الكون الكلي 12

إن معادلة آينشتين الشهيرة، على سبيل المثال لا الحصر، عن علاقة الطاقة بالكتلة والتي تقول أن الطاقة تساوي الكتلة مضروبة بمربع سرعة الضوء E=MC2 لم تصنع القنبلة الذرية، إذا تطلب الأمر تظافر جهود مئات العلماء والمهندسين والتقنيين والصناعيين والعمال والخبراء العسكريين والأجهزة والمعدات الثقيلة والمتطورة والأموال الطائلة من أجل تحقيق ذلك الهدف أي تصنيع القنبلة الذرية، ولكم ما كان يمكن أن يتم ذلك بدون هذه المعادلة. لذلك يحق لنا أن نتساءل كيف يمكن لمباديء ومعادلات، تشكل قوام هذه النظرية أن تخرج أو تولد لنا عالماً فيزيائياً تقوم هي بإدارته وتسييره لأنه عالم خاضع لتلك القوانين؟ فهناك، من جهة، الكون المرئي، ومن جهة أخرى، القوانين الفيزيائية التي تسمح لنا بفهمه ودراسته واستيعابه، ولا يمكن الفصل بينهما، فما هي العلاقة بين الإثنين؟ فالنظرية لن تكون قادرة على كشف كيفية ارتباطها بهذا العالم المادي الفيزيائي ناهيك عن قدرتها على خلقه. وإذا كان هذا الـــ quot; كل شيء quot; الذي تدعيه النظرية ناقصاً وغير كامل أو مكتمل فكيف يستحق منحه صفة الشمولية ونسميه بنظرية كل شيء؟ إن علم الكونيات أو الكوزمولوجيا يبدو لنا شموليا وغير كامل في نفس الوقت. فهو شمولي لأنه يطمح لبناء شكلانية وحيدة قادرة على وصف كافة التفاعلات الجوهرية للكون المرئي، وناقص أو غير كامل لأنه سيكون عاجز عن تفسير كل شيء بالمعنى الحرفي للمصطلح وسوف لن يجيب على كل شيء قطعاً. وكمثال على ذلك ما هي الصلة، وما هي طبيعتها، وكيف نتجت، ومتى، وأين، بين القوانين الفيزيائية والقوانين البيولوجية، بين العالم الفيزيائي والعالم البيولوجي، بين المادة الجامدة والمادة الحية العضوية رغم المشتركات الكثيرة الموجودة بينهما؟ لا شيء يشير في الوقت الحاضر إلى حل هذا لإشكال العلمي والإجابة على هذا اتساؤل وهو تحدي علمي ليس في متناول أيدينا حله. فهل سيكون بوسع هذه النظرية الكلية الشمولية أن تجيب عن السبب الذي جعلنا موجودين على هذه الأرض كما على غيرها من الكواكب التي تعد بالمليارات في الكون المرئي؟ وهل ستجيبنا عما سيحل بنا بعد موتنا؟ إن النظريات العلمية البحتة لا تعالج سوى المواضيع العلمية البحتة لذلك فهي بالضرورة ليست كاملة ولا شاملة ولن تكون نظرية لكل شيء إذا ادعت العلمية فليس من شأنها معالجة أو مقاربة موضوعات الحب والكراهية والوعي والحرية والاختيار والعدالة وغيرها من القيم الأخلاقية العامة، والمعنى الحقيقي الذي نضفيه على حيواتنا فالانسان العقلاني الذي يعلم إنه نوع حيواني متطور أو في طور التطور الدائم يعرف ان الكون المرئي الذي يوجد فيه قديم جداً وربما أزلي وأبدي ولايعرف من تاريخه سوى حقبة قدرت بـــ 13.7 مليار سنة وهو قطعاً أقدم بكثير من هذا التاريخ التقديري وهو يختلف عن الإنسان المتدين الذي يعتقد أن هذا الكون المرئي ظهر للوجود هكذا فجأة وبإرادة ربانية خلال ستة أيام في عملية خلق إلهي مباشر كما يعتقد مليارات من البشر على وجه البسيطة، والذين يعتقدون ويصدقون أن هناك كائناً مطلقاً يتمتع بالكمال والقدرة اللانهائية هو الذي خلقهم وخلق كل ما يحيط بهم قبل خمسة آلاف سنة كما ورد في النصوص المقدسة التي آمنوا أنها جائتهم من قبل ذلك الخالق.

