ما أصعب على المرء أن ينتقد فيلسوفاُ مثل جيل دولوز، ليس لأنه متميزاُ عن غيره، أو إن فلسفته استثنائية، وليس لأن صديقه ميشيل فوكو قال عنه إنه فيلسوف المستقبل، إنما لسببين آخرين، الأول : إن جيل دولوز موسوعة أنسكلوبيدية بالمقياس الصحيح لهذه الموضوعة. والثاني إنه كلما دلق لك طرف الخيط لتتسلق به سراديب أطروحاته سرعان، وبعد جملة واحدة فقط، يغرقك في لجج بحر متلاطم الأمواج، فتكتشف إنك في سرداب دامس أكثر أكفهراراُ وقتامة من الأول، وإن طرف الخيط لم يكن إلا مدلول لدالة ينبغي البحث عنها.

في مؤلفه الشهير مع فليكس غاتاري، ما هي الفلسفة، يقدم الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز ( 1926 ndash; 1995 ) بانوراما عويصة على الإدراك، لوحة ماردة تخترق حجاب القوانين المستورة ليثبت، على الأقل، أمرين في غاية الأهمية بالنسبة لنا:
الأول : إن المفهوم ( الإفهوم ) ليس هو المفهوم الذي ندركه حينما نتحدث عنه في مختلف ميادين الأبحاث، أي ليس هو المفهوم بالمعنى التقليدي الثابت، إنما هو المرئي واللامرئي الذي يفرض ذاته على الأشياء وعلى نظامها وكذلك على الباحث والمفكر، ويتأسس بهم ويؤسسهم بنفس الدرجة.

الثاني : إن المسطح هو الذي يسمح بولادة المفهوم ويكون جزءاُ منه، ويشارك في ضبط تحديدات ( الحاضر والغائب ) ليخلق علاقة ممتدة ndash; محدودة ولا محدودة ndash; ما بين الثالوث ( السديم والغربال والطرف الثالث )، أي طرف كان لكن شريطة أن يكون قادراُ على خلق مابينة ما بين الجميع، أو بعض الأطراف الجوهرية ( السمة القائدة النسبية ).

والعلاقات ما بين المفهوم والمفهوم الآخر، أو ما بين المفهوم والمسطح، أو ما بين المسطح والمسطح الآخر، لاتتقيد بأي شكل من أشكال الترابط مابين محتوى ( الماهية والصورة ) لدى أرسطو.

لذا، ومن هنا تحديداُ، ينبغي أن نكون جداُ حذرين مع جيل دولوز، ونستخدم مفكات البراغي، مفكاُ مفكاُ، وألا نستعجل في إصدار أي حكم على محاور تصوراته حتى لو كنا على ثقة مطلقة وكاملة.
المفك الأول : رغم إن دولوز لايمايز ما بين الفلسفة التي تدرس المبادىء والتعريف بها وتلك التي تبحث عن ndash; مبادىء ndash; حيوية في مرحلة معينة من محايثة موضوعية، فقد نتفق معه إن الفلسفة ليست هي فلسفة المبادىء، بل قد نذهب أكثر من ذلك ونؤكد إن موضوع الفلسفة لاينبغي أن يكون محدداُ جامداُ، لثلاثة أسباب،السبب الأول : مبدأ التطور العام، السبب الثاني : تطور العقل المعرفي في ذاته، السبب الثالث : تطور موضوعات العلوم.
لكن إذا لم تكن الفلسفة حسب التعريف الأغريقي الأرسطوي هي معرفة المبادىء، وإذا كانت هي أبداع الأفاهيم حسب دولوز، فهل يمكننا، الجزم بالقطع، إن سقرلط مثلاُ لم يمارس أبداع الأفاهيم بالنسبة للأخلاق في عصره، هذا من حيث المبدأ، أما من حيث النتيجة ما الذي يحدد طبيعة المبدأ والمفهوم في عصر معين.

