quot;أنا أشتم النظام إذن أنا معارضquot;، هذا هو الكوجيتو الذي بات الأكثر سطوةً على عقل الكثيرين من أهل المعارضات السورية، خصوصاً تلك التي اتخذت من quot;سياسة قتل الناطورquot; منهجاً لها، ومن قانون حمورابي، سيد وإله بابل، quot;العين بالعين والسنّ بالسنquot; شرعاً لها.

فقلّما تجد معارضاً سورياً قادماً من رماد هذه الثقافة، يتحدث إليك بلغة السياسة ومتطلباتها، بإعتبارها لغة مصالح ومصالح مضادة أولاً وآخراً. فما أن يبدأ أحدهم بالحديث في الفضاء المتاح، عن الوضع السوري وعن الثورة، حتى يبدأ بكيل الشتائم للنظام ورموزه، من أوله إلى آخره، ربما تقليداً لبعض شعارات الثورة التي أصبحت عقلها، مثل quot;يلعن روحك يا حافظquot;، وهو الشعار الذي حوّله أهله إلى quot;سيمفونياتquot; وquot;أغانيquot; للعن كلّ ما يتعلق بالأسد الأول وآله، وأصله وفصله، وروحه وما وراءها، ودينه ودنياه.

كان من الممكن فهم الأمر على قدّ حاله، كما يُقال، لو بقيت الظاهرة مجرّد حالة ثورية عابرة، يمكن أن تشهدها أية ثورة، أو أية حالة فوران شعبي. أما أن تنتقل هذه الظاهرة إلى أهل السياسة، لتصبح عادة quot;كبيرةquot; من عادات الثورة السورية، أو تقليداً من تقاليدها quot;المقدسةquot;، فهذا يرسم أكثر من إشارة إستفهام حول سياسة الثورة وعقلها.

أثار قيام المعارض السوري ميشيل كيلو، مؤخراً، أثناء مقابلة متلفزة معه، بالترحم على الأسد الأول حافظ، حفيظة الكثيرين من النشطاء والسياسيين السوريين، وكأنه نطق كفراً. علماً أنّ quot;ترحمه على الأسدquot;، وهو الميت الميت، وquot;الضرب في الميتِ حرامquot;، كما يُقال، جاء في سياق الحديث عن quot;كوارث الأسد الكبرىquot; التي أنزلها على سوريا وquot;طبّشهاquot; برؤوس السوريين، على حدّ قوله.

الرجل، بغض النظر عن الإتفاق أو الإختلاف معه، تحدث في السياسة بلغة هادئة، كمعارض شاهد على حكم الأسد، وحللّ وانتقد بشدة دنيا الأسد كسياسي، أولاً وآخراً، له ما له وعليه ما عليه، حكم البلاد ثلاثة عقود من الزمن الصعب، تاركاً quot;نقدquot; موته وآخرته لله، القادر الوحيد على أن يرحم من يشاء، ويعذّب ويلعن من يشاء.

كيلو، خرج بكلّ تأكيد، بإيتيكيته السياسي هذا، على quot;تقليدquot; الثورة، وغرّد خارج سرب جلّ سياسييها، لكنه تغريدٌ لا يستحق كلّ هذا quot;التكفير السياسيquot;، وكأنه كان أو أصبح شريكاً للأسد في ظلمه وديكتاتوريته وصناعته للمجازر بحق الشعب السوري أوائل ثمانينيات القرن الماضي.

أفهم النظام ارتكابه quot;ثقافة الشتمquot;، وصناعته لها، بإعتبارها quot;إرهاباً معنوياًquot; بإمتياز. لكنّ الذي لا يُفهم، ويترك وراءه ألف سؤالٍ وسؤال، هو تقليد المعارضة للنظام نفسه، وركوبها الإرهاب ذاته، والمعنويات ذاتها، واستساخها المشوه للثقافة ذاتها، وإعادتها لإنتاجها، لكأنها quot;ثقافة ثوريةquot; بإمتياز.