لو سألت أي عالم هل تؤمن بأن الله موجود؟ فسيكون الجواب حتماً هو:quot;إن هذا سؤال خاطئ. لإنه يفترض مسبقا أن الله نوع من الموجودات ومن الممكن أن يوجد أو ألا يوجد. إن الله ليس موجودا على الإطلاق وفق مخيلة الإنسان. فقد يكون الله هو الوجود نفسه، والمقصود بالوجود هو كل الأكوان القائمة بين اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر، ومن ضمنها كوننا المرئي. وهذا سؤال جوابه حَرِج، بمعنى أنه يمس أقدس المبادئ اللاهوتية التي يعتنقها أكثر من ثلاثة أرباع سكان العالم. فهو يتعلق بالآلية التي أوجدت الكون، وهي حسب المعطيات الفيزيائية الكوانتية المتوفرة لدينا الآن والتي تسندها الأبحاث الجديدة، فإن الكون قد نشأ تلقائياً وفقاً للقوانين الطبيعية بدون تدخل إلهـي كما يقول العالم لورنس كراوس Laurence Krauss. وهذا العالم هو صاحب فكرة خلق الكون من اللاشيء، وفق قوانين الفيزياء الكوانتية أو الكمومية. فهو يعتقد بوجود ظاهرة طبيعية تحدث في كل مكان في الكون، تسمى بـ التموجات أو التقلبات الكمومية أو الكوانتية Quantums fluctuations (أو الإهتزازات الكمومية أو الكوانتيةflictuations quantiques ) وتتمثل بظهور جزيئات أو جسيمات في غاية الصغر، لاترى ولايُحس بها، تتكون من نوعين: النوع الأول هو المادة المألوفة التي يتكون كل شيئ حولنا منها، والنوع الثاني هو ما يسمى بالمادة المضادة التي تطابق المادة العادية بالكتلة وتعاكسها بالشحنة الكهربائية، وتظهر من الفراغ، أي من لاشيئ - أكرر هذه العبارة للإهمية: تظهر من الفراغ - لفترة قصيرة جداً ثم يصطدم النوعان ببعضهما ويتلاشيا. (هذه الظاهرة بالمناسبة لاتتعارض مع القانون الأول للديناميكا الحرارية الذي ينص على أن المادة لاتفنى ولاتستحدث من عدم، لأن مبادئ مايسمى بـ مبدأ اللايقين principe drsquo;incertitude أو مبدأ عدم التأكد لهيزنبيرغ Heisenberg Uncertainty Principle لايسمح بهذه الظاهرة فحسب بل يفرضها).

ويوجد تأييد كبير بين علماء الفيزياء الشباب لفكرة أن الكون قد ظهر من خلال هذه التقلبات أو التموجات الكوانتية حين كان في تلك المرحلة الإبتدائية الأصغر حجماً من الذرة بكثير وتوسع إلى حجمه الحالي عبوراً بعدة مراحل أولية أدت إلى تكون المادة كما نعرفها الآن.

وقد تأكدت هذه المعلومة بعد أن تمكنت تلسكوبات فضائية متطورة مثل WIMP و وبلانك وكبلر من تصوير الكون في تلك المرحلة وتسجيل الأشعة الكونية المياكروموجية المتحجرة التي تسجل الخلفية الكونية وتظهر فيها بقع ضوئية إلا أن البقع الظاهرة في الصورة ليست في الحقيقة بقع فعلية موجودة في الكون إنما هي مجرد إنعكاس في الإختلاف الطفيف لدرجة حرارة هذه الإشعاعات المنتشرة في كل مكان تعكس ماحدث خلال تلك اللحظات الأولية لظهور الكون وتشير إلى حدوث تكتلات في توزيع المادة خلال إنتشارها في تلك الحقبة الأولية سببها التموجات والتقلبات الكوانتية الموجود منذ بدأ ذلك الحدث. كما أثبتت الدراسات والتحليلات التي أجريت على تلك الصورة فكرة ظهور الكون من الفراغ دون الحاجة لتواجد عوامل ماورائية غيبية لمبادرة الخلق. فالعوامل التي أدت إلى ظهور الكون، كما تشير إليها الكثير من الأبحاث والإستكشافات الحديثة، هي عوامل آلية تجري ضمن القوى الطبيعية وقوانينها.

