الان ستكون خمس سنوات مرت على تسلم الرئاسات الثلاث المسؤولية في العراق. اعني ان سقوط نظام صدام وتاسيس مجلس الحكم من القوى المشاركة اليوم في الحكم والدولة في العراق كان بداية الحكم الجديد.وهذه مناسبة لرؤية التجربة السياسية الجديدة وقدرتها على التاسيس الصحيح لنظام ديمقراطي دستوري قانوني يستمد شرعيته من الدستور والقانون.
يمكن الاعتماد على حقيقة سياسية هي ان النظام الجديد تأسس على قيم وافكار وسلوك احزاب وتجمعات المعارضة السابقة لنظام صدام.لان النظام الجديد مفعم بروح تلك الاحزاب وبطريقة عملها وسلوكها وافكارها، الامر الذي اصبح يثير الان، وهي في السلطة والحكم، الكثير من ردود الافعال التي تقود الى توسيع الفجة بين الاحزاب ومصالح المواطنين في نظام انتخابي يفترض ان يقوم على قوة الروابط والاواصر بين الناخب والمنتخب باعتبار ان الثاني يمثل مصالح وآمال وحاجات ومتطلبات من انتخبه، ولذلك يسمى اعضاء البرلمان ممثلين للشعب.

الرسالة الاولى:
الى مجلس رئاسة البرلمان

وضعت قوى المعارضة السابقة التي اصبحت في الحكم قبل الانتخابات لبنات لتنظيم العملية السياسية وطبيعة النظام السياسي حرصت بشكل عام ان تكون ضامنة لوجودها في الحكم. وهو امر مشروع لحد ما مثل تشريع قانون انتخابات يعتمد على القائمة المغلقة وليس على الترشيح الفردي، وهو قانون اثبت الان انه يحتاج الى تعديل جوهري يضمن وجود نواب قادرين على تمثيل ناخبيهم ويكونون مسؤولين امامهم من جهة، ويكون الناخبون قد اختاروا شخصا بارادتهم وليس بارادة زعماء القوائم من جهة اخرى. هذا يعني ان تتوفر في النائب المرشح صفات ومعايير يقررها الناخب وليس زعيم القائمة لضمان نواب مؤهلين يتمتعون بالقدرة على تمثيل المطالب والحاجات ويدركون الواقع السياسي وتطوراته. واسوق مثلا واحدا من بريطانيا وانا اقول دائما ان المقارنة مع الشئ الحسن مفيدة وضرورية ولايرفضها الا من يسعى الى ان لاتنطبق عليه. هذا المثل هو مرشح بريطاني اعرفه شخصيا من قبل حزب المحافظين. لا اتحدث عن القوانين الصارمة التي حكمت سلوكه سواء في الدعاية الانتخابية او مرحلة الترشيح التي استمرت شهورا. فقد خضع لمقابلات سياسية في المقر الرئيسي لحزب المحافظين ناقشوه خلالها على عشرات المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقضايا النقل والصحة والتعليم والجريمة والعدالة والوضع الدولي والتاريخ وغيرها بحيث اضطر لطلب نصحي في بعض مسائل القراءة عن الشرق الاوسط والعالم بعد ان امده حزبه بعشرات المصادر.
استمرت فترة ترشيحه لاشهر كنت اراه خلالها مجهدا من التعرف والاطلاع والمناقشات والقراءة والسؤال ولقاء المواطنين، حتى ابلغ ذات يوم من قبله حزبه بان موعدا قد ضرب له من اجل مقابلة طبيب نفساني. سالني متعجبا وهو يحمل شهادة الدكتوراه ايضا ولماذا هذا الطكبيب النفساني. لم يكن لي جواب طبعا وبعد اسبوعين حدثني كيف ان هذا الطبيب كان يسعى الى معرفة جوانب في المرشح مثل القدرة على قول الحقيقة اوالكذب، او استخدام وسائل غير مشروعة في الحديث والسلوك والحكم على الآخرين.
لا نريد ان نطبق كل ذلك اليوم على النائب العراقي او المرشح لتمثيل الشعب، ولكن واقع البرلمان العراقي يشير الى فقر شديد بالسياسة وتاريخ السياسة وضرورات السياسة ووظيفة التشريع ودور النائب ومسؤوليته امام شعبه. فعضو البرلمان يفقد خصوصيته حالما يجلس على مقعد البرلمان ويصبح كما قال النائب وليم وندهام في القرن الثامن عشر( رغم اني لي شرف الجلوس في هذا المجلس كفارس من احدى المقاطعات فانا اعتبر نفسي مع ذلك واحدا من الممثلين لمجموع شعب انجلترا). وبالاطلاع على ملفات تاريخ البلمان في بريطانيا يمكن العثور على المئات من هذه الاقوال التي اصبحت مبادئ وقيما برلمانية مع مرور الزمن لتحدد واجبات عضو البرلمان بانه حالما يدخل برلمان وستمنستر يصبح ممثلا لمصالح الامة وليس مصالح حزبه.اما النائب وليم يونغ فيشرح الامر نفسه قائلا( بعد ان اخذنا مقاعدنا في هذا المجلس يجب على كل واحد منا ان ينظر الى نفسه كاحد ممثلي هيئة العامة في انجلترا وينبغي ان لايكون لدينا اي تحزب خاص للمقاطعة اوالمدينة او المركز التي نمثلها).
