إن جاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير المصرية بالأحسن فألف أهلاً وألف سهلاً بها ولكن إن أتت بالأسواء فلا أهلاً ولا سهلاً بها. هكذا كنت ومازلت أعتقد. ليس من المنطقي أن تزيل ثورة نظاماً شمولياً فاسداً لتأتي بنظام عسكري أو فاشي أو عنصري أو ديني أكثر سوءاً. لم يشاركني رأيي إلا أقل القليل لأن الجميع ظنوا أنه لن يكون هناك دكتاتوراً أسوأ من حسني مبارك أو نظاماً أكثر قمعاً من نظامه. ودارت الأيام ومر عام على الثورة التي وضعت مبارك ورموز نظامه خلف القطبان. ثَبُتَ خلال الفترة الماضية أن البديل الذي جاءت به الثورة لم يكن أبداً أفضل من النظام السابق. فقد جاءت الثورة في البداية بالعسكر الذين قضوا سنة كبيسة في سدة السلطة ارتكبوا خلالها جرائم يعاقب عليها القانون الدولي. ثم جاءت الثورة بمجموعات دينية فاشية متطرفة لتستولي على الغالبية العظمى من مقاعد المجلس التشريعي. يعود الفضل لثورة يناير في أن أصبحت الجماعة الدينيو التي تبنت الفكر القطبي المتطرف تحظى بنحو نصف مقاعد البرلمان. وبالمثل يعود الفضل للثورة في أن أضحت المجموعات التكفيرية التي لا تتوقف عن إهانة العقائد التي تختلف عن الإسلام تشكل ربع أعضاء المجلس المنوط به إعداد الدستور المصري الجديد. وأيضاً يعود الفضل للثورة في أن المجموعات الجهادية التي قتلت الرئيس السادات وحاربت الأقباط وقتلت الألاف من الأبراء طوال عقدي الثمانينيات والتسعينيات باتت تتمثل بقوة في الحياة السياسية الرسمية في مصر.
لم يكن أكثر المتشائمين ممن ساندوا ثورة الخامس والعشرين من يناير يتوقع فوز التيارات الإسلامية بأكثر من ثلاثين بالمائة من أصوات المصريين. بشّر الكثيرون ممن قاموا بالثورة وساندوها بفكرة مصر الجديدة المدنية القادرة على الانتقال من العهد الدكتاتوري إلى العصر الديمقراطي الحديث حتى صدقتهم القوى الداعمة للحريات المدنية والحقوق الإنسانية في مصر والعالم. وحين أُعلِنت نتائج الانتخابات عللت الأحزاب المدنية فشلها في الفوز بنصيب جيد من مقاعد البرلمان بقصر الفترة التمهيدية التي كان يفترض خلالها الإعداد للانتخابات. لم يكن التعلل بقصر المدة الانتقالية إلا حجة واهية لتبرير ماء الوجه. كان السبب الحقيقي وراء ضعف أداء الأحزاب المدنية في الانتخابات ومن ثم الهزيمة المدوية لحلم مصر المدينة هو التطرف المخيف الذي انتشر بين المصريين في العقود الأربعة الماضية.
لا يساورني الشك في أن كل رَوَّجوا لحلم مصر الجديدة الأحسن حالاً انخدعوا في حال المجتمع المصري. إنخدعوا فيه إما لأنهم لم يعرفوه ويفهموه جيداً أو لأنهم كانوا معزولين تماماً عنه. فقد شهد المجتمع المصري تحولاً كبيراً منذ أن أطلق الرئيس الأسبق أنور السادات يد الإسلاميين، إذ انتقل ليصبح أقرب للتشدد والتزمت الدينيين منه للاعتدال والتسامح. كانت كل العلامات والدلالات الواردة من المجتمع المصري في السنوات الأخيرة تؤكد على أن التطرف الديني الأحمق نخر بسوسه في العمود الفقري للمجتمع الذي يمثله عامة المصريين البسطاء الأميين في المدن الصغرى والقرى والنجوع. كانت الهجمات التي قام بها أهالي، وليس تنظيمات متطرفة، ضد الكنائس وممتلكات الأقباط في مئات الحوادث الطائفية في السنوات الأخيرة دليلاً على أن التطرف والعنف لم يعدا مقتصرين على أعضاء الجماعات الإرهابية كالجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد وتنظيم التكفير والهجرة وغيرهم. كانت دليلاً على أن الترف والعنف انتشرا بين العامة.
من المؤسف أن التيار الليبرالي المصري كان من أول من ابتلع طعم الثورة وانخدع فيها. لا يمكن بأي حال من الأحوال تبرير انخداع الليبراليين في ميول المصريين، ولا يمكن كذلك تبرير ظنهم بضعف نفوذ التيارات الإسلامية في المجتمع المصري، ولا يمكن أيضاً تبرير اعتقادهم بأن مجرد رحيل مبارك سيكون نقطة انطلاق مصر إلى الديمقراطية والحرية والمساواة والعدل وحقوق الإنسان. قاد جهل الليبراليين المصريين بحال مجتمعهم إلى استعدادهم للتحالف مع الشيطان لإسقاط نظام مبارك الدكتاتوري. وقد فعلها الليبراليون حين تحالفوا مع التيارات الإسلامية المتطرفة وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين في تنظيمات مثل حركة كفاية وجماعة السادس من أبريل وغيرهما. ضمت المجموعات التي انخدعت في حال المجتمع المصري شخصيات ورموز مهمة. كان من هؤلاء رئيس هيئة الطاقة الدولية السابق محمد البرادعي، الذي كان يسعى بصورة شخصية لإسقاط نظام مبارك للانتقام منه ومن رموز نظامه الذين لم يدعموه في انتخابات هيئة الطاقة الدولية. ومن هؤلاء أيضاً الأمين العام الأسبق للجامعة العربية عمرو موسى، والدبلوماسي الذي عمل سنوات طويلة إلى جوار مبارك مصطفى الفقي، والإذاعي حمدي قنديل، والكاتب وحيد عبد المجيد، والروائي علاء الأسواني، والمخرج خالد يوسف، والممثل عمرو واكد وغيرهم من قادة الأحزاب المصرية المدنية والمثقفين.
