواته وممتلكاته بطريقة مباشرة وبعيدا عن الطرق الغير المباشرة التي حدثت بالأنظمة السابقة وفي الموجات الإستعمارية الماضية للسيطرة على موارد ومقدرات الدولة المستعمرة مثلما شهده العراق ابان عهد الاحتلال البريطاني.

والحقيقة المرة، اني اعلل هذا الانكسار الشديد للمنظومة الاخلاقية للدولة بالهزيمة النفسية للوطنية والمواطنة العراقية التي فقدت اي معنى لها داخل المنظومة الحياتية للانسان في البلاد، وهذه الهزيمة استقرت في وعي الأغلبية وترسخت الاحساس بالدونية في محلها وعدم القدرة على تقديم كل ما هو ايجابي وفقدان المنافسة على الخير والعمل الطيب والاستحقاق الانساني، وهذه الحالة أوصلتنا إلى مرحلة الخضوع والاستسلام التام للفساد ورفع الراية البيضاء أمام التفوق الكاسح للسلطة السياسية الفاسدة وكأن ما يحدث للأمة العراقية ولأبنائها قدر محتوم لا سبيل لدفعه أو الخلاص منه.

وبالتأكيد فان المسؤولية المباشرة عن هذه التبعية القاتلة تقع على الفئات السياسية الفاسدة الحاكمة في العراق وارساء الهزيمة النفسية هو الانجاز الأكبر والمكسب الأعلى لأعمال هذه النخبة المنتخبة التي تتحكم بالسلطة، لكن اتخاذ الموقف الوطني لمجابهة هذه الفئة الفاسدة للحكم يقع على عاتق العراقيين، وبالأخص منهم المكون الشيعي الذي رضي بطغيان وفساد ممثليهم في السلطة، وهذا ما جعل ان يقع هذا المكون اسيرا تحت مخالب عالم الفساد والنهب والانتفاع الذاتي الذي ارساه النخبة الحاكمة لهم من خلال سحقها لكل المقومات الأساسية للمنظومة الاخلاقية التي تتحكم بادارة الدولة، والمشكلة ان المكون الشيعي فضل الاتكالية على الاعتماد على الذات وتناسى كل ما يرتكبه ممثلوهم في الحكم من فساد مالي وسلطوي مطلق مقابل الولوج العاطفي المطلق في الشعائر والمراسيم الحسينية والسقوط الكامل داخل النهج السلبي للمذهبية الطائفية الشيعية، وهذا ما سبب ابعاد هذا المكون الحيوي الهام داخل النسيج العراقي عن الجد والعمل والإنتاج والابداع وهي المقومات الرئيسية التي تبنى عليها المنظومة الاخلاقية للمجتمع والدولة، ونتيجة تراكم الافرازات السمية للفساد الاستبدادي والاستعبادي للسلطة وافرازات عملية الغياب القسري للحضور الحيوي المنتج للمكون الشيعي، تغيب أيضا الحضور الحيوي المنتج للمكون السني وكذلك للمكون الكردي ولكن بنسبة أقل، وبالتالي تمكنت السلطة الفاسدة بدعم وتخطيط مع سبق الاصرار من مكنوتاتها السياسية من تحويل تلك المكونات المجتمعية الى مجتمعات استهلاكية وفوهات قاتلة لقمع الانتماء والالتزام والصدقية والجدية والعمل والابداع والاستحقاق الانساني والوطنية والمواطنة الصادقة، وبالتالي تعميم الفساد المطلق بشتى انواعه داخل مفاصل الحياة وارساء انهيار شبه تام للمنظومة الاخلاقية للدولة والمجتمع العراقي.

وهنا لابد من الاقرار ان ما يحدث داخل الدولة هو استلاب فكري وحضاري ومحاولة جادة لمسخ الهوية العراقية عن طريق التغييب المتعمد للمقومات والممارسات والسلوكيات الايجابية والوطنية وإقصائها تماما من النهج الرسمي العام للدولة، وهذا الأمر يشكل خطورة بالغة على حاضر ومستقبل الأمة العراقية ولذلك يجب أن نشدد على النهوض بصرخة وطنية وصحوة سلمية مدنية لجميع العراقيين قبل فوات الأوان للعمل على تصحيح المسار ومعالجة الانحرافات في الحالة التي وقعنا فيها بعد سقوط صنم الطغيان والتي أدت إلى حدوث تحرر للانسان العراقي ولكن مع تحولات غير مرغوب فيها اطلاقا أدت الى مآسي ومعانات كثيرة بفعل فساد السلطة.

لهذا ولأجل الحفاظ على الهوية العراقية الوطنية ينبغي الدعوة الى اطلاق الربيع العراقي ضد الفساد مع الحفاظ على العملية الديمقراطية التي يسير عليها البلد، وينبغي ايضا أن نسعى جاهدة لإبراز السمات والخصائص الايجابية والعملية والابداعية التي تميز الشخصية العراقية لكي يتمسك بها الجميع من النشء والشباب والشيوخ وتكون مدعاة للفخر والاعتزاز، وأن نجعل من هذا التحول سببا لاحداث تغيير نوعي في العملية السياسية من خلال اختيار افراد وقيادات مخلصة للدولة حتى لا نقع في حبائل الفساد الأعمى للفئة المنتفعة التي وصلت الى الحكم بالانتخابات بفعل امكارها.

خاتم القول نقول من أجل ان نضمن عراقا حرا للجميع لا بد من تغيير، وما من تغيير في الانفس واعمال الأمة الا بفعل تغيير من داخل العراقيين، وخير ما نختم به المقال قول الله تعالى quot;إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْquot;.

كاتب صحفي
[email protected]