في مطلع شبابي قرا ت ديستوفسكي كثيرا، كنت مغرماً بهذا الشيطان القديس ايّما غرام، وكانت روايته الطويلة (الشياطين) من الروايات التي أنعم الله عليّ بقراءتها، وفي حينها لم افهم فلسفة الرواية رغم اني حفظت وما أزال بعض شخوصها وحوادثها، بطبيعة الحال وكاي قاريء كنت أستوعب بعض ما يريده الروائي الشهير من بعض جزئيات الرواية الكبيرة، ولكن بشكل عام، أي مجمل المنجَز لم افقهه جيدا، ولكن عندما قرات المنجز مرّة أخرى ادركت المقصد البعيد لديستوفسكي وهو الذي خبر حياة السياسة والعمل السري والسجون والابعاد والفقر والصراع الحاد بين مختلف طبقات الناس في حينه.
الخلية الحزبية السرية في العالم الاسلامي ـ وهي انجاز ماركسي بالاصل حتى وإنْ كانت له جذور غير ماركسية سواء في الغرب أو الشرق ـ طالما تبدا طهورية... بتولية... رسولية... إنقاذية... اتحدث عن الخلية ذات المنحى الاديولجي الشمولي التغييري الهادف كما تنص متونها الفكرية، كما هو في الخلية الحزبية السرية الاسلامية أو الخلية الحزبية السرية الشيوعية على سبيل المثال، حيث يتجسد الهدف الانساني السامي سواء تختلف معه أو تتفق.
هذه الخلية وبسبب طهورية الفكر الذي تحمله يتسم سلوكها المتبادل بالحب والتعاون والتفاني، ويتسم سلوكها في البداية مع المجتمع الذي تعمل في وسطه بالاخلاص والصدق في أكثر الاحيان، أو كما هو مفترض.
ولكن هل يستمر الحال على ماهو كذلك؟
ليس دائما، بل قد تنقلب المعادلة، وإذا بهذه الخلية الطهورية الرسولية الانقاذية تتحول الى بؤرة شر ودم وعدوان وتخريب...
تلك هي قصة الخلية الاولى في التنظيم الحزبي في رواية الشياطين بقيادة الرسولي (ستيفان) لقد بدأت بيضاء وانتهت حمراء، انقلب الوضع بالتمام، الملائكة تحولوا شياطين!
وهي قصة كثير من الخلايا النظمية في الاحزاب السرية في العالم الاسلامي، تبدا بريئة صادقة وتنتهي مخربة مدمرة!
الفرد في الخلية الحزبية السرية يبدا بمنافسة نظيره في هضم المادة الفكرية، ويحاول أن يتصدر الاخرين في بيان قدرته على استيعاب الفكر المطروح، وبمرور الزمن يحاول أن يكسب أ كبر عدد ممكن من الرواد والمنتمين لحزبه، ولكي يرتفع رصيده في خليته ثم حزبه يغذي الحزب والخلية بتقارير مفصلة عن الوضع في منطقته، ويزودهما بتفاصيل عن الآخرين ممن يخالفون حزبه في الفكر والنظرية والهدف، وربما ممن إنشقوا عن حزبه، ولكي يتفانى أكثر قد يصرف وقته الثمين بتتبع المخالفين ليرفع فيهم (تقريرا) غنيا بالمعلومات التي تتيح لحزبه كيفية الحذر منهم وتخريب خططهم وتشويه سمعتهم وتزييف افكارهم واهدافهم... وربما يقترح تصورات وخطط لشق الاحزاب الاخرى، وانبات العملاء السريين في هذه الاحزاب، والكثير من المؤسسات في الدولة والانظمة.... وكل ذلك في سياق صراع خفي مع رفقائه في خليته وغيرها، فضلا عن الصراع الخفي والعلني مع الاحزاب الأخرى.
تتصاعد موجة هذه السلوكيات في (نضال أو جهاد) عضو الخلية الحزبية السرية حتى تصل إلى مستويات مخجلة ومدمرة، تتسم بالكذب والمبالغات والافترائات، حتى تضيع في الاثناء المبادئ الرسولية الطهورية، بل يحولها ببراعة مذهلة لصا لح سلوكه التآمري التخريبي اللااخلاقي.
ثم ماذا؟
تتحول الخلية الحزبية السرية من كتلة طهورية رسولية إلى كتلة شريرة... بؤرة د م... خلية تآمر... ويكون للشك با لاخر حضوره الطاغي في ذات الخلية، اي بين أعضاء الخلية أنفسهم، وربما يتبادلون الاتهمات الخفية عبر تقارير مرفوعة للمسؤول ربما تصل الى حد التخوين ليس على مستوى المبادئ بل حتى على مستوى الشرف و النا موس والاخلاق!
هكذا بدأت خلية (استيفان) وهكذا انتهت، بدات طهورية وانتهت دموية، بدات تصلي وتصوم وتحج وتزكي وانتهت تسرق وتذبح وتقتل، بدأت تتداول الفكر الطهوري الرسولي وانتهت بكتابة التقارير المزيفة ضد الاخر، ثم ضد الاخ والرفيق!
ليس الكلام على اطلاقه بطبيعة الحال، بل هي الظاهرة العامة، ونظرة بسيطة الى الاحزاب الطهورية البتولية الرسولية في عالمنا الاسلامي، وملاحظة المآل الذي آلت إليه تكشف عن ذلك بكل سهولة ويسر، أنظروا ما هي عليه اليوم الاحزاب الاسلامية بعد أن استلمت القوة كليا او جزئيا في هذا البلد أو ذاك، وإلى أين تنظيم الحزب الشيوعي في روسيا والصين بعد أن استلما الحكم بل وحتى قبل ذلك؟
العمل الحزبي السري في العالم الاسلامي خطر على الاخلاق، أخلاق المنتمين وأخلاق المجتمع، خطر جسيم، والتجربة اثبتت ذلك، العمل في سبيل الافكار والاهداف الجليلة علنا أرجح وأنجح منه سريا خفيا، فوق الارض وليس تحت الارض، السرية في العمل الحزبي في العالم الاسلامي خطر داهم... ليكن العمل علنيا حتى وان كان صعبا في ظل أنظمة ديكتاورية.