أثبتت الأيام والشهور التي تلت ثورة الخامس والعشرين من يناير غياب الرؤية السليمة عن التيارات الليبرالية المصرية. وأكد العام المنصرم على مدى عمق توغل الإسلاميين بين المصريين. حصل الإسلاميون وحدهم على ما يزيد عن ثلاثة أرباع أصوات القوة الانتخابية. وأكمل المتحالفون مع الإسلاميين كالوفديون والوسطيون نسبة تسعين بالمائة من الأصوات التي ذهبت إلى القوى المعادية للدولة المدنية. وعليه لم يتبق لليبراليين إلا ما لا يقل عن عشرة بالمائة. ولعل هذه النتائج تؤكد على أن الليبراللين لم يكونوا إلا المصعد الذي صعد به الإسلاميون إلى السلطة في مصر.
كان الليبراليون الواجهة التي استخدمها الإسلاميون في الثورة على نظام مبارك. يخطيء من يقول بأن الليبراليين هم من أسقطوا مبارك وأن الإسلاميين ركبوا الموجة. من يدرس التاريخ يدرك ألاعيب جماعة الإخوان المسلمين ويعرف أنهم لم يكونوا ليواجهوا مبارك ما لم يتأكدوا من هشاشة نظامه. وكان الليبراليون بالفعل هم من اختبروا هشاشة نظام مبارك وأكدوا عليها في أحداث بدأت في العمرانية في نوفمبر 2010، ثم بعد ذلك في المظاهرات التي تلت مذبحة كنيسة القديسين بالإسكندرية، وأخيراً في مظاهرات الخامس والعشرين من يناير. وحين تأكد الإسلاميون من ضعف النظام نزلوا في الثامن والعشرين من يناير وأسقطوا قوات أمن مبارك ومن ثم نظامه بالكامل.
لقد نقلت ثورة الخامس والعشرين من يناير مصر من مستنقع النظام الدكتاتوري إلى وحل الدولة الدينية. وإذا ما مضى الإسلاميون في تنفيذ مخططهم بتطبيق الشريعة الإسلامية والسعي لإعادة دولة الخلافة فلن تصبح الحقوق السياسية وحدها هي الحلم الذي يراود عشاق الحرية في مصر، كما كان الحال في عهد مبارك. سيحلم عشاق الحرية غداً وفي المستقبل القريب وربما البعيد أيضاً بأبسط حقوقهم الإنسانية التي سيحرمهم الإسلاميون إياها. ستسقط حقوق المرأة بالكامل وستتنقب النساء وتتحولن رسمياً وبحكم الدستور المتشدد المنتظر إقراره إلى أدوات جنسية لمتعة الرجال. ستتوارى تماماً الأقليات وستصبح مصر أحادية الدين والفكر والاتجاه. سيتحول المسيحيون إلى جالية غريبة منبوذة ينعم عليها الإسلاميون بنعمة العيش إذا ما دفعوا الجزية. ستسقط منارة الإبداع سحتجب أبو الهول ورمسيس وتوت عنخ أمون أمام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ستخفت أصوات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ. سيندثر الفن ويعمل المخرجون والممثلون، وبالطبع ليس الممثلات، في الأعمال الدرامية التي تمجد الجهاد والعنف. ستستعر الحروب في منطقة الشرق الأوسط حين يبادر الإسلاموين في مصر بمعاونة إسلاميي الدول المجاورة في إزالة إسرائيل من الوجود.
أشفق كثيراً على الأقلية المسكينة من المصريين، هؤلاء انخدعوا في ثورة شاركوا فيها ظناً منهم أنها ستبعثهم من جديد إلى الحياة الإنسانية بعد عقود طويلة من الحرمان من حقوقهم الآدمية. أتعاطف كثيراً مع البسطاء ممن انخدعوا في ثورة الخامس والعشرين من يناير ونتائجها وفوجئوا بأن الحاضر أسوأ الماضى وأن المستقبل لن يمنحهم ما طالما تمنوه لهم ولوطنهم. أشعر كثيراً بالمرارة التي في حلق من يرون حلمهم الكبير، بمصر ديمقراطية حرة مستقرة، يتحطم أمام الوحش القبيح المتعاظمة قوته باسم الدين. صدّق البسطاء الصوت الثوري المبشّر بأشعة النور قبل أن تنكسر آمالهم على واقع غارق في ظلام دامس. وعد المهللون بالثورة بأن مصر الجديدة لن تنظر أبداً إلى الوراء، لكن نتائج الانتخابات أكدت أن مصر الجديدة قديمة جداً وتعود بعجلة الزمان قروناً إلى الوراء. زف المستفيدون من الثورة أخباراً مفادها أن مصر الغد ستحترم وتقدر أبناءها، ومرة أخرى تبين للبسطاء أن الأبناء الذين يتحدث عنهم المستفيدون هم فقط من ينتمون إلى عقيدتهم وفكرهم وجماعتهم. قال الثوريون أن الخوف من بطش السلطات الحاكمة الذي عرفه المصريون منذ انقلاب العسكر في يوليو 1952 لن يعود له مكان في مصر، ولكن نظرة في وجوه من فازوا في الانتخابات التشريعية تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن القلق لن يبرح مكانه في القلوب في القريب العاجل.
[email protected]
التعليقات