ويعتقد عالم الفيزياء لورنس كراوس بأن الطاقة المظلمة eacute;nergie sombre أو المعتمة أو الداكنة الخفية المعروفة بالانجليزية بــ dark energy، والتي لايزال أمرها غامضا علينا، قد تكون مفتاح فهم بداية الكون. ويراهن أن فيزياء القرن الحادي والعشرين ستركز اهتمامها للإجابة على ثلاثة أسئلة مثيرة للاهتمام وهي: ماهية طبيعة الطاقة الداكنة أو المعتمة، وكيفية التوفيق بين تلاشي الثقوب السوداء والميكانيك الكمومي أو الكوانتي، وأخيرا الكشف عما إذا كانت هناك أبعاد إضافية في الكون المرئي؟ وهذه الأسئلة يرتبط بعضها ببعض، وهي تتطلب، جميعها، نوعا جديدا من إعمال الفكر في الثقالة الكمومية la graviteacute; quantique، ولكنه يعتقد أنه يتوجب علينا الإتيان بفكرة خلاقة وجديدة تماما. وهو واثق اليوم بأن حل هذه الأسئلة قد يكون نظريا وليس تجريبيا، فمن المرجح أن الأدلة التجريبية المباشرة التي قد ترشدنا إلى المناحي النظرية لهذه المجالات تقع خارج نطاق التجارب المختبرية الجارية، كما يراهن بأن حل هذه الأسئلة لن يشبه أي شيء تحقق حتى الآن، بما في ذلك نظرية الأوتار الفائقة.

وقد صرح لورنس كراوس أن زمن نظرية الأوتار الفائقة قد انقضى. فاليوم ينبثق من نظرية الأوتار الفائقة، ومن نظرية الثقالة الكمومية الحلقية أو العروية theacute;orie de la graviteacute; quantique agrave; boucle- loop quantum gravity، فكرة أساسية تقول أن هناك ثمة مشكلة رياضياتية في نظرية النسبية العامة ينبغي حلها.

والمعضلة أنه كلما حاولنا تفحص الظواهر الفيزيائية عند مقاييس أصغر فأصغر ازدادت صعوبة حساب مفعول الثقالة أو الجاذبية أكثر فأكثر، وفي نهاية المطاف نحصل على لانهايات infinis - infinities. وتحاول معظم الأبحاث التي تسعى إلى الوصول إلى نظرية كمومية للثقالة فهم هذه اللانهايات. وتقوم نظريتا الأوتار والثقالة الكمومية الحلقية أو العروية بالالتفاف حول هذه النهايات وعدم تصغير الأبعاد لأقل من قدر معين، وإلا فستتصرف الأشياء على نحو مختلف. وكلتا النظريتين مبنيتان على أساس أنه لا يمكن أن تصغر أبعاد الجسيمات النقطية pointes particules إلى الصفر. وهذه إحدى طرائق التخلص من اللانهايات الرياضياتية. إذ الفرق بين النظريتين يكمن في كون نظرية الأوتار أكثر غنى من الناحية الفكرية والرياضياتية.