وتشتهر خطبة النائب ادمون بيرك التي يرددها نواب وناخبون كثيرون. يقول بيرك واصفا العلاقة بين الناخب والنائب(حضرات الرجال الافاضل، من المؤكد انه يجب ان تكون سعادة النائب في ان يعيش مع ناخبيه في اضبط وحدة واوثق العلاقات واكثر الصلات. ويجب ان يكون لرغباتهم اعظم وزن لديه، ولرايهم اسمى احترام، ولاعمالهم انتباه مستمر لاينقطع. ان من واجبه ان بضحي براحته وملذاته ومسراته من اجل راحتهم وملذاتهم ومسراتهم. وفوق كل شئ دائما وابدا وفي جميع الحالات ان يفضل مصالحهم على مصالحه الخاصة). ان البرلمان كما يعرفه بيرك( ليس مؤتمرا لسفراء ذوي مصالح متعادية يهم كل منهم ان يقف كعميل او مدافع عن مصالحه ضد العملاء الاخرين والمحامين الاخرين عن المصالح الاخرى، وانما الربلمان مجلس للمناقشة لامة واحدة ذات مصلحة واحدة هي مصلحة الجميع) ومن المعروف ان بريطانيا هي امة من اربع امم هي انجلترا وويلز واسكتلندا وايرلندا وكل امة لها علم ينضوي تحت علم الاتحاد البريطاني الشائع في العالم.
لقد خضعت قوانين الانتخابات البريطانية الى التعديل عدة مرات وشرع البرلمان نفسه عدة قوانين لمنع الفساد الانتخابي ومنه شراء الاصوات لقاء رشاوي ومبالغ طائلة، كان اهمها( قانون تحريم التصرفات الفاسدة وغير القانونية) عام1883( والتاريخ يعتبر قريبا جدا بالنسبة للديمقراطيات الغربية خاصة بريطانيا) بعد سلسلة ظواهر فساد كشراء الاصوات خاصة قبل اي يصبح الانتخاب سريا بصدور قانون الاقتراع السري عام 1872
ليساهم في جعل الفساد الانتخابي اكثر صعوبة اعتمادا على مبدأ صاغه دوق ارغيل الذي يقول( لايمكن ان يقال بان اي انسان يدلي بصوته بحرية حينما يعلم ان عيشه او جزء من عيشه يعتمد على اقتراعه بغير مايرضي ضميره)، ويضرب تاريخ الديمقراطية البرلمانية في بريطانيا مثلا على الفساد الانتخابي بانتخابات ليفربول عام 1830 حين تراوح سعر الصوت الواحد مابين 42 الى 250 دولارا باسعار ذلك الوقت.
ان هدف الانتخابات الرئيسي هو اختيار مجلس نيابي يصادق على حكومة ليراقبها ويجعل عملها علنيا ويشرف على اعمالها ويطالبها بتفسير كامل عن اي من اعمالها، التي اذا كان احدها مستحقا للاستنكار فعليه ان يستنكره، ويمنع تعسف اي من رجال الحكومة بسبب الثقة الممنوحة له اوالتفريط بالشعور العام الحازم والرصين للامة، وهذه هي فكرة الفيلسوف جيمس ستيورات ميل.
تتميز الديمقراطية البرلمانية بتحصيص وقت للاسئلة المقدمة الى رئيس الوزراء، وهي عادة ماتكون فرصة لنقاش بين الحكومة واعضاء البرلمان. وقد راينا مع الاسف ان كثيرا من اعضاء البرلمان العراقي لايحترمون برلمانهم ويستبدلونه بكاميرات الفضائيات. فبدلا من ان يكون نافعا ومفيدا ويقدم اسئلته لرئيس الوزراء والحكومة نشاهده خارج العملية السياسية والدستورية يستخدم النقد التشهيري الذي يساهم في عرقلة الاستقرار السياسي والامني ويعيق التحول الثقافي نحو الديمقراطية ويؤكد على مطالبه الحزبية والفئوية ويكرس دوره المذهبي او الديني او الحزبي ناسيا مطالب المواطنين،مقويا الحاجز بينه وبين حاجات ناخبي قائمته ملقيا لهم مزيدا من الاحباط والندم والاسى.
لقد اصبح للعراق برلمانه المنتخب عموما، غير ان الوظيفة التشريعية له ماتزال اسيرة الاهواء الحزبية والشخصية. وبدلا عن ان يكون البرلمان هيئة نيابية تنظر بعينها دائما نحو مصالح الشعب اصبح لحد ما خنادق توزع المكاسب الحصصية وتبني امجادا شخصية عبر الفضائيات والتصريحات، حتى تغلبت وظيفة التصريحات الاعلامية على وظيفة النائب ودوره التشريعي والرقابي وتمثيل مصالح الامة.
ان البرلمان مسؤول عن تكريس المحاصصة. فالذين يمثلون امامه لشغل المناصب والوظائف الكبرى يرشحون وفق الحصص والنسب وجميع اعضاء الربلمان ومجلس رئاسته يعرفون ذلك ويقرونه حينما يقرون ترشيح المحاصص لشغل منصبه.ان هذا العمل البرلماني موجه ضد مصالح الناخبين الذين ينتظرون ان يروا تقدما في الاجراءات والخدمات لصالحهم.وهو موجه ضد الديمقراطية التي تقوم على المواطنة وتحقيق العدالة في الخدمة المدنية عن طريق الحق والكفاءة والخبرة.
ان دليل تكريس هذه المحاصصة من قبل البرلمان ورعايته لها هو ان رؤساء الهيئات المستقلة، التي يفترض ان لاتكون حزبية ولا منحازة سياسيا، مثل مفوضية الانتخابات وهيئة الاعلام ومفوضية النزاهة وغيرها، يقرون من قبل البرلمان وهو يهرف انهم منحازون ومرشحون ضمن نسب المحاصصة، االمر الذي يلقي بظلال من الشك على نزاهة العملية السياسية التي هي ضمان نزاهة جميع القطاعات الاخرى.
