ليس ما تقدم مجرد عنوان دعائي الغاية منه لفت النظر إلى المخاطر التي تتهدد الكيان الإسرائيلي، وتذكير العرب والمسلمين بقضيتهم الأولى، فلسطين، ومحاولة صرف الأنظار عما يجري في عدد من دول العالم العربي التي تشهد حراكات شعبية وانتفاضات ارتدادية، كما يحلو لدعاة الفكر القومي quot;المتكلسquot; فعله، كلما وجدوا أن أسهمهم، التي ارتبطت لعقود طويلة مع أنظمة الاستبداد العربي، انخفضت مجدداً، وتصاعدت في مقابلها أسهم التيارات الإسلامية والإنسانونية واللليبرالية.
ما تقدم هو عنوان ورقة عمل قدمت إلى مؤتمر هرتسليا الأخير حول quot;ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيليquot;، وجاءت بعنوان quot;تقويم هرتسليا 2012: إسرائيل في عين العواصفquot;، وضعها رئيس quot;معهد السياسات والإستراتيجياquot; في المركز المتعدد المجالات في هرتسليا، ورئيس سلسلة مؤتمرات هرتسليا، الجنرال (احتياط) داني روتشيلد، بالتعاون مع تومي شتاينر، وهو باحث في المعهد ذاته، تقدّم مسحاً وتحليلاً لأهم أحداث وتطورات العام المنصرم، وتقويماً لمغزى وانعكاسات هذه الأحداث، وفي مقدمتها ثورات quot;الربيع العربيquot; التي عصفت بعدد من الدول العربية، وتأثيرها على الوضع الإسرائيلي.
تعترف الوثيقة بداية أن العالم قد شهد خلال العام المنصرم سلسلة من الأحداث الدراماتيكية، التي ستنتج عنها، كما يبدو، نقاط تحول إستراتيجية تغير الواقع على عتبة البيئة الإستراتيجية لإسرائيل. وتشخص أجندة مؤتمر هرتسليا ثلاث سيرورات رئيسة تقوم فيما بينها علاقات متبادلة، وهذه السيرورات، التي تصوغ الواقع الاستراتيجي لإسرائيل في الوقت الراهن، هي: الأزمة الاقتصادية العالمية؛ الهزة السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط؛ عملية التعاظم المدني على الصعيد العالمي.
وبالقفز عن السيرورتين الأولى والأخيرة، والاندفاع مباشرة نحو السيرورة الثانية المتعلقة بما سمته الوثيقة الهزات الاجتماعية والسياسية في الشرق الأوسط، فإن الوثيقة تؤكد أن التقديرات الإسرائيلية بشأن المخاطر الكامنة في الهزة التي تجتاح الشرق الأوسط ما تزال تبرهن على صحتها وصوابها، فيما أخذت التقديرات الغربية المتفائلة تتبدد شيئاً فشيئاً. ولعل ما يثير القلق بشكل خاص هو تأثير الإسلام السياسي الراديكالي، والذي يلاحظ بشكل ملموس ليس فقط في دول جرت فيها انتخابات.
وتعلن الوثيقة بشيء من الحذر quot;المفتعلquot; أنه لا تتوفر ظروف تتيح حدوث تحول واستقرار سياسي- اجتماعي- اقتصادي في الدول التي جرت وتجري فيها انتخابات وانتقال أو تغيير للسلطة، باستثناء المغرب، وأن خريطة الشرق الأوسط يمكن أن تتغير في الأعوام القليلة المقبلة، وفي هذا السياق ينبغي عدم النظر إلى الوحدة الإقليمية لعدد من الدول، بينها سورية والعراق ولبنان واليمن، كمسألة بديهية.
