قد يقول قائل quot; مالك ولمصرquot;؟ وقد يصح القول وأنا الكاتب الكردي الذي يعيش بكردستان العراق منذ نعومة أظفاره، ولم يزر ولو يوما واحدا أرض الكنانة، فلم يشرب من نيلها، ولا تنسم هوائها، ولا عاشر أهلها.. وهو ينتمي الى شعب ذاق المر والهوان على يد شقيقه العربي في العراق، حتى وصلت جرائم نظامه العروبي المتسلط على رقاب شعبه الى حد إرتكاب العشرات من جرائم الإبادة البشرية بشهادة المئات من القبور الجماعية التي أكتشفت بعد زوال حكم الدكتاتور العربي. هناك محاولة من جماعات تحاول أن تشطب على تاريخ مصر، وتطمس وجهها الحضاري، بل تسعى لمسح هذا التاريخ الثر من ذاكرة الأجيال، فهل هذا هو ثمن الحرية والخلاص من الدكتاتورية.
قد يصح كل ذلك، لمن ينظر الى الواقع الحالي،وكردستان تكاد تنفصل تماما عن العراق وتعلن دولتها المستقلة. ولكن قد لا يدري كل هؤلاء الذين ربما يعتبرونني أحشر أنفي فيما لا يعنيني، بأنني وإن كنت أمضيت 57 سنة من عمري بكردستان، ولكني مدين لمصر من أخمص قدمي الى قمة رأسي.
فأنا من ذلك الجيل العراقي الذي قيل عنه بأنه يقرأ ما تؤلفه مصر وتطبعه لبنان، وبأنني تثقفت بثقافتي بما جادت به أقلام مصر من نتاجات عظماء كتابها، ومن روايات المبدعين من أدبائها،وما قدمه رواد فنها بمختلف إتجاهاتها. تلك الثقافة التي إنغرست بمسامات جلدي وتمازجت مع دمي،فكونت ثقافة أظل أفتخر بها، وأدين بها لمصر العزيزة.
فأنا ترعرعت مع السينما المصرية في ذلك الزمن الجميل،مع أفلام علي الكسار ونجيب الريحاني وأنور وجدي وإسماعيل ياسين وشكري سرحان ورشدي أباظة وفاتن حمامة وماجدة ومريم فخرالدين وعبدالغني النجدي وثريا فخري.وضحكت مع جمهور مسرح الريحاني على عادل خيري وماري منيب، وفؤاد المهندس وشويكار وسلامة الياس وحسن مصطفى وعبدالمنعم مدبولي ثم عايشت الجيل التالي عادل إمام ونيللي وسعيد صالح وأحمد زكي ومحمود عبدالعزيز وحسين فهمي ميرفت أمين ونجلاء فتحي، وصولا الى الجيل الحالي، أحمد حلمي ومحمد سعد والمبدع الراحل علاء ولي الدين والمئات غيرهم ممن يقدمون لنا عطاءات ثرة لا تنضب ولا تتوقف.
عندما شببت أقبلت بنهم على قراءة الأدب المصري، عرفت العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ ويوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس ومحمد عبدالحليم عبدالله، وتمعنت بتاريخ مصر من العصر الفرعوني الى العصر الإسلامي الى المماليك والعصمنلية وحكم محمد علي وأولاده، مرورا بثورات الشعب المصري في العصر الحديث.
تذوقت شعر أمير شعرائها أحمد شوقي، ودواوين إبراهيم ناجي، وذبت مع مونولوجات بيرم التونسي، وأشعار أحمد رامي التي كانت تحول الى أجمل الألحان على يد جهابذة التلحين رياض السنباطي ومحمد عبدالوهاب ومحمود الشريف وبليغ حمدي، وتنطلق من أجمل حنجرة ذهبية بتاريخ الغناء العربي للسيدة أم كلثوم. فمن يصدق بأنني أنا الشاب الكردي و في مقتبل عمري أحد أفراد البيشمركة الكردية في جبال كردستان، وكيف كنت أتوسل الى قائد فصيلتي لكي يضع نوبة حراستي الليلية في الساعة الثانية عشرة ليل الخميس من أول كل شهر لكي أفتح الراديو الترانسستور الصغير على صوت العرب من القاهرة لكي أستمع بشكل مباشر الى الحفلة الشهرية لأم كلثوم وأنا رابض بخندقي بجبال كردستان. من يصدق بأنني حفظت جميع أغنيات سيدة الطرب عن ظهر قلب وعرفت كتابها وملحنيها!.