ان التشريع صفة خاصة بالبرلمان. لكن كثيرا من الدول شهدت تفويض السلطات التشريعية للحكومة في اوقات مثل الحرب والازمات والكوارث الطبيعية وفقدان الامن، واهمية ترك التفاصيل الفنية للسلطة االتنفيذية المختصة، رغم خطورة مثل هذا التفويض وامكانية استغلاله بسبب البيروقراطية او المصالح السياسية التي يمكن ان تقيد الحريات المدنية كما حدث في الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر وانفتاح شهية الاجهزة الاميركية الرقابية للتنصت وملاحقة المواطنين للاشتباه بهم، الامر الذي تمت مقاومته لحد ما في بريطانيا في سياق سياسة محاربة الارهاب.
يقول الفيلسوف الفرنسي ومنظر الديمقراطية الان تورين( ان الحياة السياسية تصاغ من ذلك التعارض القائم مابين قرارات سياسية وتشريعية تحابي المجموعات المسيطرة، والدعوة الى اخلاق اجتماعية تدافع عن مصالح المحكومين)
ان برلمان العراق افصح عن ضعف واضح في قضايا التشريعات خاصة فيما يتعلق بالعنف والفساد وابقى مثل هاتين الظاهرتين جزء من التشهير والصراع السياسي الحزبي والحصصي.
ان عمر التجربة البرلمانية العراقية قصير حتى الان، كما ان التفويض التشريعي امر محفوف بالمخاطر في حكومة تقاوم اضعفاها واستضعافها سياسيا،ويمكن لمثل هذا التفويض ان يصيب الحكم الدستوري العطل او يوقف عمل البرلمان، لذلك فان البديل عن مثل هذا التفويض هو تحول البرلمان من هيئة احزاب تتنافس على المصالح السياسية الى برلمان لعموم البلاد يحث الحكومة على تقديم مشاريع قوانين لانجاز مهماتها والاسراع بها، لان مسؤولية البرلمان ليس الانتظار وترقب فشل الحكومة في ظروف ازمة كبرى، سياسية وفكرية وحقوقية وثقافية، وانما مسؤولية البرلمان ايضا، باعتباره سلطة رقابية، ان يحد من كسل الحكومة اذا كان مثل هذا الكسل واضحا، ويتسبب في حرمان المواطنين من حقوقهم بالحصول على الخدمات الضرورية وتطوير هذه الخدمات للوصل الى وظيفة الدولة الديمقراطية بتحقيق سعادة مواطنيها. فاين البرلمان من تحقيق هذه السعادة؟
حتى الآن لايظهر عمل البرلمان في تاكيد سيادة القانون وتحقيق العدالة وضمان الحقوق وتعريف الواجبات.وبما ان البرلمان قد فوض المجالس المحلية ومجالس المحافظات كثيرا من الصلاحيات وفق الدستور، فان تفويض الحكومة المركزية الاتحادية صلاحيات تشريعية محدودة وتحت ضمانات معينة خاصة وان اغلب اعضاء السلطة التنفيذية في العراق هم اعضاء في السلطة التشريعية(البرلمان) وليس هناك مثل ذلك الفصل الحاد بين السلطتين حتى الآن.
ان العراق بحاجة اليوم الى تفويض التشريع ومنح بعض الصلاحيات لكي تستطيع الحكومة ان تخفف من القيود المفروضة عليها دستوريا وسياسيا بعد تجربة اثبتت ان العراق يحتاج اليوم الى سرعة اكبر في التشريعات والعمل التنفيذي ومحاسبة الحكومة على اساس هذه التشريعات، وان الازمات التي يمر بها العراق يتحمل البرلمان والاحزاب البرلمانية جزء كبيرا منها لان تغليب المصالح الحزبية على المصالح الوطنية اصبح ملموسا من قبل المواطنين الذين يعبرون عن خيبة آمالهم يوميا واصبحت المقارنة مع الماضي، مع الاسف، امرا واقعيا رغم كوارث الماضي ومآسيه.
لقد آن الاوان لاعادة النظر بكثير من السلوكيات والمواقف واعطاء البرلمان دوره الوطني المطلوب، وتحويل النواب من ممثلي قوائم مغلقة الى ممثلين للامة ومسؤولين امام ناخبيهم مسؤولية مباشرة،والاقدام على تشريعات تنهي المحاصصة والمقاسمة وتوزيع المناصب والوظائف كمغانم حزبية، واخضاع العنف والفساد الى سيادة القانون وانهاء الاستخدام السياسي لهما وللظواهر المماثلة، وانهاء اطروحة (دكتاتورية خمسة احزاب) افضل من دكتاتورية حزب واحد التي يتم تقسيم العراق سياسيا واقتصاديا وماليا ووظائفيا وفقها، فقد سمعتها عدة مرات من ممثلين عن احزاب الحكم، وبالطبع فان الدكتاتورية هي الدكتاتورية التي تحرم المواطن سواء كانت دكتاتورية حزب واحد او خمسة احزاب لان مثل هذه الدكتاتورية مفيدة فقط لحارس ملهى انضم لاحد الاحزاب الحاكمة واصبح مستشارا سياسيا في احدى السفارات وهو لايعجز عن ترديدها.
ان التشريع بالتفويض يمكن ان يسحب من قبل البرلمان في اي وقت يرى فيه تهديدا لسلطته.لكن ماهو اكثر من ذلك ان يبادر البرلمان نفسه الى دفع نفسه الى الى التشريع والاهتمام بالمسائل المالية الاكثر الحاحا في الوضع العراقي اليوم، والنقد القائم على النزاهة والوطنية والاخلاص، والتداول في شؤون الازمات التي ما ان يخرج العراق من احداها حتى يقع في فخ الاخرى، واصدار القوانين لان العراق مايزال يعيش بدون قوانين حية فيما يعيش تقريبا على اوامر وقرارات مجلس قيادة الثوة المنحل.
