أعلن شيخ الازهر أحمد الطيب وثيقة أو بيان (منظومة الحريات الأساسية) بتوقيعه نيابة عن علماء الازهر وبمعية مثقفين مصريين ممن يشتغلون بالشأن الفكري العام، كان ذلك في 8 /1 / 2912، ولقد جاء البيان بلغة دستورية رصينة، دقيقة المحتوى والشكل، والبيان يتحدث عن الحريات الأساسية التي هي المنبع الحقيقي لتأسيس مجتمع حر، تسوده قيم العدالة الاجتماعية، وتنأى به عن التخلف والتخندق الطائفي والمذهبي والاديولجي...
هذه الحريات هي (حرية العقيدة،حرية الرأي، حرية البحث العلمي، حرية الإبداع الأدبي والفني)، مطلقا للحرية حدودها الواسعة والمسؤولة في آن واحد، وقد أكد البيان على ضرورة احترام هذه الحقوق، وأن ينص الدستور المصري على ذلك، بحيث تُسن بقوانين تعلو على غيرها من القوانين، اي تكون بمثابة مرشدة وموجهة ومفسِّرة لغيرها من القوانين الأخرى.
البيان يعتبر حرية الاعتقاد قضية مكفولة اسلاميا، ولا يجوز القهر على الاعتقاد، وفيما حصل ذلك فهو (تجريم) ينبغي أن يُحاسَب عليه، ولكنه يقيِّد ذلك بعدم المساس باي طقس او معتقد ديني، فالاديان الثلاثة سماوية المنشا، وشرقية الحاضن، وكلها لخدمة الانسان، ويركز كثيرا وبلغة جوهرية صارمة على أهمية حرية البحث العلمي، ويعتبره منطلقا حيويا لتقدم الامم، وخلاصها من كثير من الاشكاليات والمشكلات الحياتية التي يعيشها العالم الاسلامي، ولا يضع اي قيود على حرية البحث العلمي، معززا موقفه بما قدمته الحضارة الاسلامية من ثمار يانعة على صعيد الانجاز العلمي كما هو الحال مع ابن النفيس وابن الهيثم وغيرهما من علماء الاسلام الكثار في هذا المضمار، اما حرية الرأي والتعبير فاستاثرت بقسط وافر من البيان، من حيث القيمة والاثر إذ وصفها البيان بـ (أم الحريات كلها)، اي هي القاعدة الجوهرية لتاسيس مجتمع حر فكريا وعقائديا وعلميا، وأثنى البيان على موقف المحكمة الدستورية العليا عندما كفلت هذا الحق ولم تنظر إلى حق التجاوز،بشرط احترام قدسية الاديان الثلاثة، وعدم التطاول على حقوق الاخرين الفكرية والدينية، على أن (تكون مكفولة بالنصوص الدستورية لتسمو على القوانين العادية القابلة للتغيير)، وينص البيان على أنَّ حرية الرأي والتعبير(مظهر الحريات الاجتماعية التي تتجاوز الأفراد لتشمل غيرهم مثل تكوين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، كما تشمل حرية الصحافة والإعلام المسموع والمرئي والرقمي، وحرية الحصول على المعلومات اللازمة لإبداء الرأي)، بل حرية الرأي والتعبير هي المظهر الحقيقي للديمقراطية.
يتحدث البيان عن أهمية حرية الابداع، مستهلا ذلك بلمحة سريعة ولكنها عميقة في الوقت ذاته، فالابداع ليس على الصعيد العلمي وحسب، بل هناك ابداع فني وابداع أدبي، وبعد هذه الالماعة يؤكد البيان على ضرورة فسح المجال لمحاولات الفنانين والادباء الابداعية، على صعيد النشاطات الفنية من مسرح وسينما ونحت ورسم، وعلى صعيد الشعر والرواية والمسرحية، مذكرا باهمية الادب والفن في الارتقاء بالمشاعر الانسانية، وتهذيبها من غلواء المادة والغريزة غير المستهدية بالقيم الكريمة، وبتعزيز من الدور الادبي الاعجازي للقرآن الكريم، مما يدل على اهمية هذا العنصر في عملية التقدم والبناء الانساني، فقد جاء في نص البيان : (ويظل الإبداع الأدبي والفني من أهم مظاهر ازدهار منظومة الحريات الأساسية وأشدها فعالية في تحريك وعي المجتمع وإثراء وجدانه، وكلما ترسخت الحرية الرشيدة كان ذلك دليلًا على تحضره، فالآداب والفنون مرآة لضمائر المجتمعات وتعبير صادق عن ثوابتهم ومتغيراتهم، وتعرض صورة ناضرة لطموحاتهم في مستقبل أفضل، والله الموفق لما فيه الخير والسداد).
هذا الطرح المتطور والعميق من جانب الازهر الشريف سوف يدخل هذه المؤسسة في عمق العالم، فلم يكن للازهر فيما سبق دور من هذا النوع، وكان دوره محصورا على وجه التقريب بالقضايا الوعظية والتقليدية، أما أن يدخل مؤسسا للحياة الاجتماعية وفق معايير ومقاييس ومفاهيم المجتمع الحديث، فلم يكن للازهر دور في ذلك.
الدور الازهري هذا ربما يدخله في صراع من جماعات الاسلام السياسي التي قد لا يروق لها مثل هذه التوجهاته التي تكاد تكون ليبرالية، خاصة عندما تصدر من مؤسسة دينية عريقة مثل الازهر، كما أن الازهر قد يتسبب بهذا المشر وع لمؤسسته ورجاله متاعب إضافية مع المؤسسات الدينية تونس والسعودية واليمن، ولكنها رسالة قد اضطلع بها وعلى الخيرين الوقوف إلى جانبه بكل قوة.
الازهر يدخل عالما جديدا، وربما يخلق انعطافة شديدة في مسيرة الفكر الاسلامي المعاصر، وهو مؤهل لان يكون واسطة العقد بين المذاهب الاسلامية لمزيد من التفاهم والتعاضد، في سياق الرسالة الدينية العليا، التي هي بناء مجمتع متوازن اقتصاديا واخلاقيا وسياسيا.
والسؤال المطروح...
أين هو دور النجف الاشرف من مثل هذه المشاريع العالمية الحيوية خاصة في العراق؟!