1: التدقيق في ا لمعنى اللغوي للأرض هو ما (سفل) وما يقابل السماء حتى إذا كان شجرة أو نهرا أو جبلا، فهي اسم جنس كما يبدو، وإذا جاءت مُطلقة فهي تنصرف إلى أرضنا التي نعيش عليها (والأرض مدَدَناها وألقينا فيها رواسي)، (والأرض ذات الصَّدع)، (ألم نجعل الأرض كفاتا)، ولكنّها إذا جاءت مقترنة بالسماء فعند ذلك تشمل كل ما يقابل السماء (له ملك السماوات والأرض)، (ربِّ السموات والأرض)، فهو سبحانه مالك كل ما على الأرض وما فيها، وترد الكلمة أحيانا ويراد بها قطعة من الأرض وليس كل الأرض كما في قوله تعالى: (ونسوق الماء إلى أرض جزر).
2: إن (الأرض) في لغة القرآن الكريم مادَّة (دلالية)، أي لم تكن (الأرض) في النص القرآني مادّة بحث علمي أو تأمل فلسفي، بل هي بمثابة آية، أو آيات، والمدلول هو توحيد الله وحكمته ورحمته وكل ما يتصل به من صفات جميلة، ويستعرض الكتاب المجيد هذه الآية العظيمة أو الآيات الجليلة بقوة وإشراق وتشويق وسلاسة، في سياق سجالي مركَّز (ألم تر أن الله أنزل من السَّماء ماء فتصبح الأرض مُخضرَّة إن الله لطيف خبير)، (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبّا فمنه تأكلون)، وأمثال ذلك من الآيات البينات، وعندما يسوق جملة خبرية عن الأرض إنما بلحاظ كونها حجة، آية، كما في قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض مهادا، والجبال أوتادا)3، فالقرآن يوردها هنا كـ (آية) تدل على التوحيد والعظمة الإلهية الكريمة.
يتحدث عن الأرض كـ (آية) من خلال كونها جاءت متطابقة مع حاجات الإنسان وتسيير أموره، وممارسة نشاطه الحيوي، فهي: ــ
1: فراش، كما في قوله: (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فاخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا)، (والسماء بنيناها بأيد وإنّا لموسعون)، (والأرض فرشناها فنعم الماهدون).
2: مهاد، كما في قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا)، (ألم نجعل الأرض مهادا).
3: ممتدة، كما في قوله تعالى: (وهو الذي مدَّ الأرض وجعل فيها راوسي وأنهارا)، (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي).
4: بساط، في قوله تعالى: (والله جعل لكم الأرض بساطا).
5: كفات، في قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض كفاتا، أحياء وأمواتا)
6: قرارا، في قوله تعالى: (أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا)، (الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء).
7: ذلول، كما في قوله سبحانه: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في منكابها وكلوا من رزقه وإليه النشور)).
8: مدحية، كما في قوله تعالى: (والأرض بعد ذلك دحاها / النازعات).
9: مسطّحة، كما في قوله تعالى: (وإلى الأرض كيف سُطِّحت).
10: مطحية، كما في قوله تعالى (والسماء وما بناها، و الأرض وما طحاها).
إن هذه المواصفات التي يسبغها القرآن على الأرض إنما يذكرها من باب كونها آيات بينات على توحيد الله، وعلى كرمه ونعماءه وفضله، إنَّها لغة وصفية ودلالية، وهي ليست لغة علم، أي ليست لغة تريد تحليل الواقعة علميا، فإن العلم لا يهتم بالغاية الحَكّميِّة من المواد التي بين يديه، ولا يبحث في الغايات، وتكون لغته حيادية، فيما هنا لغة غير حيادية، أي هناك قضية سجالية خفية يريد الكتاب العزيز أن يًثبتها لصالحه.
هذه اللغة فيها جمال وتشويق وإثارة وبيان ووصف، لأنها لغة غير حيادية أصلا، لغة إنتصار وانحياز لقضية، وهو موقف طبيعي ولا يتناقض مع المثل العليا، ولا مع الأخلاق، فإن كل دين أو أديولوجيا يحاول أن يتوسل بلغة جذابة ومؤثرة كي يكسب.
هذه المواصفات (فراش... مهاد... بساط... قرار... كفات...المد... ذلول... الدحو... السطح... الطحو...) تقرير لأحوال نراها نحن، وليس بالضرورة وصفا للأرض بحد ذاتها، فنحن نفترشها وننام عليها، وهي ممتدة أمام أعيننا، وجاء الوصف طبق ذلك.
قال الزمخشري وهو يفسر آية (22) من سورة البقرة: (... ومعنى جعلها فراشا وبساطا ومهادا للناس: إنّهم يقعدون عليها، وينامون ويتقلّبون كما يتقلب أحدهم على فراشه وبساطه ومهاده، فإن قلت: هل فيه دليل على أن الأرض مسطحة وليست بكرِّية ؟ قلت: ليس فيه إلاّ أنّ الناس يفترشونها كما يفعلون بالمفارش، وسواء كانت على شكل السطح أو شكل الكرة،فالافتراش غير مستنكر،ولا مدفوع لعظم حجمها واتساع جرمها وتباعد اطرافها).
إن التمهيد يعني فيما يعني التمكين، والتوطئة لعمل، أو غاية، والبسط يعني فيما يعني العطاء، غزارة العطاء، ومنه قوله تعالى: (يداه مبسوطتان)، وتعني النشر، نشر الخير ـ مثلا ـ و (القرار) يعني فيما يعني الثبات والمكوث، و(المد) يعني فيما يعني ما يمتد أ مام أعيننا، وكونها (ذلولا) يعني (سهلة ساكنة مسخّرة)، وهي (مدحيَّة) أي منبسطة، فقد جاء في مقاييس اللغة: (دحو: أصل واحد يدل على البسط والتمهيد)، وقد جاء في (الاشتقاق) ما نصّه: (دحيتُ الموضع، ودحوته إذا سهّلته وسوّيته)، وهي (مسطَّحة) كما يترآى لنا ولكن ليست كذلك بالضرورة، وقال الرازي: [ (... سُطحِتْ)... ومن الناس استدل بهذا على أن الأرض ليست بكرة، وهو ضعيف، لأن الكرة إذا كانت في غاية العظمة يكون كل قطعة منها كالسطح ]، و (الطحو) هو عين (الدحو) كما تقول المعاجم أو قريب منه، مما يفيد معنى التهيئة والإعداد، فقد جاء في مفردات الأصفهاني: (الطحو كالدَّحو،وهو بسط الشيء)، فهو استعمال قرآني خاص بالأرض لبيان كونها مهيَّأة للإنسان وممارسة حياته، والأرض ليست سهلة وذلولا لكل أبناء البشر يوم نزل الكتاب المجيد، فهناك الأرض الجبلية مثلا، والحياة فيها صعبة، تحتاج إلى بذل جهد كبير، ولكن الكتاب المجيد يخاطب عامة الحس البشري، ويرسم لنا الأرض في حدود ما يراه البشر بشكل عام، فالقرآن أو لغة القرآن هنا تتناول الأرض كما تتبدَّى لنا، ومن ثم يجعل من ذلك حجّة علينا.