اختم رسالتي بتذكير مجلس رئاسة البرلمان واعضائه بضرورة اعادة النظر بمفهوم الخدمة المدنية القائمة على المحاصصة واستبدالها بالمفهوم الحقوقي والدستوري والوطني الديمقراطي القائم على الحيادية بما تتطلبه من خبرة وكفاءة واختصاص وسلوك حسن.

الرسالة الثانية:
الى رئاسة مجلس الوزراء

يسود مبدأ في الديمقراطية يقول انه قد يكون لرجل او امرأة مكانة رفيعة في حزب سياسي، ومع ذلك فهو لايصلح لرئاسة ادارة كبرى من ادارات الدولة.هذا المبدأ يشمل رئيس الوزراء كما يشمل الوزراء من حزب واحد،وهو الامر الذي تقرره الديمقراطية وتفضله لكي تكون الحكومة قوية ومنسجمة وقادرة على التنفيذ، فكيف بوزراء حكومة وحدة وطنية ينتمون الى احزابهم اكثر من انتمائهم الى مجلس الوزراء، وتتغلب لديهم مصالح احزابهم على المصالح الوطنية المشتركة.
يفترض في اية حكومة ان تعمل كفريق واحد. لذلك تعطي الانتخابات عادة الحق لرئيس الوزراء ان يختار وزراءه مراعيا التنوع والكفاءة والجغرافيا الوطنية ايضا
، وعادة ما يحرص رؤساء الوزارة المعاصرون الى تشكيل حكومات مصغرة لاتتعدى احيانا خمسة عشر وزيرا ضمانا لانسجام الوزارة وحرصا على العمل المباشر والتنفيذ السريع والتركيز على المهمات الاساسية التي تواجه البلاد.
ثمة في العرف الديمقراطي مبدأ يؤكد على ان مجلس الوزراء مؤسسة تتمتع بالقوة والقدرة على اتخاذ القرار طالما يتمتع مجلس الوزراء هذا بدعم وتاييد الاغلبية البرلمانية. هذا يفترض ان تكون حكومة المالكي اليوم اقوى حكومة في تاريخ الديمقراطيات، فهي لاتحظى بتاييد الاغلبية من خلال كتلة برلمانية واحدة او من خلال كتلتين وانما تتمتع بتأييد اغلبية مطلقة وكاسحة، فمن اصل 275 نائبا هناك اكثر من 260 نائبا يشتركون في تاييد الحكومة ودعمها يمثلون اربع كتل برلمانية هي كتلة الائتلاف والكتلة الكردية وكتلة التوافق وكتلة العراقية التي تملك جميعها وزراء في مجلس الوزراء، فكيف اصبح مجلس الوزراء عرضة للضعف والتقهقر؟في حين يفترض ان يقود رئيس مجلس الوزراء حكومة قوية قادرة على اتخاذ قرارات توفير جميع الخدمات الاساسية، وتقدم للمواطنين مايحتاجونه من امن وتعليم وصحة وكهرباء وماء وتعيد اعمار العراق وتفرض سياستها على المحافظات لكي تنفذ، وتقلص( اذا لم تستطع انهاء) التدخل الامريكي في القرار السياسي وتكمل السيادة وتتفاهم مع الولايات المتحدة لسحب قواتها وتعيد بناء المجتمع على اساس ثقافة التسامح والقانون والحق والواجب، اي ان يعمل مجلس الوزراء ككيان واحد موحد منسجم مع سياسة مجلس الوزراء ومنفذ لها وهي السياسة التي يعهد الى مجلس الوزراء تنفيذها بعد اقرارها من قبل البرلمان.
يذكر تاريخ الديمقراطية الانجليزية لجنة هالدين التي قامت في عشرينات القرن العشرين بتقديم توصيات حول مهام وطبيعة مجلس الوزراء فاوصت بان يكون مجلس الوزراء صغير الحجم لايتجاوز اثني عشر عضوا وقد ايد ذلك مفكرون وسياسيون منهم هارولد لاسكي واللورد صموئيل، لكن مايواجه مجلس الوزراء في العراق هو ايجاد وزارة لكل شخص يرغب حزبه في ان يجعله وزيرا.
يفترض في ان تكون الانتخابات قد اختارت الحكومة وهذه الوسيلة هي افضل من اية وسيلة استبدادية تفرض حكومة باستخدام القهر والقمع. فارسطو يقر نمط الحكومة الدستورية التي توفر الحريات التي هي اساس الديمقراطية وهذه الحريات يحكمها القانون في اطار سيادة ومؤسسات دولة مسؤولة عن استتباب الامن وضمان سيادة القانون وتنفيذ برنامج الحكومة بما يخدم مجموع مواطني الدولة.ان الليبرالية تعني حماية الحرية الفردية، وهذا يعني وضع حدود دستورية لحكم الاغلبية لضمان حقوق الاقلية ومشاركتها، وهذا بدوره يقتضي قيام حكومة وطنية تقوم على اساس تمثيلها لمجموع المواطنين حتى لو تشكلت من حزب واحد.فالامن والدفاع والخزينة والتعليم والصحة والعمل والعدالة تعتبر اهم واجبات الحكومة التي تتطلب، حسب ارسطو، توازنا بين الكم والكيف. ومع الاسف تفتقر حكومة الوحدة الوطنية الى هذا التوازن. فكمية الوزراء تفوق كمية وزراء حكومتين، ونوعيتهم تحتاج الى اعادة نظر وطنية ومراجعة فنية. فالوزير منصب سياسي ولكنه في نفس الوقت منصب نوعي ايضا، يسميه ارسطو(الوسط العادل) الذي يكون وسطا بين الطبقات والفئات والاحزاب والمالكين والمحرومين، كما يكون بعيدا عن الثراء الفاحش والفقر المدقع لتحقيق النزاهة والالتزام بالحس الاخلاقي للمسؤولية، تجاه المواطنين وواجبه تحقيق الصالح العام في ظل سيادة القانون.ويعيد مونتسكيو التاكيد على فكرة ارسطو بفكرة الهيئات الوسيطة ذات النبل الاخلاقي والمسؤولية العالية وخلق توازن سياسي واجتماعي بين القوى كما يشرح التوسير افكار مونتسكيو في السياسة والتاريخ.