المفك الثاني : إذا أنتقد دولوز الفلاسفة في عدم تمكنهم التخلص من ربقة ونير المبادىء الأولى، بما فيهم الألماني كانط الذي سعى جاهداُ الألتفاف عليها من خلال ndash; نقد العقل الخالص ndash; فهل نجى منها دولوز أو من بعض نتائجها، ألم يمارس من خلال سطوة الأفاهيم نوعاُ من العقل الشمولي، العقل الكلي، العقل الذي يصادر كل العقول الأخرى، العقل الذي هو المولود الحقيقي لتلك المبادىء، أي بمعنى هل أختراق تلك الفلسفات الكبرى بفحوى ما يدل على النجاة منها! أم أن الأمر يتعلق في إيجاد خاصية تعريف الفلسفة من جديد وعلى ضوء تطورات العلوم الأخرى، وهذا ما نسعى إليه نحن من خلال قراءة القديم والجديد.

المفك الثالث : يحارب دولوز سكونية الأفاهيم بالمطلق، ضمن مسألة خاصة وهي إن الشيء ونظامه شيئان في شيء واحد أو شيئان في مسطح ما، يحددان مفهوماُ مشتركاُ، وكأنه في محاربته البحث عن الحقيقة كمفهوم عائم ينتقل إلى مجال آخر تعيس وعائم هو أدوات البحث. نحن هنا لانعترض أن تكون أدوات البحث جزءاُ من البحث نفسه، ولن ننازع في أن يكون نظام الشيء جزءاُ عضوياُ من الشيء نفسه أو حتى أن يكون منفصلاُ ومستقلاُ ويكون شيئاُ خاصاُ به لأن البحث عن ndash; الحقيقة ndash; يقتل الفكر البشري ويصادره ويمنع عنه فاعليته وأنفعاليته، لكن هل يمكن فعلياُ من خلال هكذا تصور أن نلغي السكونية عن الأفاهيم.

المفك الرابع : نحن نتفق مع دولوز إن البحث عن الحقيقة هو البحث عن لاشيء، بل نذهب إلى أعمق من ذلك ونؤكد إن الفلسفات الكبرى ما كانت تبحث إلا عن تلك ndash; الأفاهيم ndash; التي يبحث دولوز الآن عن ظلالها. وهذا ما يجعله عائماُ كمفهومه ويبان كمادوي ساذج.
فإذا سعت تلك الفلسفات الكبرى جاهدة لتطبيق مبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض أو حتى مبدأ التناقض في حدود التصورات، فإن دولوز لم يطبق إلا ظل المادية الساذجة، ولم يع إن هذه الأطروحات تلغي القيمة الطبيعية لتلك المفاهيم، وإن ثمت فارق رهيب مابين البحث عن الحقيقة الضائعة والتي لاوجود إلا لأدواتها، والقيمة التاريخية كمحايثة في الفكر البشري والتجربة الأنسانية.

المفك الخامس : في الصغحة 43 من مؤلفه السلبق الذكر، انظروا إلى مايقوله ndash; فليس مفهوم الطير متضمناُ في جنسه أو نوعه، إنما في تركيب وقفاته وألوانه وأغاريده ndash; والآن، وبغض النظر عن ما الفرق ما بين الجنس والنوع من جهة، والوقفات والألوان والأغاريد من جهة ثانية، نقول لدولوز كيف أدركت إن مفهوم المفهوم ليس في الجنس أو النوع إنما في الألوان والأغاريد، أي في (...... ) وليس في (...... )، أليس لأنك ترى مفهوم الطير بصورة ثابتة وهو موجود في ذهنيتك وتصوراتك السابقة بذلك الشكل الثابت !!. وفي الحقيقة إننا لانكترث بهذه الجزئية، إنما الذي يهمنا هو إننا نستشف من خلال المثال السابق كم دولوز لايعي أدواته في البحث ولا يدرك تماماُ حقيقة العلاقات الفعلية مابين المسطح والمفهوم، أو ما بين المفهوم والمفهوم.

المفك السادس الأول : لنؤوب قليلاُ إلى الوراء، ففي الصفحة 39 من نفس المؤلف، يسأل دولوز تساؤلاُ، ما هي الفلسفة، ويجيب مباشرة ndash; لاوجود لمفهوم بسيط، كل مفهوم يملك مكونات، ويكون محدداُ بها، للمفهوم إذاُ رقم، إنه تعددية، حتى وإن لم تكن كل تعددية مفهومية. لاوجود لمفهوم أحادي المكون وحتى المفهوم الأول الذي تبدأ به فلسفة ما فإنه يتوفر على مكونات كثيرة ndash;
الغريب في أمر دولوز، ولا ندري إذا كان ذلك بتأثير من فليكس غاتاري أم منه، إن (التعددية ) في المحتوى لايفرض بالضرورة تعددية في الطبيعة، وثمت تمايز جلي وصريح ما بين التعددية من حيث الطبيعة و( التعددية ) من حيث المكونات، وفي الحقيقة لاتوجد تعددية من حيث المكونات لذلك وضعناها مابين قوسين. ثم مالذي يمنع أن يكون ndash; الأفهوم ndash; بسيطاُ ومكوناته معقدة أو مركبة أو حتى عديدة أو متعددة.