من يصدق بأنني الطالب الكردي الذي لم يدرس اللغة العربية في مدرسته سوى لثلاث سنوات فقط وبمعدل محاضرة أو إثنتان في الاسبوع، ولكني قرأت جميع عبقريات العقاد وكتب طه حسين بما فيه الشعر الجاهلي، وقرأت عشرات الروايات لأدباء مصر.
من يصدق بأنني أنا الشاب الكردي المراهق كنت مشتركا بمكتبة مدينتي في جميع الصحف والمجلات الاسيوعية والشهرية المصرية،إبتداءا من الأهرام والأخبار والمصور وآخر ساعة، وإنتهاءا بالكواكب وروزاليوسف والهلال.
أنا مدين لمصر ولثقافتها التي غزت بلادي بالسينما والفن والغناء والأدب والصحافة، لذلك تراني مهموما أكثر من الكثير من مصريي اليوم على مصير هذا البلد، بقدر خوفي على مصير شعبي في ظل الهزات السياسة التي يشهدها بلدي العراق.
ماذا يبقى من مصر إذا شطب البعض ممن يتسيدون ساحتها السياسية اليوم على فنها وأدبها وصحافتها، ونتاجها الفكري الثر.
إنني أرتعب كل لحظة لما أسمعه وأراه وأتابعه من الأحداث التي تحصل في هذا البلد العزيز، ففي كل لحظة تعرض القنوات الفضائية صورا ومشاهد ووقائع وأحداث ترعبني وتؤرقني وتشي جميعها بمصير قاتم ينتظر هذا البلد الحبيب.
مصر كانت رائدة بوسطيتها الدينية، جميلة بتنوعاتها الفكرية والثقافية، زاهية بشواطئها،رائعة بعطاءات مفكريها وكتابها، مبدعة بنتاجات شعرائها، محبوبة ببساطة شعبها..
فأين أصبحت مصر اليوم.. بلاطجة يتحكمون بشوارعها.. أصحاب اللحى الطويلة يتبوأون مقاعد مجلس شعبها، منقبات لا يرى منهن حتى ما حلل الله أن يظهر من الكفين والوجه يتصدرن واجهات الأخبار.. السياحة التي كانت تدر ذهبا على مصر، أصبحت اليوم في خبر كان.. الإقتصاد المصري يترنح ويكاد ينهار بسبب عامل عدم الإستقرار..المواجهات اليومية بين قوات الأمن والجماهير تحتل صدارة عناوين الأخبار، وكأنهما عدوان يقتتلان، جرائم الإغتصاب والخطف و مداهمة المحلات أصبحت مظاهر يومية مملة..
لماذا لا ينظر المصريون الى تجربة العراق، وفداحة الضريبة التي قدمها شعبه جراء نشاطات فلول النظام السابق بسبب الأخطاء السياسيه التي إرتكبتها الأحزاب الدينية، ومن جاؤا معها على ظهر الدبابات؟..
لماذا لا ينظرون الى ما آلت إليه الأمور في ظل عدم إستقرار البلد،والصراعات التي تجددت بين الأحزاب الشيعية والسنية التي باتت تستحضر أجواء الفتنة الكبرى،وتثير الخلافات مجددا حول ما جرى بسقيفة بني ساعدة، وتتجادل اليوم حول أي من الصحابة كان أولى بخلافة النبي الذي إنتقل الى جوار ربه قبل أربعة عشرة قرنا أو يزيد؟!.
في العراق كادت الأحزاب الدينية أن تغلق المسارح ومعاهد الموسيقى ومدارس الباليه، وفي مصر يتعرض الفنان عادل إمام الى السجن بدعاوى كيدية وبأثر رجعي عن الأفلام التي قدمها لتعرية الإرهاب. فمن يضمن أن إسلاميي مصر سوف لن يخرجوا غدا جثة نعيمة عاكف لأنها رقصت في أفلامها، بل ويتجرأون حتى بإستخراج عظام طه حسين ليحرقوها لأنه كتب عن الشعر الجاهلي، فليس موقف الإسلاميين الحاليين من أديب مصر نجيب محفوظ ببعيد.
مصر سائرة نحو مستقبل مجهول، فهل هذا هو ثمن الحرية وثمار الثورة التي كادت أن تكون نبراسا لجميع أبناء الأمة يقتدون ويهتدون بها لتخليص أنفسهم من نير العبودية والإستبداد؟.
وا أسفاه على ثورة مصر إذا كانت ضريبتها هي العودة الى عصور الظلام.
- آخر تحديث :
التعليقات