هذه في الواقع مهمة رئيس مجلس الوزراء، فهو المسؤول الاول عن اختيار وزرائه وفق هذه المواصفات. وبما اننا نعرف ان منصب رئيس الوزراء يمثل موقع حزب الدعوة في الائتلاف الفائز في الانتخابات فان بقية الوزراء لم يكونوا من اختيار رئيس الوزراء وانما من اختيار المجلس الاعلى والتيار الصدري والفضيلة والمستقلين من قوى الائتلاف، ومن اختيار التحالف الكردستاني اي ممثلي الحزبين الكرديين الديمقراطي والاتحاد، ومن اختيار العراقية الذين يمثلون حركة الوفاق والحزب الشيوعي وبقية قواها ومن اختيار التوافق الذين يمثلون الحزب الاسلامي وبقية قوى التوافق.
لدينا اذن اكثر من عشرة احزاب مشتركة في تشكيل الحكومة، وهو عدد لايحسد عليه اي رئيس وزراء في العالم يخرج وزراؤه ويدخلون بنايات وزاراتهم بالتنسيق مع احزابهم وليس بالتنسيق مع رئيس مجلس الوزراء، وبتنسيق بعض احزابهم مع السفارة الامريكية وسفارات اخرى اكثر مما تنسق مع البرلمان او الدستور العراقي على علة النواقص والتناقضات واختلاط الصلاحيات فيه. هذه الحالة قيدت ايدي السلطة التنفيذية ورئيس هذه السلطة التي يفترض ان يكون قادرا على العمل. فحتى صلاحيات رئيس الوزراء الدستورية يجري الالتفاف السياسي الحزبي عليها،. ان الانتقال من نظام استبدادي الى نظام ديمقراطي يقتضي غالبا تحالفات ومشاركات من احزاب ومنظمات واشخاص واتحادات. لكن هذه التحالفات يجب ان تقوم لتحقيق الاستقرار والتحول السلمي وليس الانقسام. يضاف الى ذلك ما يقوم به مكتب مستشاري رئيس مجلس الوزراء من تضييق حركة مجلس الوزراء وعزل رئيس الوزراء وتقييده بسياسة الحزب الذي يمثلونه وهيمنتهم الحزبية بحيث اصبحت الدولة،ممثلة باهم اجزائها وهي الحكومة، ممثلة بحزب وليس باطار وطني. ان العيب ليس في وجود مستشارين من حزب واحد فهذا شأن متعارف عليه في الديمقراطية ايضا، ولكن العيب في ان يكون هؤلاء المستشارون يعملون لحزبهم او لانفسهم اكثر مما يعملون لمجموع البلاد. كما ان عدم وجود فكرة التخطيط السياسي وانتاج الافكار لدولة في طور اعادة التشكيل يقلل من فرص اعادة بناء مؤسسات الدولة التي يفترض ان تساهم الحكومة في تشكيلها وارساء مؤسسة الدولة على اسس وطنية سياسيا وجغرافيا وثقافيا.ٍوحين اقول ثقافيا لا اعني رعاية الادب والفن وانما اعادة رسم الاطار الثقافي للعلاقة بين المجتمع والدولة بما يعنيه من ترسيم معالم سيادة القانون ودور المجتمع المدني وطبيعة السلطة الدستورية الحقوقية وتكريس فكرة المواطنة والتحول السلمي نحو النظام الدستوري ورسم معالم الحقوق والواجبات والعلاقات الوطنية واشاعة التسامح والعفو والعدالة، وهو عمل ليس هينا ولا يمكن احتقاره او السخرية منه باشاعة فكرة ان المجتمع العراقي متخلف ولايستطيع ممارسة الديمقراطية مما نسمعه ردا على ضرورة انجاز هذه المهمات.
ان الدستور ينص على ان دين الدولة الرسمي هو الاسلام، غير ان ذلك لايبرر تديين الدولة من خلال عقيدة حزب وتغليب الطقس على المهمات السياسية المدنية التي تواجه دولة حديثة ومجتمعا متعددا ومتنوعا مثل المجتمع العراقي على الرغم من الطابع الديني الذي تميز به العراقيون في هذه المرحلة. هذا لايعني عدم القبول بالحق الذي ناله الاسلاميون من خلال الانتخابات فهو حق دستوري لايمكن انكاره. لكن هذا الحق يصبح ممثلا لجميع المواطنين بعد الفوز وليس حكرا على حزب او عقيدة.فالممارسة السياسية في قيادة دولة او حكومة ممارسة وطنية وليست حزبية، وممارسة سياسية وليست دينية رغم العقيدة الدينية للحزب الفائز. فواجب الحزب الفائز واجب سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي مدني ياخذ بنظر الاعتبار المسؤولية تجاه الجميع وتحقيق قاعدة( ان الانسان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق) وهي القاعدة التي ارسى نظريتها الامام علي في عهده المشار اليه.