المفك السادس الثاني : إذا كان المفهوم تعددياُ، فإنه لايمكن أن يكون كذلك إلا بشرط واحد، وواحد فقط، وهو أحتواؤه على مفاهيم بسيطة عديدة، فالتعددية تفرض خاصية واحدة على مفهومها وهي الكثرة في ذاتها تحديداُ، وليست الكثرة في أي شيء آخر، بمعنى لا الكثرة في مكوناتها ولا الكثرة في مسوغاتها وأسبابها ولا الكثرة في أنواعها وأشكالها..
المفك السابع الأول : يؤكد دولوز في الصفحة 40 ndash; يتضح إذاُ أن لكل مفهوم تاريخاُ ndash; ولكي يصل إلى هذه النتيجة أنظروا إلى ما يزعم ndash; العالم الممكن هو العالم الموجود ( هناك )، وهذا العالم الممكن ليس واقعياُ أو ليس واقعياُ بعد وقد لايتحول إلى ( واقعياُ ) إلى الأبد، إن الصين عالم ممكن لكنه يغدو واقعاُ كلما تكلمنا اللغة الصيتية أو تكلمنا عن الصين ndash;
أنظروا إلى بشاعة مستوى التحليل لديه، فلكي تتحول ( العنقاء ) من الممكن إلى الواقعي يكفي أن نتحدث عنها، ولايهم كيف نتحدث ولا من يتحدث فإذا تحدث عنها أهل البلوشستان تحولت إلى الواقعي بالنسبة إليهم، وإذا لم تتكلم قارة أوستراليا عنها فإنها لن تتحول إلى الواقعي !! لذلك ما رأيكم لو تكلمنا عن ( س ) فهل يتحول هذا ( س ) إلى الممكن!

المفك السابع الثاني : ومن جهة ثانية يزعم دولوز إن وجود الغير هو الوجود اللاحق للأنا، فمفهوم الغير لايستقل بوجوده ولايستغني عن وجود الأنا التي لاتحدد فقط ذاتها إنما الذات الموازية لها في مفهوم الغير. لذلك لاوجود ( للعنقاء ) إلا إذا تحدثت أنا عنها، ولايهمني أن تحدثت أنت عنها!

هذه هي أشكالية كبرى في ذهنية دولوز، فلكي يتحول ( الشيء، الذات ) إلى مفهوم ينبغي أن يكون له بالضرورة تاريخاُ، وهذه هي الصيغة المقلوبة أو الأستنتاج المعكوس للصيغة التي طرحها دولوز، وحتى أن تتحقق هذه الصيغة لامناص من أن يتحول الممكن إلى الواقعي. وهنا لدينا ثلاثة مآخذ على هذا التصور :
المأخذ الأول : إذا كانت الأنا هي التي تحدد وجود الغير، فمن أو ما الذي يحدد وجود الأنا هذه، أي ما الذي يحقق التحول الفعلي للأنا من الممكن إلى الواقعي، فإذا وجد وسيط ما فإنه ملغى أوتوماتيكياُ حسب دولوز نفسه، وإذا تحقق ذلك دون وسيط فهذا ينفي ايضاُ العلاقة ما بين اللأنا والغير(ها).

المأخذ الثاني : إذا كان لكل مفهوم تاريخاٌ، فلمفهوم النقيض أيضاُ تاريخ نقيض، أي إن للمفهوم ولنقيضه تاريخان أحدهما يختص به والآخر بنقيضه، وإذا ما تم ذلك ndash; حسب دولوز نفسه ndash; فإن مقولة، لكل مفهوم تاريخاٌ، تغدو على الأقل نسبية ليس بمعنى التضاد مع المطلق، إنما بالتوافق مع أسباب حدوثها، وهذا التوافق، الذي هو في الحقيقة أساس نقيض المفهوم أكثر من تمثله للمفهوم نفسه وإلا ما كان تاريخاُ، هو روح محتوى التطور.