أفهم خروج النظام عن كلّ ما هو مألوف، وركوبه هذه الثقافة بإعتبارها سلوكاً ومنهجاً في كلّ quot;ممانعاتهquot; وquot;مقاوماتهquot;، طيلة عقود quot;ممانعةquot;، لكنّ الذي لا يُفهم، هو تحوّل الثقافة ذاتها، والشتيمة ذاتها، إلى quot;سلوك ثوريquot;، يقوم ويقعد به المعارضون السوريون، في خطاباتهم وتحليلاتهم ومداخلاتهم، التي فيها من quot;صناعة الشتيمةquot; أكثر من صناعة السياسة، ومن روحية النظام أكثر من روحية الثورة عليه.

لماذا كلّ هذا الشغف من جانب أهل المعارضات السورية، في تحويل السياسة إلى quot;كومةquot; شتائم أو quot;كمشةquot; لعنات؟
ثمّ متى كانت الشتيمة سياسةً أو عقلاً للثورة؟

لماذا كلّ هذا الإصرار على تربية ثورة بكاملها على ثقافة، لا يمكن لها إلا أن تكون تكراراً لإنتاج ثقافة فاشلة، والتي لن تنتهي في النهاية إلا إلى سوريا فاشلة، بشعب فاشل، وحرية فاشلة؟

والأنكى أنّ هذه quot;الثقافة الثوريةquot; لم تقف عند حدود شتم آل الحكم وصحبه فحسب، وإنما تمّ تعميمها لشتم طائفة (طائفة النظام) بأكملها، وشتم كلّ ما حولها، من دول وأنصاف دول.

ما تشهده سوريا اليوم من شتم وشتم مضاد، على المستوى السياسي، يُترجم فعلياً في ساحات المعركة من الجهتين، سواء عبر إرهاب الأحياء أو عبر quot;إرهابquot; القتلى والأموات، حيث لا يكاد يمرّ يومٌ إلا ونرى جثثاً من الطرفين، النظام والمعارضة تُشتم وتهتك ويُمثل بها، على مرأى العالم ومسمعه، لدرجة أصبح ذلك quot;تقليداًquot; يمارسه كلّ طرف ضد قتلى وأموات الطرف الآخر.

فquot;نظرية الشيطنةquot;..أو شيطنة الآخر، التي طالما اشتغل عليها النظام السوري، لإقصاء وإلغاء ومحو كلّ مخالف له، يبدو أنها تحوّلت إلى quot;شيطنة مضادةquot;، لدى بعض غير قليل من أهل المعارضات السورية. فما أن يقوم أحد (أياً كان هذا الأحد، حتى إن كان بالضد من النظام مئة في المئة) بنقد سلوكيات الثورة والثوار، فسرعان ما يبدأ أصحاب هذه quot;النظرية المعارِضةquot; المستنسخة من quot;فلسفةquot; النظام وquot;عقائدهquot;، إلى شيطنته وإلصاق كلّ التهم به، من quot;الخيانة العظمى للثورةquot; إلى quot;الخيانة العظمى لله ورسله وكتبه وآله وصحبه أجمعينquot;.

صحيح جداً أنّ النظام مدنسٌ جداً، ولكنّ الثورة كلّها ليست مقدسةً!
صحيحٌ جداً أنّ النظام قبيحٌ جداً، ولكنّ الثورة كلّها ليست جميلةً!
صحيحٌ جداً أنّ النظام ديكتاتور جداً، ولكنّ الثورة كلّها ليست ديمقراطية!
صحيحٌ جداً أنّ النظام سجنٌ وسجّان في آنٍ جداً، ولكنّ الثورة كلّها ليست حريةً!
صحيحٌ جداً أنّ النظام مخرّب جداً، ولكنّ الثورة كلها ليست بنّاءة!
صحيحٌ جداً أن النظام كان ولا يزال مشروع حربٍ شاملة على سوريا، ولكنّ الثورة أيضاً ما عادت على سوريا برداً وسلاماً!

[email protected]