ان القانون الدستوري يعرّف الدولة بانها جماعة منظمة من الافراد تملك اقليما محددا وذات سلطان ولها شخصية معنوية. وهذا يقتضي ان يكون العراق، وهو اقليم العراقيين،سلطانا للعراقيين لكي تملك الدولة العراقية هذا السلطان وتكون شخصيتها المعنوية هوية لجميع العراقيين.هذه المهمة مشتركة بين جميع الرئاسات ولكن الحكومة تتحمل القدر الاعظم من تاسيس هذه الشخصية، التي يرى هيغل انها ستكون مقبولة من قبل المواطن العاقل اذا وجد فيها ارضاء الرغبات والمصالح المعقولة واذا امكن الاعتراف بعدالة قوانين الدولة، وحينذاك تصبح الدولة تنظيما عقلانيا للحرية كما يرى هيغل.
اكد الدستور العراقي على النظام الفدرالي اللامركزي،وعلى صلاحيات الحكومات المحلية التي نشأت من خلال قرارات الحاكم المدني للاحتلال بول برايمر. لقد اصبحت الشكوى من اللامركزية واضحة. فسوء الفهم يسود في استخدام المفهوم ويقود الى التعسف في استخدام صلاحيات مفترضة خاصة في المحافظات واحيانا حتى في الجيش مع انه مركزي. فبعض القطعات في المحافظات الجنوبية تعصي الاوامر او تؤجل تنفيذها باعتبارها مرتبطة القوات البريطانية وتتلقى اوامرها منها، وبعضها في المنطقة الوسطى والشمالية تقوم بمثل ماتقوم به بعض قطعات الجنوب باعتبارها مرتبطة بالقوات الامريكية وتتلقى اوامرها منها. فضلا عن الهيئات والمفوضيات المستقلة انقسمت على نسب المحاصصة وبعضها لاعلاقة له اصلا ولاتعرف عنه الحكومة العراقية شيئا لانه ممول ومرتبط بالولايات المتحدة، وهناك تاكيدات على ان اهم جهاز استخباراتي وهو جهاز المخابرات العامة مايزال سرا بالنسبة للحكومة العراقية،فلايوجد له تخصيص في الميزانية العراقية ولا ينسق مع وزارة الداخلية اووزارة الامن الوطني، ولاتعرف تشكيلته من قبل رئاسة مجلس الوزراء، وهناك تعيينات حتى في الامانة العامة لمجلس الوزراء لا علاقة لها برئيس الوزراء وانما تتم من قبل جهات اخرى.
يقول لاري دايموند الذي يتابع تقدم الديمقراطيات في العالم اليوم( في الدول التي تتمتع بارتفاع عدد سكانها واتساع مساحتها فان الفدرالية تشكل اطارا متكاملا للنظام السياسي اللامركزي، وذلك من خلال توفير حكومة وسيطة تتمتع بسلطات خاصة. في مثل هذه الدول، التي هي بحجم القارات كالولايات المتحدة وكندا واستراليا والبرازيل والهند وروسيا، تبدو الحكومات المحلية كبيرة في عددها ولكنها صغيرة في مجال معادلتها لميزان قوة الحكومة المركزية، غير انها في الوقت ذاته، تتمتع باستقلالية جيدة في التقدير الديمقراطي للحاجات والمصالح المحاية الخاصة بها)
تحمي الفدرالية حقوق الاقليات التي ينص عليها الدستور وتعزز اللامركزية وتقلص الصراعات وتضعف فرص الانفصال وهي ايضا تحمل مخاطرها في طياتها اذ يمكن استخدام الصلاحيات ضمن الاقليم الفدرالي لفرض حكم فردي واستبدادي واستغلال اقتصادي ومصادرة بعض حقوق الافراد لصالح الحكم المحلي حيث لاتستطيع الحكومة المركزية التدخل لحمايتهم، وتعزيز النعرة القومية ضمن الاقاليم الفدرالية وبالتالي المطالبة بالانفصال.
يقول دايموند ان المركز يجب ان يمتلك القوة للتدخل في الوحدات الفرعية لحماية الحقوق الدستورية وكل مايتعلق بها من اجراءات.
ان الحكومة العراقية الحالية لاتملك مثل هذه القوة ولاتملك، سياسيا، القدرة على التدخل. فالنزعات الاستقلالية، السياسية والادارية والثقافية، اصبحت فوق الفدرالية واللامركزية. فالفدرالية في الحكومات الديمقراطية ينبغي ان تعزز الديمقراطيةوتحمي حقوق الافراد فهي حكومات محلية تنسجم سياساتها المحلية مع سياسة الحكومة المركزية لا ان تتعارض معها. فهي موجودة لنقل نشاط المركز الى الاقليم، اذا يبقى المركز مكانه، لا لمجئ المركز الى الاقاليم او اضطراره لملاحقة الاقاليم لتكون جزء من الدولة والسياسة العامة لها.
في العراق اليوم نظام يسميه بعض السياسيين بالديمقراطية التوافقية. ان هذا النوع من الديمقراطيات ضرب من الاتفاقات السياسية وليس الدستورية الحقوقية يعقب سقوط انظمة مستبدة ويتيح فرص المشاركة. لكن المشاركة تأتي في عراق اليوم على حساب المواطنين اذ انها ديمقراطية تضعف مجلس الوزراء وتقيد صلاحياته ونشاطه واجراءاته خاصة مع وجود قوتين الاولى وجود اكثر من 150 الف جندي اجنبي على اراضيه يملكون الارض، ووجود سفارة اميركية هي الاكبر في العالم تتدخل في القرار السياسي، اضافة الى قوة ثالثة مدعومة بهاتين القوتين وقوة بعض دول الجوار لاعادة النظام السابق بمايعنيه من كونه حلقة في سلسلة النظام العربي التقليدي غير الديمقراطي القائم على حكم الاقلية الى السيطرة على الحكم.


