(من يأخذ قبضةً من جواهر ببرهةٍ من حبْ؟)

جبران خليل جبران

على الرغم من قصر هذا الجسر، فقد فشل الإنسان كثيراً في بنائه ومد اوصاله. هذا مع كل نجاحات الإنسان في اختراق الفضاء الخارجي حتى صار يأمل في ان يُعلن عن سفرات الى الكواكب المحيطة بنا، ونجح بعملية انجاب من غير( اقتران) بين ذكر وأنثى، حيث شهد العالم ولادة النعجة (دولي)، ناهيك عن الفتوحات العلمية الهائلة في مجال الالكترونيات والرقميات ( الدجتال ) حتى قيل، ان ما أنجزه الإنسان في الخمسين سنة الأخيرة يتفوق على كل منجزات البشرية من يوم وجدت والى ما قبل هذه السنين الخمسين.

اذن أين هذه المسافة التي عجز الإنسان أن يجسرها؟ إنها المسافة بين العقل والقلب، كثيراً ما نحكّم عقلنا وننسى قلبنا فتأتي احكامنا احياناً جافة تفتقر الى الروح والمرونة والإنسانية، فالعقل الذي يقع على احد طرفي المسافة غير المجسورة هو الذي صنع ما ذكرناه تواً، من انجازات رائعة وعملاقة، ولكن بنفس الوقت صنع ويصنع اسلحة الدمار الشامل، حتى وصل الخزين من المواد التدميرية ما يكفي لنسف الأرض ومن عليها اكثرمن مرة. وكم كانت معاناة الانسان من هذه الأحادية والعيش ضمن مقاسات الأرقام والإنهماك في حسبات الربح والخسارة التي فقد فيها الكثير من نفحات الروح وعطاءات الحب. فالحركة التي تتمثل في وجود الكون هي حركة حب، كما يراها quot; إبن عربيquot;. وبما ان المسافة بين العقل والقلب غير موصولة فمن كانوا على الجانب الآخر، أي (صوب العاطفة)هم ايضاً مصابون بخلل فادح، حيث انهم لم يعطوا العقل حقه وجعلوا القلب والعواطف هي البدائل عن العقل، واعطوا العقل اجازة ممدودة غير محدودة، وحلّقوا فوق الواقع وتجاوزوا قوانينه التي لا ترحم من يتجاوزها ويتعدى حدودها، ولأن العواطف لا تمنحنا الصورة الحقيقية للواقع ولا الحجم الطبيعي لمشاكلنا كما يشخصها العقل، عندها نعجز ان نضع الحلول الناجعة، فدروس الواقع هي الأكثر مصداقية من غيرها، ومن لا يستطيع ان يقرأ الواقع بعقلانية لايستطيع ان يتعامل معه بشكل عملي وناجح. حتى الشرائع السماوية أولت الواقع اهتماما واضحا، فهذا القرآن الكريم يؤكد هذه الحقيقة، حقيقة الأخذ بالواقع وعدم تجاوزه، وما تنزيله (تنجيما) على مدى ( 23 ) سنة من العمر المبكر للاسلام الاّ تأكيدا كسببٍ مهم من الأسباب على حرص السماء لجعل الرسالة قريبة من مجريات الحياة وما يحدث على الأرض، وذلك لترسيخ الجدلية بين النص المنزل والواقع بتفاصيله الحياتية المعاشة وسياقاته الطبيعية، سواء البشرية او غيرها من امور الكون ذات الصلة بالإنسان و قضاياه. فالسماء أنصتت لقول ( خولة بنت ثعلبة ) حين تحدثت مع رسول الله (ص) عن زوجها (أوس بن الصامت) في امرٍ ملتصق بجزئية من واقع حياتهما، فجاء النص السماوي معقباً : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) (1)\ سورة المجادلة. وسميت السورة بإسم (المجادِلة)، اي بإسم حِراك واقعي اجتماعي. فما كان النص متعاليا على الواقع او مفارقاً له، بل كان منحازاً صوبه، وملامساً لتضاريسه، مندكاً بتفاعلاته. فالرسالات السماوية لا تريد أن تصنع مدناً فاضلة ذات تصميم مسبّق تسبح في عالم المثل، بقدر حرصها على تصحيح وبناء واقعٍ مدني وإنساني، نسيجه من تطلعات الإنسان ومعاناته.