احد القواسم المشتركة للانظمة العربية القمعية التي تقوضت تحت ضربات الثورة المجيدة التي قام بتفجيرها جيل الشباب، هي ثقافة الفساد، فقد تلازم القمع وغياب الحريات واهدار حقوق الانسان، مع تنامي ثقافة الفساد وهيمنتها على اجواء هذه الانظمة، حتى صارت ملمحا اساسيا من ملامحها ومكونا من اهم مكوناتها، وربما كانت ايضا اخطر العوامل التي جلبت عليها نقمة الشعوب، مع ان اهوال هذا الفساد لم تظهر على حقيقتها الا مع تداعي وتقوض هذه الانظمة، لانها وصلت في كثير من هذه الاقطار الى احجام مهولة ووصلت المبالغ المنهوبة الى ارقام فلكية، ولعل الايام القادمة سوف تكشف لنا ان اكثر هذه الارقام وهذه الاحجام التي وصلها الفساد وسجل خلالها مستويات قياسية هي عمليات النهب والسطو الاجرامية التي قام بها اعضاء الاسرة الحاكمة في ليبيا والعصابة التي عملت معها، نتيجة لسببين اثنين اولهما توافر ليبيا على ثروة نفطية وثروة في موارد الغاز جعلتها الدولة الاغني في قارة افريقيا، وثانيا طول عمر النظام الذي وصل الى اثنين واربعين عاما من حكم الاستبداد والطغيان ونزوات الحاكم الفرد الذي لا شريك له في اتخاذ القرار، والذي استحوذ هو وافراد اسرته استحواذا كاملا على ثروات البلاد ومقدراتها واستباح حرمات اهلها واعمل فيهم قتلا وافقارا واهانة، وقمعا لكل حركة تحاول المطالبة بالعدل والانصاف.
وتظهر التقارير التي صدرت عن مؤسسات دولية تلاحق الفساد والمفسدين، ان اموال الشعب الليبي التي نهبتها العائلة الحاكمة تصل الى مئات المليارات من الدولارات، وقرأنا في الايام الاخيرة حديثا للسيد عبد الرحمن شلقم يتهم فيه رئيس الحكومة المنهارة في اخر ايام القذافي، البغدادي المحمودي، والمشهور بين الناس باسم لص بغداد، بان سرقاته وصلت الى ثلاثين مليار دولار، ولم يكن هناك مسئول كبير في اخر وزارات القذافي لم تطاله الاتهامات بسرقة المال العام، واحيانا كان القذافي نفسه، وهو الذي يبيح هذا الفساد ويحرض عليه، يستخدمه كوسيلة لمحاسبة ازلامه ويقدمهم للمحاكمة عندما يريد تاذيبهم او يشك في ولائهم له، وقد سبق ان قدم للمحاكمة وزيرا للمالية اسمه محمد بيت المال وبعد ان صدر حكما عليه بالسجن، اصدر عفوا عنه وقام بتعيينه رقيبا على المال العام، ليصدق فيه المثل الشعبي الذي يقول quot; حاميها حراميها quot;، كما انه يطلق تسمية الامناء على هؤلاء اللصوص زيادة في الفجور والزيف، وكان يمكن النظر بشيء من الفهم والاستيعاب لطبيعة هذا الفساد، لو انه بقى في هامش صغير، واقتصر على الفائض من الدخل، بعد سد حاجات الناس الضرورية، او ظل محصورا في نسبة الواحد في المائة لاهل الادارة يتقاضونها عن كل عقد من العقود الكبيرة، كما يحدث في عديد البلدان، ولكن النهب في ليبيا لم يكن يرتضي الا الاستيلاء على كل الثروة وحرمان المواطن من ابسط حقوقه المالية، الى حد صار معه المواطن في هذه الدولة الغنية، يعاني كل مظاهر العوز والفقر، بل ان هناك احصائيات وتقارير دولية تثبت ان اغلبية الشعب يعيشون تحت خط الفقر، رغم الموارد النفطية والاموال الموظفة في محافظ وصناديق استثمار عبر العالم، التي تضع البلاد في مصاف اكثر البلدان دخلا في العالم.
وكان هذا المواطن الليبي، البائس، يقرأ في الصحف ويسمع ويشاهد في وسائل الاعلام عن السفه والبطر واسلوب الحياة الباذخ الذي تعيشه جمعية المنتفعين، والاسراف في الانفاق الذي يقوم به اطفالهم، وحفلات المجون والفسوق التي يقوم بها انجال الطاغية واقاربه في مختلف عواصم العالم، بما يربي في نفوسهم الحسرة والالم، وينبت النقمة والشعور بالحقد والكراهية لهذا النظام وازلامه، وهو ما صنع في خاتمة المطاف مناخا صالحا لاشعال فتيل الثورة وتأجيجها ووصولها الى مراحل النجاح في الاطاحة بالطاغية ونظامه الكريه.
