عندما يقف الواحد منا ndash; أثناء قراءته للتاريخ ndash; على أحداث معينة، فإنه كثيراً ما يجد نفسه مشدوداً إلى عقد مقارنات بين تلك الحوادث التاريخية التي يقرأها ويقف عندها، والعصر ndash; الراهن ndash; الذي نعيش فيه، فتتداعى الحوادث والشخصيات التي تحرك الأحداث، فلا نملك بعدها إلا أن نقول فعلاً: (أن التاريخ يعيد نفسه)!!
وأنا لا أريد الوقوف أمام التاريخ ومقارنته بما يجري في سوريا، وإنما سأدخل إلى حقبة تاريخية ndash; محددة - مرّت على فرنسا عام (1794)، هذه الحقبة إتسمت بالإرهاب لأن حكامها وقتذاك كانت نفوسهم عطشى لشرب الدماء وإجتثاث الرؤوس، فاصطبغت المرحلة بصبغة الرعب والهلع، التي سيطرت على نفوس الناس جميعاً حتى لم يعد أحد يأمن على نفسه وماله وعرضه، وصار الإنسان يخشى من أقرب المقربين إليه!!.. فقد كانت مجرد نظرة يفسرها أقل جندي من جنود (روبسبير) تفسيراً معيناً، تؤدي بصاحبها إلى المقصلة..
حتى نواب المجلس التشريعي أنفسهم كانوا يرتجفون ويرتعدون هلعاً ورعباً من مجرد ذكر اسم (روبسبير)، الوحيد الذي كان يظن أنه في مأمن من الشر هو (روبسبير) نفسه!!.. ولكن كيف كانت نتيجة هذا الـ (روبسبير)؟!!
هذا ما سنعرفه بعد أن سمحت لنفسي بالدخول إلى هذه الحقبة التاريخية لأنقل عنها صورة حية ملتزماً بنصوص ما دونتّه كتب التاريخ.
ولنبدأ دخولنا بهذه الحادثة التي وقعت لفتاة ndash; في ربيع العمر ndash; كانت واقفة لساعات طوال أمام مخبز لتشتري خبزاً لأسرتها، ولكن بعد أن طال إنتظارها حدث التالي:

الفتاة: متى نحصل على الخبز أيها الخباز؟!
الخباز: طلباتكم كلها في الفرن.. إنتظري حتى يأتي دورك!
الفتاة: ولكن الحياة بهذا الشكل لا تُطاق!!..
أحد المنتظرين: (محذراً بصوت منخفض) اسكتي يا ابنتي، فإن الحيطان لها آذان!!
الفتاة: (بتحدٍ وإصرار) إنما أنا أقول الحقيقة!!
الخباز: أية حقيقة؟.. كأنكِ أيتها الفتاة ضد النظام؟!!
الفتاة: ولم لا؟!.. أتمنى نظاماً أكثر أماناً واطمئناناً للناس!!.. إن هذا النظام يحمي من يسيرون في فلك الطاغية من عصابة وزمرة (روبسبير)!!..

* * *
bull;إلى هنا نتوقف عن نقل الحوار، لنصف ما قد حل بتلك الفتاة إذ خرج أحدهم من الطابور وطلب إلى إثنين ممن كانوا يأتمرون بأمره بإلقاء القبض على الفتاة بتهمة التآمر على النظام، وبعد أن فتشوها فلم يجدوا معها شيئاً أُخذت مكبلة إلى بيتها، وتم تفتيش كل أفراد أسرتها، وإذا بها أسرة فقيرة، لا شأن لها بالسياسة.. الأب حذّاء فقير، والأم تقوم بغسل الثياب، وما هي إلا أيام قليلة، وإذا بالفتاة والأب والأم والأخوال والأعمام وأبناءهم جميعاً ndash; حتى الأطفال ndash; بل من يتعاطف معهم من الأصدقاء، كلهم في قفص الإتهام بعد أن صدر الحكم بإعدام (65) شخصاً بالمقصلة!!