الرسالة الثالثة
الى مجلس رئاسة الجمهورية:

في الدستور العراقي الحالي يكون مجلس الرئاسة ممثلا لهيبة الدولة ورمزيتها وسيادتها وشخصيتها.فالسلطة التنفيذية تكون بيد رئيس مجلس الوزراء.ويضم مجلس الرئاسة ثلاثة شخصيات هي الرئيس ونائباه، كما في مجلس رئاسة البرلمان.وقد اصبحت صلاحيات بعض نواب الرئيس تفوق الدستور في طموح شخصي مدعوم بتدخل خارجي، اقليمي ودولي،ينذر بنشوب نزاعات قوية ومثيرة قد تقود الى نسف الدستور وتعطيله لترسيخ هذه الصلاحيات المفترضة كامر واقع.
ان الديمقراطية لاتعتبر الدولة هدفا وانما وسيلة. وحده موسوليني طبق الفكرة الكليانية او الشمولية بقوله(ان مايسمى بالازمة لايحل الا بالدولة وضمن الدولة..كل شئ في الدولة ولاشئ خارج الدولة) هذا يعني ان يتقدم المواطنين ويتخلوا عن حرياتهم وحقوقهم لصالح سلطة تبتلع الدولة وتدعي تمثيلها كما هو حال الانظمة الدكتاتورية وتلغي القوانين ليكون كل شئ من اجل الدولة التي هي في النهاية موسوليني او هتلر او ستالين او صدام او من شابههم.
لذلك نجد في النظام البرلماني التمثيلي مؤسسات لخدمة المواطن الفرد باعتباره اساس مجموع المواطنين في دولة ومجتمع.ان المجتمع السياسي ليس مجتمعا ازليا، فهو ينبغي ان يكون انعكاسا لمصالح المواطنين، وبالتالي فان المجتمع المدني يعمل على مساعدة الدولة بالانفصال عن الحكومة وتذكيرها عبر العمل والنشاط لتكون حكومة في دولة حقوق وقانون وعدالة وفرص عمل وعدم تمييز وتوفير مستلزمات العيش الكريم وتوفير الامن والاستقرار.
ان مجلس الرئاسة يمثل مؤسسة الدولة اكثر مما يمثل الجمهورية او النظام السياسي رغم انه وليد نظام سياسي، وهذا النظام السياسي يقوم على حكومة تنفيذية وليس على دولة تنفيذية تصادر تحت معطفها السلطة والمجتمع والقانون والدستور لتتحول الى سلطة باسم الدولة التي تبتلعها السلطة بعد ان تكون الدولة قد ابتلعت كل شئ.
لذلك، مثلا، تبدو تصرفات نائب رئيس الجمهورية ضربا من الطموح الشخصي وليس تطبيقا دستوريا. عملا حزبيا يسعى الى تحقيق مكاسب شخصية او حزبية او فئوية على حساب الحكومة. لقد حضر رئيس الجمهورية جلال الطالباني مؤتمر القمة في السعودية في العام الماضي ولم يحضره رئيس الوزراء الذي يفترض ان يكون صاحب الصلاحيات في مؤتمر مثل هذا.ان الطالباني شخصية سياسية مرموقة وقادر على المناورة المطلوبة في مثل هذه القمم رغم شكليتها، ووجود الطالباني كرئيس عراقي كردي في مؤتمر القمة سابقة مهمة ورسالة للعرب على ان العراق الجديد ديمقراطي وموحد وعليهم التعامل معه على هذه الصورة التي اختارها اهله. لكن الدستور شئ وشخصية الرئيس شئ آخر.ان الطالباني شخصية تحظى بما يقترب من الاجماع، وهو حكم مقبول في النزاعات والخصومات. وهذا وحده كاف ليكون الرئيس ممثلا لهيبة الدولة وكونها رمزا للجماعة.لا يتعلق الامر بالبروتوكول الذي استخدم لوصف مهمات الرئيس في بعض الاعتراضات. فالرئيس يعكس هيبة الدولة وتمثيلها للجميع،وهذه الهيبة اكبر من البروتوكول واكبر من بعض الصلاحيات. ان الدولة في العراق غابت لصالح سلطة الحزب والفرد طوال اربعة عقود، وبالتالي فان مجلس الرئاسة يمثل استعادة الدولة لهيبتها وتمثيلها للمواطنين وهويتهم وهذا امر ليس سهلا او بروتوكوليا.
هذا الواجب لمجلس الرئاسة في العراق يجعل هذا المجلس في هذه المرحلة خصوصا اكثر اهمية، خاصة حين يعمل على مساعدة الحكومة لتكون سلطة تنفيذية قوية تؤكد شرعية مجلسي البرلمان والرئاسة، اذ ان الرئاسات الثلاث جزء من المجلس التشريعي، اي مجلس النواب،فاعضاء الرئاسات هم اعضاء في البرلمان وهذا يؤمد ان لانفصال بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهذا يقتضي ترسيخ استقلالية السلطة القضائية وهذه مهمة مجلس الرئاسة دستوريا بقدر ماهي مهمة مجلس الوزراء سياسيا واجرائيا.اذ ان التعارض يمكن ان يقوم بين السلطة التنفيذية وبين السلطة القضائية وهو امر خطير جدا في الانظمة السياسية، ويمكن لرئيس الجمهورية ان يلعب دوره السياسي والدستوري في حل مثل هذه المشكلة، وهذا مايجعل رئاسة الجمهورية شأنا كبيرا وليس امرا بروتوكوليا، وشأنا وطنيا ومرجعية سياسية ووطنية وليس شأنا تنفيذيا.وكما يرى هوبز فان العقل والضمير المهني هما سيادة مجلس الرئاسة والرئيس، لانه يرعى الدولة الذي هو جزء منها لترعى المصالح العامة عبر رعايتها للمصالح الخاصة للمواطن وتوفير الحماية له والدفاع عنه. الدولة تتحلى بالفضيلة والعدالة والسلم والرفاه وحين تحققها حكومة وطنية فان واجب مجلس الرئاسة حماية هذا المنجز وهي ليست مهمة سهلة او بروتوكولية.