المأخذ الثالث : قد ينتقدنا البعض ويؤكد إن دولوز لا يقصد العنقاء بل يقصد الصين، لأنه يقول ndash; العالم الممكن هو العالم الموجود هنالك ndash; والعنقاء ليست موجودة هنالك إنما هو الصين. أجل بالضبط هذه هي الإشكالية ومن زاويتين، الأولى : أليس الممكن الصيني هو الواقع الصيني مسبقاُ حتى بالنسبة لدلوز نفسه وإلا كيف عرف التمايز ما بين العنقاء والصين !! وإلا كيف عرفنا نحن المفارقة ما بين الأثنين !!. الثانية : ماذا لو تحدثنا عن ndash; س ndash; فكيف نعلم هل هو من جنس العنقاء أم من جنس الصين.

المفك السابع الثالث : بعد أن يثبت دولوز المفاد السابق ndash; إن لكل مفهوم تاريخاُ ndash; لامناص إلا أن يثبت له ( صيرورة ) لأنه يدرك تمام الأدراك إن الفحوى الأول عائم وسديمي ولاينقذ الأفهوم الدولوزي، من هنا يقتبس من هيجل مفهوم الصيرورة ليجعلها المنقذ الذي يفضي إلى حيز أكثر طمأنينة، ويضفي على أفهومه حركة تمنحه مرونة طالما سعى دولوز إلى تأصيلها والألتحاف بها. وأنظروا إلى معاناته حينما يؤكد في الصفحة 41 ( هنا تترابط المفاهيم ببعضها، وتتوافق فيما بينها، وتنسق حدودها، وتركب مشكلاتها المتبادلة، وتنتمي إلى الفلسفة عينها، حتى وإن كانت لها تواريخ مختلفة ) هنا أترك لكم حرية التعقيب.. وأنتقل إلى المفك الثامن.

المفك الثامن : أما خصائص المفهوم فيحددها دولوز في الصفحة 42 وما بعدها كالآتي.
الخاصية الأولى : لايميل كل مفهوم إلى مفاهيم أخرى داخل تاريخه فحسب، وإنما داخل صيرورته وأتزاناته الحاضرة كذلك، فيتوفر كل مفهوم على مركبات يمكن أن تؤخذ هي بدورها كمفاهيم..

الخاصية الثانية : إن خاصية المفهوم هي جعل المركبات غير منفصلة بداخله، فهي متمايزة وغير متجانسة، ومع ذلك فإنها غير منفصلة..
الخاصية الثالثة : إن كل مفهوم هو بمثابة نقطة ألتقاء وتركيز أو تراكم لمركباتها الخاصة..
هنا أكتفي بمأخذين أثنين لا ثالث لهما.

المأخذ الأول : كان من الممكن أن يكون هذا التوصيف لتلك الخصائص مقبولاُ شكلاُ ما لو لم يتعلق الأمر بمضمون الصيرورة التي هي في المنهج الهيجلي، وحسب رؤيتنا أيضاُ، جوهر مبدأ التناقض الذي لايمكن أن يكون عاماُ في حده المنفلت والمنفلش لأي موضوع كان، فالصيرورة مبدأ عام لكنها تخص، فلا توجد صيرورة هكذا عائمة. لذا ينبغي أن نميز، وهذه إشكالية أخرى لدى دولوز، ما بين التطور أو التحول الطبيعيين، والتطور كأرتقاء وأصطفاء ( الصيرورة )، بمعنى التمييز ما بين التطور الخام، والتطور النوعي ( مبدا التناقض )..

المأخذ الثاني : في مجمل ما تفضل به دولوز سابقاُ وبصدد هذه الخصائص كأنه يدرك مفهوم الأفهوم بمعزل عن الأرضية والمسوغات البنيوية التي تتحرك بصورة مشتركة ومتضافرة، لذلك هو في الحقيقة لايكترث بكيفية وأجرائية تكوين هذه المفاهيم، إنما يركز على الآفاق التي تتجايش فيما بينها، وهذه هي النقطة القاتلة في تصوره، فالأفاهيم ليست إلا صور حقيقية تعكس السمة السائدة في المجتمعات وتبين مستوى المرحلة التاريخية المحايثة لها.