لم تحقق نظرية الأوتار الفائقة الكثير في مجال حل المشكلات الفيزيائية المطروحة، لكنها توصلت إلى اكتشافات رياضياتية عديدة مهمة، ومن هنا ينبع سحرها وأناقتها. أما نظرية الثقالة الكمومية الحلقية أو العروية فلم تحقق ذلك لم تخبرنا أي من نظريتي الأوتار الفائقة أو الثقالة الكمومية الحلقية أو العروية كثيرا عن المشكلات الرئيسية غير المحلولة وأهمها، لماذا يحتوي الكون على طاقة معتمة أو مظلمة مجهولة لا نعرف عن ماهيتها شيئاً؟ وهذا يُعد أهم سؤال في الوقت الحالي. وقد نتجت فكرة الأكوان المتعددة أو الأبعاد الإضافية من نظرية الأوتار، وهذه مبنية على الأبعاد الإضافية التي فرضتها هذه النظرية. فنظرية الأوتار المتساوقة الوحيدة لها في الأصل 26 بُعدا، ثم خُفضت لاحقا إلى 10 أبعاد مكانية زائد بعد زماني. ولكن الكون الذي نعيش فيه رباعي الأبعاد (ثلاثة للمكان إضافة إلى الزمان)، ولذلك تُطرح مناقشات كثيرة لإيضاح كيف أن هذه الأبعاد الإضافية غير مرئية. ومؤخرا حاول بعض الباحثين تحويل ذلك العيب إلى مزية عبر اقتراح إمكان كشف الأبعاد الإضافية. وهذا يجرنا للحديث عن تعدد الأكوان والأكوان المتوازية التي ألف عنها لورنس كراوس كتاباً مستقلاً وكأنها حقيقة قاطعة وموجودة فعلاً رغم عدم إيمانه بذلك، وعند سؤاله عن حقيقة وجود الأكوان المتوازية أجاب: إنه مجال مثير ورائع لطلبة الدراسات العليا. وأحد طلبتي السابقين في الدكتوراه مسؤول عن تزايد الاهتمام بهذه الفكرة مؤخرا. غير أن هذه الأبعاد الإضافية تبدو، في اعتقادي، غير صحيحة؛ إذ يشير ما نتعلمه من فيزياء الجسيمات الأولية عن توحيد مجمل قوى الطبيعة إلى اتجاه مختلف عما تقترحه نماذج الأكوان المتوازية الكبيرة. ورغم جمال وإثارة الأفكار المتعلقة بالأبعاد الإضافية العديدة، فإنه إن قُدِّر لي المراهنة عليها فسأراهن على عدم صحتها، وسيرينا المستقبل ذلك. فالإمكانيات المدهشة موجودة دائماً في الكون الحقيقي المرئي والمرصود. فالعلوم الحقيقية تطرح أفكارا لا يجرؤ أي كاتب خيال علمي على اقتراحها. فإذا فكرنا مثلا في الثقالة الكونية المضادة، وهي ما أعمل عليه في الوقت الحالي، فسنرى أننا لا نفهم سبب احتواء الفضاء الخالي على الطاقة. إنها أغرب فكرة في العالم. فإذا سألتِ أي إنسان عن مقدار الطاقة الموجودة في الفضاء الخالي فسيجيب laquo;لا شيءraquo;، لأن ذلك هو الجواب المعقول. ولكننا تعلَّمنا أن ذلك غير صحيح؛ فمهما تخلصنا من كل شيء، فسيبقى هناك حتما شيء ما. والأسوأ من ذلك أنه عندما نضع كمية قليلة من الطاقة في الفضاء الخالي فكل ما تعلمناه من قوانين الفيزياء يخبرنا أنه سيكون بالإمكان إضافة كمية كبيرة من الطاقة إليه؛ فحالما نفتح الحاجز ونسمح للفضاء الخالي باحتواء طاقة، فسنتساءل عن مقدار الطاقة التي يمكن أن يحتوي عليها بشكل طبيعي؟ وفقا للفهم الحالي للثقالة والميكانيك الكوانتي أو الكمومي يجب أن يحتوي الفضاء الخالي على طاقة تزيد بمقدار 120 مرة على كمية الطاقة التي يحتوي عليها وفقا للقياسات، فكيف ننقص الكمية التي يحتوي عليها بهذا القدر الهائل من دون أن نجعلها تساوي الصفر تماماً، ذلك لغز تام. ويعد الفيزيائيون هذا الأمر أسوأ معضلة في الفهم الدقيق للفيزياء.

يتبع

[email protected]