توطئة:

إن ازدياد الحملات المعادية للغرب ما فتئت تزداد يوما تلو الآخر، سيما بازدياد الملل الإسلاموية (سلفيّة أم تكفيريّة) تتكاثر كالنمل وتقتحم الأرض كما يقتحمها الفطر الطفيليّ. كل هذه الحركات المتطرفة تنادي - دون استثناء ndash; رافضة لكل ما أتى من الغرب من حضارة، جملة وتفصيلا. لكن هل يجوز هذا دون ترجيح العقل وإعماله ومن ثمّة فرز الصالح من الطالح؟

أن موضوع تعامل الغرب مع الحضارة الإسلامية قديما ربما يكون معروفا لبعضكم في شذرات أو تماما. لكن هل وقف أحد منَا مع نفسه يحدثها عن هذا الرفض الزائف؟ فكل ما لنا من مظاهر الحضارة أتى من الغرب وكل ما نحتاج إليه لخير الأمة أتى من أبناء المسيح. وعندما نسأل أنفسنا ماذا اخترعنا نحن للحضارة الانسانية تكون الإجابة أغلب الظن لا شيء. هل تعلمون أن العالم العربي من المحيط إلى الخليج لا ينتج من المؤلفات الفكرية المتضمنة في شكل كتب أو أبحاث ولا حتى ٥٪ مما تنتجه دولة اسبانيا. فيا ليت الأمة تفيق من سباتها وسنتها العميقة وتنادي من مآذن المساجد للحب والعمل والرأفة والتراحم والوئام وأن يتركوا فتاوى العداء والرفض الزائف لكل ما جاء من ابناء المسيح. فالرسول عليه أفضل الصلاة والسلام عاش في سلام مع الأقليات اللاهوتية الأخرى كما عاش أهل الأندلس وأخرج هؤلاء خير ما رأت الأمة من حضارة وازدهار. فهل لنا فيهم من مثال.

أولا: الغرب والشرق بين الهجوم والهجوم المعاكس

إن موضوع تقبل حضارة ليس حضارتنا سيما من ديانة التي تعتنقها الأغلبية الكاسحة، للأكثرية معادية، تبعث فيه أبعاد خطيرة يجب علينا أن نقف إليها وقفة حكيمة، إذ أن الغرب قديما، وفي فترة اشتد فيها العداء للمحمديين، نهل من منابع حضارة الإسلام إلى أن بلغ عصر التنوير الذي كان الانطلاقة الجبارة لعلمه ورقيه وسموه الإنساني في العصور السابقة وإلى الآن. الملاحظ أنه رغم عداء الجماعات الإسلاموية للغرب لكنها في كل الحالات والنكسات تلجأ إليه. فهي ترى فيه النجدة والسلوى عندما تشتد الحاجة بها وحينما تفتقد إلى الحيلة لا تولِّي وجهها إلى قبلة الغرب المسيحيّ. وهانحنذا نرى بأم أعيننا كيف خلص الغرب العرب في ثوراته العديدة (بتونس وليبيا) من طغاتهم الذين بلغوا من عمر السلطان ارذله - وكان القذافي آخرهم والبقية تأتي.

عزيزتي القارئة وعزيزي القارئ إن أهمية موضوع تلاقح الحضارات واستعارتها من بعضها البعض ليست فقط هامة من وجهة نظر علمية أو أكاديمية ولكن من وجهة نظر أخرى، تخصنا، سيما في وضعنا الحالي الذي لا يفتأ أن يتأزم سنة تلو الأخرى. نرى بأم أعيننا تداعيات الاصطدامات الثقافية والدينية بيننا وها هي مصر قد انقسمت إلى فرق وليبيا وتونس كذلك وهلم جرّ. لا تزال نيران الفتنة تأجج القلوب وتحضّ الأفئدة إلى الانشقاق القبليّ والبغضاء الثوريّة والعنصرية الحزبيّة والدينية الدامية، فماذا جنينا من كل هذا بربكم ndash; غير وجع الدماغ!؟ إذا فشأن هذه المسألة يُعنى بقضايا تسامح الحضارات والثقافات والأشخاص الذين يعيشون فيها ومما في ذلك من أهمية في تطور الإرث الثقافي والحضاري لنا ولغيرنا دون النظر إلى المنتميات، عرقية كانت أم لاهوتية. فطنت دولة قطر والإمارات في استجلاب الفكر الغربي في جامعاتها ومؤسساتها العلمية والحكومية ونحن نرى الآن ما وصلت إليه دولة قطر من تقدم وازدهار وهي فطنت لأهمية هذا التواصل بينها وبين الدول التي تنتج العلم والفكر في كل المجالات: الطب الهندسة والزراعة والسياسة والتعمير وحتى في المجالات الرياضية صارت قطر مثال يتحذى به في العالم. وهكذا فعل أهل الأندلس ونقلوا علومهم إلى باقي أنحاء أروبا فنشأت حركة الترجمة والتواصل بين العلماء والخبراء في كل المجالات فأسسوا حصيلة وذخيرة علمية كان الانطلاقة الجبارة لحضارتهم التي صرنا نحن عالة عليها، لأنا نستورد منهم كل كبيرة وصغيرة من الإبرة والجوال والتلفاز إلى الطائرات الخ.

