هناك أكثر من قراءة خاطئة لقضية الامام الحسين بن علي عليه السلام، واقصد بقضيته هنا (الثورة) التي نهض بها ضد الحكم الاموي، بصرف النظر عن ملابسات معنى الثورة في علم الاجتماع، خاصة علم الاجتماع الامريكي الذي أولى اهتماما بارزا بهذه المادة المثيرة للجدل معنى واسبابا وهوية.
ثورة الحسين تحولت إلى طقس معقد الابعاد والخصائص، طقس ديني عبادي سياسي مذهبي، وكان للسياسة دورها في تعقيد وتشعيب معالم هذا الطقس على مر العصور والازمنة، حتى بات طقسا مثيرا للجدل بين الكتاب والعلماء من مختلف الملل والنحل، بين رفض وقبول، بين تطرف واعتدال، بين اجلال واستخفاف، وما زالت الاضافات على هذا الطقس تتوالى وتترى ليحتل مكانة بارزة من اهتمام الانثروبولجيا والدين والسياسة والاجتماع...
هنا، وبسبب قرب محرم الحرام، سيشهد العالم الاسلامي في ظل ظروف الاستقطاب الطائفي، وحراك الشعوب العربية تحت عنوان ما يسمونه بـ(الربيع العربي)... سيشهد العالم الاسلامي طقسا عاشوريا صاخبا، يمور بالحركة والتحرك، يتداخل فيه الفكر بالعاطفة، السياسي بالديني، العقلي بالاسطوري، الديني بالمدني، الحاضر بالماضي، خاصة وإن هذا الطقس اصبح محل تجاذب ومساومة ومزايدة، فقد لاحظنا إن الطقس لم يعد حكرا على طائفة معينة هي الطائفة الشيعية، بل تبارى الصوفية والسلفية ايضا للاحتفال باستشهاد الحسين عليه السلام، وكلٌ على طريقته الخاصة، وليس بعيدا أن تتحول مادة العزاء الحسيني بصورها المتعددة إلى اشكالية جديدة في الخطاب الديني بشكل عام،
ومن الضروري الاشارة في هذا السياق إلى أنَّ الطقس الحسيني تحول إلى مادة عالمية تقريبا، حيث تقام المآتم الحسينية في أكثر انحاء العالم بما في ذلك أوربا وأمريكا وكندا...
الطقس الحسيني بصوره المتعددة لم يسلم من النقد بطبيعة الحال حتى لدى الشيعة، فهم الرواد الاوائل والمعنيين الاوائل به، ويكفي أن نشير إلى جهود الشيخ محمد شمس الدين، والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ مرتضى مطهري الذي كتب ثلاث مجلدات بعنوان (الملحمة الحسينية) حيث أمضى الكثير من المواقف الحرجة، لعل من أخطرها نفيه لقضية اربعين الحسين، وبعض مجريات المعركة التي كثيرا ما يلجأ إليها الخطباء الحسينون من أجل إثارة العواطف واستدرار المشاعر بصرف النظر عن الاهداف المضمرة لهذا الخطيب أو ذاك خاصة فيما يتعلق بالكسب الاقتصادي والوجاهي... ولقد تعرض كاتب هذه السطور للخطاب الحسيني أكثر من مرة في ايلاف وغيرها من المواقع وتوصل إلى زيف الكثير من هذا الخطاب وبراءة الحسين منه، خاصة الخطاب ذات النكهة الغيبية، والماهية الاسطورية.
لقد تتبعت مناشيء الفهم الاسطوري لثورة الحسين فوجدت أن أحدها يتمثل بالرأي الذي يقول أن عمل الحسين سر من أسرار الله، ولا يمكن الاحاطة بمكنونه ومغزاه، حيث القت هذه النظرة على عمل الحسين طابعا ما ورائيا يستحيل معه فهم العمل الحسيني في نطاق المنظور الانساني للاشياء والحوادث، وذلك يخلق صورا غير طبيعية في التعامل مع عمل الحسين فيما إذا اردنا أن نتعاطف معه ونتماهى مع جوهره، ومن المناشيء الخطيرة في الفهم الاسطوري الخاطيء لعمل الحسين هو تصور أهداف مسبقة ثم العمل على تكييف كل الاخبار لصالح هذا التصور، أي تحكيم مبدا الغائية في تفسير تاريخ الحسين، والغائية من أخطر مناهج البحث في العلوم الطبيعية، فكيف بقراءة التاريخ وفق معايير هذا المنهج الخطير، إن أهداف ثورة الحسين أو عمله يجب أن تُستقى من قراءة التاريخ، وليس من خلال مباديء فوقية ما ورائية، بحيث نجيِّر ونحوِّر كل ما نصل إليه أخبار صحيحة لصالح هذه المباديء المفارِقة، ان منهج الغائية يضطرنا أن نكذب احيانا ونختلق ونحمِّل النصوص والاحداث فوق طاقتها من المعاني والتصورات، فمن يريد أن يثبت أن الحسين ثار من أجل الحرية والعدالة يجب عليه أن يستدل على ذلك من النصوص، ولا يحق له أن يسيدها مسبقا، ثم يماهي بينها وبين النصوص، ومن مناشيء الخطأ بل الخطيئة في قراءة عمل الحسين أو ثورته هي النصوص غير المحقَّقة، النصوص المنسوبة للحسين أو غير الحسين ممن له علاقة بالواقعة ولكن في حقيقة الامر لا تعدو كونها أكاذيب واختلاقات، وليس هناك من واقعة اخترقها الكذب والافتراء مثل ثورة الحسين عليه السلام، حتى باتت مائدة ثرية بالاكاذيب والادعاءات، لقد جنت النصوص الكاذبة على الحسين وعمله واحبائه، بل صارت سبب دماء وقتل وتخلف، فالقراءة الصحيحة هي القراءة السندية المحكمة،وليس كل سند حتى وإنْ كان محكما، بل يُشترط به العقل والمعقولية، وأن لا يخرج عن سنن الطبيعة والواقعية في سياق ما تسمح به ظروف وأجواء ذلك العصر، ومن مناشيء الخطا في قراءة الحسين التبرير المتعمد بسبب الانتماء المذهبي والاسري، فليس هناك من داع لتبرير تخلف محمد بن الحنفية أو عبد بن عباس أو عبد الله بن عمر بن الخطاب أو جعفر بن أبي طالب بحجة واخرى، فإن مثل هذه التبريرات تخلق مادة تاريخية مفتعلة، وتترك أثرا بل آثارا سيئة في بنية المجتمع المسلم، كما أنها تؤسس لضمير مهزوم، وعقل تبريري عاجز، ومن مناشيء الخطا في قراءة العمل الحسيني أن ننطلق من تفسير مسبق لاسباب الثورة، كان تكون الاستشاهد لذاته، او طلب الحكم، أو ليكون دمه غفرانا لخطايا شيعته، او لغرض هز الضمير المسلم، إن هدف الثورة، ثورة الحسين اجتهاد شخصي بحت، يعتمد على قراءة النصوص والاجتهاد في تمييزها وفهما وتفسيرها، وليست مفروضة سلفا على الفهم الانساني...
لا توجد امة بلا طقوس، ولا حضارة بلا طقوس، ولكن مِن الطقوس ما يزرع الحب ويشيع الامل، ومنها ما يتسبب بدماء وخراب، وطقس عاشوراء يجب الارتفاع به إلى مصاف الطقوس التي تساهم ببعث الامة وتنشيط عاطفتها وتهذيب عادتها، لا لتكريس تخلفها، وتعطيل طاقتها، وحرف تفكيرها عن الجادة الواقعية المنطقية.