وترى الدراسة أن حركات الاحتجاج المدني والثورات التي قادها شبان شجعان ينشدون مستقبلاً أفضل لدولهم وبلدانهم، تستحق الاحترام والتقدير. ولعل حقيقة أن النزاع العربي- الإسرائيلي لم يجد تقريباً تعبيراً له في أحداث الاحتجاج في الدول العربية- باستثناء حادث اقتحام السفارة الإسرائيلية في القاهرة- هي دليل على التحول الذي طرأ لدى الشبان المثقفين من الطبقات المتوسطة المنفتحين على الواقع العالمي. ولكن شبان الثورة، وبحكم كونهم أقلية تفتقد الخبرة السياسية، أخفقوا حتى الآن في إنجاز وتحقيق التغيير المنشود الذي جازفوا بحياتهم من أجله. لذلك فإن البديل السياسي الوحيد للحكم الاستبدادي في العالم العربي كان وما يزال الحركات الإسلامية، التي تظهر في صورة حركات طاهرة اليدين، تهتم بمصلحة ورفاهية المواطنين، وخاصة الطبقات الفقيرة، وفي هذا التحليل الذي يستبعد الخبرة والنضج السياسي، والانفتاح على الكيان الإسرائيلي توريط وزج بشباب الثورة، من وجهة نظرنا، أكثر منه مديح أو إطراء، فالوثيقة بذلك تدنس الصورة التي ظهر عليها شبان الثورة بادعاء ابتعادهم عن الموقف من العلاقة مع quot;إسرائيلquot;، وتهميشهم لقضية فلسطين.
ورغم مرور عام أو أكثر على اندلاع الثورات في عدد من دول الشرق الأوسط، إلا أنه لم يتم حتى الآن إحراز تقدم في مواجهة التحديين الأساسيين الإقليميين، وهما انعدام التطور والراديكالية، من وجهة نظر الدراسة، لا بل ويمكن القول إن تراجعاً ملموساً قد طرأ في هذين المجالين. حيث يوجد ارتباط وثيق بين هذين التحديين، إذ لا يمكن القضاء على الراديكالية من دون تطور اقتصادي واجتماعي وسياسي، في حين تشكل الراديكالية نقيضاً للتطور، غير أن الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، التي تجري حواراً مع الإخوان المسلمين وحركات إسلامية أخرى في أنحاء الشرق الأوسط، تعطي شرعية لهذه الحركات، وتحاول أن تقنع نفسها بالأساس، بأن هذه الحركات قادرة على دفع إصلاحات سلطوية تحقق الديمقراطية والرفاهية.
ويبدي معدا الوثيقة صدمتهما من الموقف الغربي حيال ما يجري في المنطقة، فمن وجهة نظرهما كيف يمكن لأحد أن يتوقع من حركات ثيولوجية عملت وانبثقت في كنفها شبكات إرهابية، أن تدفع التطور في العالم العربي؟ ثم إن وصول الأحزاب الإسلامية إلى سدة الحكم سيجعلها تبذل كل ما في وسعها من أجل الحفاظ على سلطتها ومكاسبها، وتقمع بالتالي من دون هوادة أي معارضة أو احتجاجات شعبية، وعليه، فإن دول الغرب، بحوارها مع حركات إسلامية في الشرق الأوسط وإعطاء الشرعية لعملها ونشاطها، تعيد المنطقة إلى الوراء وتمكن هذه الحركات من تعميق وجودها ونفوذها أيضاً في صفوف الجاليات الإسلامية في الغرب.
النزعة الإسرائيلية المتعالية على فهم الغرب لما يجري في المنطقة، وادعاء قدرتها على فهمه وصوابية رؤيتها فيما يخص المخاض الجاري في الشرق الأوسط، والتدليل على فشل الحركات الإسلامية في إدارة شؤون البلاد رغم تحالفهم مع القوى الغربية، كلها عناوين خلصت إليها الوثيقة الإسرائيلية، لكن التلويح بتصاعد خطر quot;المد الإسلاميquot; في أوروبا والغرب، بوجه عام، هو النتيجة الأكثر مفاجأة من بين نتائج الدراسة، إذ لا يزال العقل الإسرائيلي هائماً في أسبقياته الفكرية عن الإسلاميين، ويماثل في ذلك الأنظمة العربية وتياراتها القومية التي تتنبأ بفشل الحركات الإسلامية بعد وصولها إلى الحكم، بحكم الخلفية الذهنية المنطعبة لديهم عنهم، ناسين أو متناسين، وربما معللين أنفسهم بذلك، أن الحركات الإسلامية قد خاضت خلال السنوات الماضية سجالات فكرية وسياسية لتطوير نفسها بخلاف بقية الأحزاب والتيارات العربية، واغتنمت فرصة البعد عن الحكم والنفوذ لتكوين رؤية سياسية فيما يخص العلاقة بينها وبين ناخبيها والآخر، على حد سواء.

... كاتب وباحث
[email protected]