* * *
bull;وأقول لـ (روبسبير):
- ماذا حدث؟.. ما الذي جرى لهذه الدنيا؟!.. لماذا غدا عندك الإنسان أقل شأناً من البعوضة؟!.. لماذا أصبح الانسان يُساق كالأغنام إلى المقصلة؟
- إن وجود تنظيمات معادية، هو الذي يحفزني للقضاء عليها، بضمير مرتاح!!
- وهل يستريح ضميرك أمام القتل المنظم؟
- كل شيء يتم بموجب القانون!!
- أي قانون؟.. قانون الإشتباه؟!.. الذي يُطبق بدون محاكمة؟!
- إنني ومن أجل المصلحة العامة سأصفي كل من يعارض سلطاتي، حتى ولو بنواياه غير المعلنة!!.. إن مجرد عدم التصفيق لأعضاء النظام أثناء سيرهم في الطريق، جريمة عقوبتها الإعدام!.. أما أولئك الذين يذكرون اسمي بدون توقير وتبجيل وإحترام، فإنهم سيدفعون ثمناً غالياً بأرواحهم وأقربائهم وممتلكاتهم!!..
* * *
وأترك (روبسبير) لأذهب إلى (فوكييه) وهو مسؤول مخابرات(روبسبير)، وهو الرجل الذي يستمتع بلذة ما بعدها لذة عندما يشاهد الكائنات البشرية تذوب في أحواض (ماء النار)..
bull;في غرفته ذات الطابع الخرافي بما تحتويه من أدوات الفتك والهلاك، سمعته يحاور إحدى السيدات على الشكل التالي:
- إذاً أنتِ تريدين عودة النظام القديم؟
- نعم.. إنه أكثر إطمئناناً من نظامكم!!
- وهل من أسباب أخرى تدعوك لتحبيذ نظام ما قبل نظامنا؟!
- نعم.. إنه يعفيني من المثول أمام محاكم التحقيق المستمرة!!.. ويعفيني كذلك من النظر إلى وجهك الحافل بكل إمارات الإجرام.. ثم إنك لست قبيح المنظر فقط، وإنما أنت جزار بشري!!
- من منا يتهجم على الاخر؟!.. أنتِ أم أنا؟!
- لأنني أعرف المصير الذي ينتظرني لمجرد كوني دخلت مكتبك!.. لذا فأنا أبصق على وجهك ووجه سيدك (روبسبير)!!

* * *
bull;وأسأل السيد (فوكييه) عن سر سعادته، وهو يتفنن بابتداع وسائل القتل حيث أن السيدة التي كان يخاطبها قد شُدت من رجليها إلى حصانين، طُلب إليهما أن يسيرا في إتجاهين معاكسين فإنقسمت السيدة إلى قسمين، وبينما كان هو يشاهد هذا المنظر، كانت تصدر عنه قهقهات السعادة.. فأجابني:
- أنت كاتب.. كم تتلذذ عندما تنتهي من كتابة فكرتك أو موضوعك؟!.. فالمعادلة إذاً بسيطة، كل منا يسعد بما يحققه من إنتاجه!!
- ولكنك جزار بشري؟!
- هذا من منظورك!!.. أما من وجهة نظري، فأنا أقوم بواجبي على الوجه الأكمل من أجل إستتباب الأمن!!
- الأمن؟!.. أي أمن؟!..
- أمن البلاد من المخربين وأعداء الوطن.. ولكي تتأكد من ذلك، فإنني أدعوك لمرافقتي في جولة لترى بعينك كيف سيستقبلنني الناس من مناصري نظامنا ومؤيديه.