ثانيا: المساهمة العربية الإسلامية في حضارة أبناء المسيح:

لقد أهتم حفنة من الباحثين بدراسة الأوجه المتباينة لتأثير التراث الإسلامي العربي في الحضارة الغربية في القرون الوسطى وضمنت محاولاتهم نتائجا طيبة، بيد أن الكثير من الحقائق المتعلقة بهذا التراث لا تزال غامضة وغير مدروسة فضلا عن اكتشافها من قبل الباحثين. فالمكتبة العربية الإسلامية تفتقد وإلى الآن لأبحاث ودراسات شاملة في هذا الحقل الهام لتتمكن من تقييم مدى المساهمة الإسلامية في الحضارة الغربية وأهم آلياتها التي استوعبها الغرب وهضمها إلى أن بلغ من الشأن أزهره. وهل لنا في ذلك من عبر لنخرج بلادنا وأهلينا من الظلمات إلى النور بإشراقة عهد تنوير يشع سناه في بلادنا ويكون لنا نقطة انطلاق جديدة لعهد مزهر وحضارة ترفع من شأونا بين الأمم لكي يساهم العربي والإفريقي في المنظومة العالمية مساهمة رئيسة ولكي نبتعد عن الاستكانة وسهولة الاستيراد (ونأكلها ونحن راقدون على جنوبنا). فلينظر كل منّا في منزله ليعد ما أتى إلينا من الغرب أو قل من اختراع الغرب: الموبايل، السيارة، الدواء، اللبن المجفف، الحلوى بأنواعها، التلفاز، الفيديو، الفيس بوك، الواتس أب، القوقل، الكتب العلمية في الجامعات، الخ والقائمة تحتاج لأيام حتى تكتمل إن. من جهة أخرى نفتقد بصورة جليّة لأبحاث أساسيّة وتحليلات علميّة جادّة لمعرفة ماهيّة الأسباب التي أدت إلى الركوض الحضاري للشعوب العربية الإسلامية بعد أن كان لها الصدارة في تلك الحقبة.

يعطي بعض المفكرين الحروب الصليبية نصيب الليث في لون أو قل تسمم العلاقات بين الشرق والغرب. لكن في الحقيقة إن تلك الفترة لا تمثل سوى حلقة صغيرة - بالمقارنة ndash; من حلقات الصراع ومراحل التأرجح العديدة بين الهجوم والهجوم المعاكس بين الكتلتين النصرانية والإسلامية. والجدير بالذكر أنّ على مدى ألف سنة ومنذ أول حملة انزال من المغرب باتجاه جبل طارق وحتى الحصار العثماني الثاني حول فيينا، ظلت أوربا تحت سيطرة الإسلام. لذا هم يدينون لحضارتنا وثقافتنا الكثير.

ثالثا: ضرورة الاحتكاك الحضاري في تقدم الشعوب:

لقد بلغ الاحتكاك الحضاري القرون الوسطى المتقدمة أوجه وصار واقعا ملموسا بكل أرجاء أوربا. فبدأ الغرب وأهله حينذاك يعنون بالتراث العربي الإسلامي وأيما اعتناء. لكن إذا سألنا أنفسنا ما هي أغراض وأهداف هذا الاهتمام؟ هل أرادوا فقط استخراج الكنوز الثقافية التي ألفها علماء العرب أو التي أُلفت في حقبة حكمهم بشبه الجزيرة الإيبيريّة؟ هل نشدوا التقليد والمحاكاة للوصول إلى ضالة منشودة ألا وهي بناء صرح كالذي وقف شاهدا على فطنتهم الثاقبة وذكاءهم الحاد؟ على كل حال لقد أولع أهل الغرب بالعلوم الإسلامية والعربية أيما ولع فنشطت عهدذاك حركة العلوم وانتشرت مجالسها وأنشأت المكتبات واقيمت المدارس الأكاديمية ونشطت الترجمة ودورها في النقل ولم تستطع في تلبية الحاجة الماسة للمؤلفات التي ترجمت إلى اللاتينية ومن ثمّة الاسبانية والكتلانيّة. وتوازا قانونا العرض والطلب بيد أنهما قد عجزا في تلبية العطش الكثيف والمتصاعد لفهم وهضم هذه الحضارة البديعة. لذا أخذت اللغة العربية في الانتشار السريع، كالنار على الهشيم؛ وصارت في فترة وجيزة بين أهل اسبانيا وايطاليا والبرتقال لغة العلم، الأدب، الفن والحضارة. وطغت على اللغة اللاتينية التي كان مواطنو شبه الجزيرة الإيبيرية يتداولونها كلغة شفاهة محلية. لعمري لقد أفتتن أبناء المسيح وانسان الغرب بالحضارة الإسلامية وبطرق معاملتها لأهل البلد وكيف فتحت لهم آفاقا لم يكونوا يحلمون بها. فأسلم الكثير منهم وما زالت اسماء القرى واسماء بعض الأسر بإسبانيا وجنوب فرنسا مرصعة بحُليّ الكلم العربي. ونشط الطلاب فيهم من النهل من معين هذه الحضارة الجديدة ودراسة اللغة بوجه يتيح لهم الاستفادة القصوى من الدرر الكامنة فيها. فدعت الحاجة الماسة لإقامة مدراس استشراقية للترجمة والنقل بطليطلة ثم انتقل فيروس الحضارة بعد ذاك لأجزاء تالية، إلى جنوب فرنسا وإيطاليا، فما كان من أولئك الأهالي ألا أن أقاموا مدارس العلم والترجمة. وهذه الأخيرة يمكن أن نعتبرها عاملا هاما جدا في توطيد العلم وترسيخ الازدهار لتلك الشعوب وهي من أهم العوامل في تقدمها. وقام فطاحلة اللغة بترجمة أمهات الكتب العلمية من العربية إلى اللاتينية. وترجم الكتاب في الطب لابن سينا واتخذ كأول منهج لتدريس الطب في الجامعات الأوروبية. وكان الاهتمام لأمر الترجمة سلاح ذو حدين: الأول هو النهل من منابع علماء العرب والثاني والذي تبلور بعد عدة قرون من دخول العرب الأندلس، كان يصبو لمحاربة الإسلام ndash; هذا الدين الذين دخل فيه الأوربيون أفواجا. فما كان من رجال الدين إلا أن يوقفوا زحفه. وهنا نرجع مرّة أخرى لبعض رجال الدين والأثر الهام في هدم الحضارات ونزغ البغضاء والكراهيّة بين الناس.

رابعا: التلاقح الأدبيّ بين الشرق والغرب.

جوته (من الديوان الشرقيّ للشاعر الغربيّ):

نجمي هو الشرق، إقليم ساطع،
حيث الشمس زاهية كملكة في خيمتها!
قرصها يتنزَه في سماء دائمة الصفاء
هكذا تحمل الأمير ذي بقعة ثرية
على أنغام الناي المقدس
شهرة سفينة ذهب على بحر أزرق

القارئ للأدب العربي الآني عند الطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال وعند يحيى حقي في قنديل أم هاشم وعند توفيق الحكيم في عصفور من الشرق ربما يلتمس بعض تداخلات أسلوبية ومهارات سردية جمة تتسم بالازدواج بين العالم العربي والغربي. وهكذا كان حال قدامى الغربيين عندما افتتنوا بالأدب العربي فنهلوا من معينه إلى أن طوروا آدابهم ووصلوا بها إلى درجة العالمية. إن هذا المقال ينشد استخلاص العبر والتدبر في ما كان وما يجب أن نلجأ إليه ونحن في محنتنا الثقافية الحالية. وهل تعلمون أن العالم العربي بأجمعه، من الخليج إلى المحيط، لا ينتج - وإن كان بعضهم لبعض ظهيرا - إلى ٥٪ من الإنتاج الثقافي لدولة إسبانيا فقط، المتمثل شكل المؤلفات المكتبية. وهاهنا أعطى بعض الأمثلة لذلكم التمازج الثقافي والتلاقح الأدبي ولما فعله الغربيون عندما كان إنتاجهم الثقافي لا يصل إلى ١٪ من إنتاج العرب. فأين هم الآن وأين نحن؟

خامسا: أدب العرب أنموذج لانطلاقة أدب الغرب:

كما نعلم بقيت القافية في الشعر الأوربي (إن جاز التعبير) إلى يومنا هذا دليلاً بينا يرمز لفضل العرب على أدبه. لقد كان اهتمام الشاعر العربي في تكوين قصيدته بقافية رنانة ومقدمة عصماء تشحذ وتشد انتباه المستمع، ملكت على شعراء الغرب ألبابهم، خصوصاً مما تضفيه تلكم القافية من رونق لحني َ على المضمون. فأخذوا يقلدون ألوان الشعر العربيَ. فالزجل فن من فنون الأدب العربي ذاع في الأندلس ومنها انتقل إلى جنوب فرنسا وكانت نتيجة هذا الامتزاج الأدبي ظهور شعر الشعراء الجوالين أو شعراء التروبادور في إسبانيا ومنهم من كانوا يكتسبون لقمة العيش في الطرقات بإنشادهم الأشعار على أنغام الموسيقى. والجدير بالذكر أن الأغاني التي كان يتغنى بها هؤلاء الشعراء توحي من حيث موضوعاتها وأساليبها وطريقة إنشادها بأنها من أصل عربي. فنحن نجد كثير من التماس الأدبي في موضوعات الحب العذري والحنين إلى الحبيب مما نجد أصوله في قصص الحب العذري عند عنترة وقيس من القدامى وعند ابن زيدون وعند ابن حزم الأندلسي في quot; طوق الحمامة في العشق والعشاق.quot; أخيراً يجب أن لا ننسى أن ابن غزمان أشهر الزجالين في الأندلس كان معاصراَ للأوائل من شعراء التروبادور.

أما فيما يتعلق بفن القصة، فكانت القصص الحيوانية الذائعة في العالم الإسلامي آنذاك فناً من الفنون التي لم تعرفها الآداب الأوروبية - بشكلها الواسع - فاقتبستها وصارت فنا من فنونها وتطورت بعد ذلك. وقد ساعد على نقل هذه الأقاصيص التجار والرحالة وطلبة العلم والمترجمون، فبفضلهم وبفضل أدباء المسلمين تعرَفت أوروبا على قصص الخرافات الحيوانية ككليلة ودمنة عبر اللغة العربية ونقلاً من الأصل الهندي quot;باشا تنتراquot; إلى الفارسي فاستوحى منها الأديب الفرنسي لافونتين قصصه الخرافية المعروفة ب quot;لي فابل دو لا فونتينquot;.

ومن المدهش أن أهل الغرب ذهبوا إلى نطاق وعر آخر وحاولوا فك طلاسم فن المقامات التي نعرفها في الأدب العربي عند بديع الزمان الهمذاني وعند الحريري. لقد اشتهر فن المقامات كما نعلم بشخصيات معروفة كالحارث بن تمَام. فظهر في القرن السابع عشر في الأدب الإسباني فن يشابه فن المقامات لأبعد الدرجات، فالبطل يتمتع بصفات بطل المقامات الحريرية أو الهمذانية بذكاء شيطاني في ابتداع الحيل وخلق الألاعيب لكسب الرزق، فبطل المقامات الإسبانية، إن صح التعبير، يدعى بيكارونPicaroon وهو متشرد يكسب رزقه عبر الحيل. لقد وجد هذا الفنّ رواجا وقبولا كبيرا عند أهل الغرب سيما في شبة الجزيرة الإبرية.

وفي فن القصة القصيرة لم يتوانوا في التهام كنوز الأدب العربي. فمن القصص التي ذاع صيتها ووجدت رواجاً فائق المدى، هي قصص quot; الف ليلة وليلة quot; والتي ترجمت في فرنسا بين عامي ١٧٠٤ - ١٧١٧ وظل المؤلفون يعتمدون عليها في أعمالهم الأدبية. من جهة أخرى نذكر أن من الأدباء الألمان الذين تأثروا بهذه القصص هوجو فون هوفمانستال والشاعر جوته والأديب ريلكه. وكان نجاح هذه القصص يقوم على أنها ملأت مخيَلة الأديب الأوروبي بخيال خصب وأفكار فردوسية نقلته من واقعه المرير الممتلئ بالحروب والصراعات الكثيرة المعروفة إلى حلم بديع ينبض بصورة خيالية سحرية جنونية فكانت القصص عبارة عن نافذة تطلَ على عالم بديع يتسنى لكل ظمآن أن يشفي عليل خياله منه. ويستشهد المستشرق الإنجليزي وارتون في كتابه تاريخ الشعر الإنجليزي الذي نشر عام ١٧٧٠ أن الحركة الرومنطيقية في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر التي حملت أفكار تعبر عن الخيال والقلب والشعور وإدراك الجمال بدلاً من الحركة الكلاسيكية التي اعتمدت على العقل والمنطق، هي بلا ريب، نتاج عربي خالص. وأن قراءة الكوميديا الإلهية لدانتي تشهد بتأثره بالتراث الإسلامي العربي. أيضاً نجد نفس الأثر عند فيكتور هيجو في مقدمة ديوانه الشرقيات ولقد تعرض الكاتب في ديوانه هذا لذكر الحياة الشرقية ومدن الشرق.


فهل لنا في هذا الحقيبة من عبر؟!


وللحديث تتمة