واضيف الى هذه الحقائق عن ثقافة الفساد، حقيقة ان ما حدث من نهب لثروات الشعب الليبي بهذا الشكل الفاحش الذاعر، قد ترك قطاعات كثيرة من الشعب تبحث عن الاحسان و الصدقة، واوصل افرادا من الشعب يعانون المرض الى حد لا يجدون معه العلاج، لان النظام عامدا متعمدا سعى الى تدمير المؤسسات الصحية للمجتمع بكل مستوياتها وصار يتعذر احيانا وجود شاش نظيف لربط الجرح او ابرة جديدة لحقن العلاج وهي التي لا تساوي اكثر من مليم او او اثنين، في سياسة ممنهجة لقتل الليبيين، ولا خيار للمواطن الذي يريد ابسط الخدمات الطبية الا ان يدبر مبلغا يوصله الى خارج البلاد، وليس كل مواطن يستطيع تدبير مثل هذا المبلغ فلا يجد مناصا من ان يبقى في بيته يتحمل المعاناة والالم او ينتظر الموت، وهو الامر الذي ضاعف من تبعات هذا الفساد وجعل له ضحايا تصل اعدادهم الى مئات الالاف من القتلى. وجريمة الفساد والافساد، لا نريد اليوم وبعد ان تقوض النظام ولفظ اخر انفاسه، ان نتبعها بجريمة اخرى في العهد الجديد، هي جريمة السكوت عن هذا الفساد والاهمال في ملاحقة فاعليه، بل يجب منذ الان انشاء مؤسسة قانونية ذات افرع محلية ودولية، ووضع شروط حازمة جازمة لمحاسبة هؤلاء المفسدين، واستخدام كل الوسائل السياسية والقانونية والضغوط الاقتصادية لاسترداد الثروات المنهوبة من ارزاق الشعب الليبي وخزينته العامة، والزام الدول التي لجأوا اليها والمصارف التي اودعوا فيها اموالهم باعادتهم للمثول امام القضاء واعادة كل دينار سرقوه من اموال الشعب.
ونحن جميعا نعرف ان بعضهم عمد الى الهروب الى الامام ملتحقا بالثورة في الايام الاخيرة للنظام، بعد ان ايقن بحتمية انتصارها، لتوفير غطاء لما نهبه من اموال، واذا كنا نعرف السيد موسى كوسه بسجله الاجرامي وحجم الثروات التي قام بنهبها، مما لا مجال لان يعفيه من المحاسبة والملاحقة رغم انشقاقه المبكر، فان هناك اخرين اقل شهرة واكثر قدرة على التنكر، بسبب خمول ذكرهم وقلة مراتبهم الوظيفية رغم طول باعهم في اللصوصية، ممن اعلنوا هم ايضا انشقاقهم بل ووصل بعضهم الى تحقيق موقع في المجلس الانتقالي، مثل حالة من الحالات، واظنها حالة نادرة ومعزولة، عندما رايت شخصا يظهر على التلفاز، يقدمه المذيع باعتباره عضوا في المجلس الانتقالي عن احدى المدن المحاصرة في ذلك الوقت، فاذا به ذات الشخص الذي اعرف من خلال شهود عيان، انه انتهز فرصة الثورة اثناء وجوده مسئولا على احدى الشركات العامة، وسرق خزينة تلك الشركة التي بلغت كما قال لي احد العاملين معه عشرين مليون دولار، احالها الى حسابه الخاص في احد المصارف بالخارج واخذ الطائرة الى مصر ومنها الى بنغازي ليقول انه من الثائرين ضد النظام. وقد ابلغت بهذه الحالة اكثر من صديق قريب من المجلس، وابدى لي احد الشهود على هذا اللص استعداده للشهادة اذا طلبت منه. نعم، هذا مجرد مثل، على احد اللصوص الصغار، ولكننا نعرف اللصاص الكبار الذين هربوا باموالهم ولحقوها في دول الغرب، واعتقد ان التجربة المصرية التي سبقتنا بعدة اشهر، يمكن الاستفادة منها، فقد انشات مصر عشرات اللجان القضائية، التابعة لهيئة قضايا الدولة وهيئات اخرى، واستخدمت الوسائل الديبلوماسية ومؤسسات الدولة السياسية والدبلوماسية في ملاحقة هذه الاموال وملاحقة اللصوص الذين لحقوا بهذه الاموال من رموز النظام المنهار، وبدات في تحقيق بعض النجاحات.
نعم، لا هوادة ولا مهادنة ولا اهمال ولا ارجاء، لمثل هذه المهمة التي هي واحدة من اهم الواجبات الوطنية، واحدى اهم الاستحقاقات التي تطالبنا بها دماء الشهداء الذين بذلوا ارواحهم في سبيل استعادة ليبيا المخطوفه الى اهلها، واعادة الحقوق المنهوبة الى اصحابها، والله ولي التوفيق.
- آخر تحديث :
التعليقات