ان لوك يؤكد ان الحرية لاتنفصل عن السعادة لان الانسان كائن عاقل يبحث عن الحرية والسعادة. والسعادة تكمن في الامن والاستقرار والسلام ولاسعادة بدون ضمانات سياسية ولا سياسة حقة اذا لم تكن تهدف الى نشر السعادة المعقولة. وهذه الضمانات تقع بالتاكيد على عاتق مجلس الرئاسة. وهذه الضمانات ليست مثالية او طوباوية وانما هدف عقلاني للسياسة، فقد تحققت في دول عديدة في العالم بغض النظر عن المشاكل الازلية التي تواجه الانسان.
حتى الآن تمثل الرئاسات الثلاث ثلاث مفردات دخلت الى القاموس السياسي العراقي واصبحت مفردات عرفية رغم انها لم تدخل الدستور بالفاظها. هذه المفردات هي الشيعة والاكراد والسنة.وعدا عن الاكراد، فان الشيعة والسنة ليسا مفردتين سياسيتين، وهما ليس قياسا للاغلبية والاقلية السياسية، وانما قياس للاغلبية والاقلية المذهبية في العراق. لذلك لن يكون هناك توازن كمي الا حين تصبح العملية السياسية قائمة على مفهوم الاغلبية والاقلية السياسية بغض النظر عن مذاهب من يشكلهما.
لقد كتب الدستور الاميركي عام 1787 لثلاثة ملايين اميركي هم سكان الولايات المتحدة الاميريكية آنذاك. لكن تاثير ذلك الدستور الذي يمكن قراءته باقل من ساعة ولايتجاوز خمس عشرة صفحة اصبح عالميا ومثارا للاقتباس والتقليد رغم انه اقتباس عميق لافكار الانجليزي لوك حول المواطنة والحرية والتسامح والحكومة المدنية وافكار الانجليزي هوبز عن المواطن والحق والقانون.
ليس بالضرورة اقتباس الدساتير او اقتباس اعمال ساسة مثل فرانكلين وجيفرسون او كرومويل او دزرائيللي او ديغول او غاندي او مانديللا او غيرهم، وانما من الضروري رؤية الروح التي انطلقوا بها ورؤية الامكانيات التي اتاحوها قبل ان تتاح لهم الامكانيات لتطبيق مبادئهم وافكارهم وسياساتهم.
وليس بالضرورة استنساخ تجارب وانما الضرورة ان نضع الحاجات الانسانية المشتركة للمجتمعات مثل الحرية والعدل والمساواة والشعور بالامن كاساس مشترك للانظمة السياسية الدستورية والديمقراطية وبالتالي تكون الديمقراطية صناعة انسانية وليست غربية، فختى في الفكر الرافديني القديم في دويلات المدن وفي الامبراطوريات الرافدينية مثل بابل واكد ظهرت الحاجات الانسانية قائدة للقوانين والتنظيمات التي تتوخى العدالة والمساواة وتحقيق الامن بوضع حجر الحدود من قبل الحاكم ليحدد رقعة مسوؤليته تجاه مواطنيه، وفي الاسلام حيث ظهرت وصايا تحقيق العدل والحرية والمساواة على لسان عمر وفي النص الفلسفي الفكري الذي حرره الامام علي لواليه على مصر مالك الاشتر وحدد وظائف الدولة ومسؤولية الحكم على غرار فلاسفة الانوار والفكر الديمقراطي الحديث وغير ذلك من افكار صاغها مثقفو الاسلام الذين رفضوا اطروحة الملك العضوض واكدوا على دستورية حقوق الفرد المستمدة من الحق الطبيعي او من الفطرة.
وحتى الان ماتزال التجربة العراقية جديدة وهي عرضة لمبدأ الخطأ والصواب، لكن ماينبغي ان لاتتعرض له هو النكسة التي تجعل من النظام السياسي الجديد فرصة لفئات على حساب اخرى، ولاحزاب على حساب مجموع المواطنين، ولافراد على حساب مجتمع، ومناسبة عاجلة لكسب المنافع الفردية والحزبية.واذا كان مجلس رئاسة الجمهورية يقدم نموذج وحدة الدولة ووحدة المسؤولية الاخلاقية تجاه سعادة المواطنين في العراق ويقدم في الوقت نفسه القدرة على ان يكون مرجعية سياسية دستورية تعمل على تخفيف الخصائص التي ظهرت في العملية السياسية الجديدة وانقاص وزنها الى الحد الاقصى مثل المحاصصة والفساد والاستهانة بالعدالة والقانون وتوزيع الوظائف على الاقارب والنقص الهائل بالشعور بالمسؤولية المهنية والاخلاقية في الوظائف التي تفشت فيها الرشوة بشكل كارثي والبطالة ونقص الخدمات والتخلف المريع الذي يجد العراق فيه نفسه وهو بلد غني.وهي ظواهر ساهم فيها الجميع منذ سقوط النظام السابق حتى الان سواء الحكومات او الاحزاب او الافراد او المنظمات او جماعات في الجهاز البيروقراطي او العسكري او الامني، كما ساهمت فيها الهيئات والمنظمات التي انشأها الامريكان سواء اعطيت صفة المستقلة ام لا.
يربط الفكر الديمقراطي بين شرعية النظام وبين ادائه، فكلما تحققت رغبات المواطنين كلما كرس النظام شرعيته. وهذه هي المعركة الحاسمة بين الرئاسات الثلاث التي تمثل النظام الدستوري في العراق، فهو شرعي دستوريا، وبين نيل شرعيته من قبل المواطنين باعتباره نظاما يسهم في حل المشكلات التي يواجهونها في حياتهم.

نبيل ياسين