* * *
ذهبت معه في رحلة لأجد أن هناك ndash; عصابة ndash; الهتّافين والهتّافات
، ولست أدري أكانوا من المأجورين أو من الخائفين وهم يرددون هتافات وشعارات تكاد أن تضع (روبسبير) في صفوف القديسين والعظماء!!
وبينما نحن نسير وإذا بجوٍ يسوده الوجوم قد خيّم على الجميع.. فلا هتاف.. ولا تطبيل!!.. ما الذي حدث؟!.. ماذا جرى للناس؟!..
bull;وإذا بنا وجهاً لوجه أمام المقصلة، حيث تم إستئصال أكثر من سبعين رأساً، ولم يعد في العربات المحملة بالأجساد البشرية غير إثنين هما: الآنسة(سيسيل رينو) وهي الفتاة التي كانت في طابور الخبز تنتظر دورها في المقصلة بعد أن أعدم جميع أفراد عائلتها.. و(سيسيل) تُعد من أجمل الفتيات اللواتي عرفتهن باريس، وهي أبعد ما تكون عن العمل السياسي، أما الثاني فهو شاب ضئيل الجسم جاء مصادفة إلى باريس من بلدته (دول) ليشتري بعض الجلود لدكانه، وسار مع الحشود لمجرد الفرجة على المقبوض عليهم، وفجأة وجد نفسه يُساق مع الذين ستفصل المقصلة رؤوسهم عن أجسادهم، وبينما كنت أشاهد هذا الجو الكئيب الصامت، وإذا بصوتٍ يصيح:
- quot; أطلقوا سراح (سيسيل).. ألا يكفيكم أن أعدمتم كل أفراد أسرتها؟ quot;
لكن (فوكييه) لا يعبأ بما سمع، ويأمر الجلاد الذي كان متردداً بالإقتراب من (سيسيل) الجميلة.. يأمره بتنفيذ حكم الإعدام عليها.. وفي هذه الأثناء تتجه هي بنظراتها نحو (فوكييه) وتطلب منه برقة أن يأمر بدفنها مع أمها وأبيها وأشقائها، فلما سمع الجلاد ذلك سقط مغشياً عليه!!
وإذا بالمتفرجين، تصيبهم حالات من الهياج، فيقتحمون موقع المقصلة، ليحولوا دون إعدام أجمل فتيات باريس..
وفي هذه الأثناء ينتهز الشاب الضئيل الجسم الفرصة، ويتسلل وهو في حالة من الرعب لكي يخرج من باريس كلها، وتتصاعد حالات الهياج ضد الحكم التعسفي (لروبسبير) وأعوانه.. إلى أن تصل فرنسا لما هي عليه اليوم بعد أن دفعت ثمناً باهظاً حيث تطوحت الرقاب، وأُزهقت النفوس.. وأصبح ذكر (روبسبير) في أنجس مزابل التاريخ وأوسخها!!

* * *
هناك أمرٌ طريف استوقفني قبل أن أختتم هذه المرحلة التاريخية التي أرجو من قارئها ألا يجد كبير عناء بمقارنتها مع أحداث نعيشها في وقتنا الراهن في سوريا!!..
وهذا الموقف الطريف هو: أنه منذ سنوات وقف أحد العلماء في باريس ليقدم بحثاً طبياً جديداً أمام جمعية العلماء الفرنسية، وكان أثر هذا الإكتشاف الطبي أن قضى على الجراثيم والميكروبات التي كانت تفتك بالإنسان، وكان مقدم هذا البحث هو (لويس باستير) وهو حفيد ذلك الرجل الضئيل الجسم الذي نجا من المقصلة وعاد إلى مدينته (دول) ليتزوج ويكون له أولاد وأحفاد ومنهم (لويس باستير)!!
فكم من الجرائم ارتكبها روبسبير وأشباهه؟!!.. منذ ذلك التاريخ وحتى كتابة هذه السطور؟!..

* * *
bull;لا أظنني قد ابتعدت كثيراً في نقل صورة بشار الأسد التي رأيتموها في شخص روبسبير، والحكم الطاغي الذي ابتُليت به سوريا منذ أكثر من أربعة عقود..
قد يسأل سائل: ما النهاية؟!.. نهاية بشار؟!!..
لاشك أن حتمية التاريخ تقول أنه سيلحق بروبسبير وصدام وموسيليني وستالين وكل من أجرم بحق الانسانية.. أما متى؟!!.. فهذا ما سيجيب عليه المستقبل القريب.