من الأمور المعروفة والمؤكدة تاريخيا، أسبقية حضارة وادي الرافدين ودورها الكبير في نشر الحضارة الإنسانية، حيث وقفت عوامل عديدة لتحقق هذا الأمر، أبرزها بالتأكيد وجود النهرين العظيمين دجلة والفرات، الذي أتاح لسكان هذه البلاد استثمارهما في الزراعة، التي أصبحت الركن الأهم في اقتصاديات البلاد، وجعلت بلاد الرافدين واحدة من أهم الدول الزراعية في العالم وجنة من جنان الأرض، لذا ليس غريبا أن عدتها الشعوب المجاورة إحدى الجنان التي يذهب إليها الإنسان بعد الموت.

لقد أطلق على بلاد الرافدين تسميات لها علاقة بجغرافيتها النهرية، فالبعض اسماها بلاد الرافدين، والبعض الأخر أطلق عليها بلاد النهرين، أما الإغريق فقد أسموها (ميزوبوتاميا ) أي بلاد ما بين النهرين دلالة على أهم الظواهر الجغرافية الموجودة فيها، حيث بقيت هذه التسمية هي المفضلة عند الإشارة للبلاد حتى في العصور المتأخرة، وبقيت رغم تغلب التسمية الحالية متداولة لدى جمهور كبير من الباحثين، لا سيما المعنيين بتاريخ العراق القديم.

لقد مثل هذان النهران الكبيران عصب الحياة بالنسبة للبلاد، لذا لاغرابة أن تكون تسميتهما عراقية قديمة، حيث استمرت هذه التسمية ملازمة لهما إلى الوقت الحاضر، وإدراكا لأهمية هذين النهرين، فقد حرص ملوك وادي الرافدين على فرض السيطرة السياسية العراقية على منابع النهرين، ابتداء من حملة الملك (شار ndash; كين ) الاكدي، مرورا بغزوات سلالة أور الثالثة وحمورابي والأشوريين، بل حتى في العهود التي أصبحت فيها البلاد خاضعة لسيطرة سلالات أجنبية حاكمة.

واليوم يتهدد هذا التاريخ النهري الكبير خطر ماحق، إذ تشير التقارير الدولية إلى تعرض منسوب النهرين من المياه إلى انخفاض كبير، قد يؤدي إلى جفافهما في وقت ما من المستقبل، بل أن احدث التقارير الرصينة، أشارت إلى احتمال جفاف النهرين في زمن لا يتجاوز عام 2040، إذ تواظب تركيا بلد المنبع منذ زمن على إنشاء العديد من السدود على النهرين، كجزء من برنامج إروائي طويل الأمد، وبالتأكيد فان إنشاء هذه السدود لم يتم من خلال التنسيق مع العراق وسوريا شريكتا تركيا في مياه النهرين، ولم يجري تشييدهما انطلاقا من معايير القسمة العادلة للمياه، فالقوانين الدولية لا تسمح لأي دولة الإضرار بالدول الأخرى المتشاطئة معها، وتعد عملا من هذا القبيل انتهاكا للقانون الدولي.

يبدو لي أن العراق كعادته سابقا غير مهتم كثيرا بهذه القضية الخطيرة، فهو مشغول بأمور يجدها أكثر إلحاحا من قضية المياه، لأنها ترتبط بواقعه المباشر، كما لا يمكن أن ننسى التجاذبات السياسية ودورها في إضعاف كفاءة العراق السياسية. الأمر الذي قد يتيح لتركيا الاستمرار بهذه السياسة المميتة للعراق، فالجيران في تركيا لا يدركون أن عملا كهذا سوف يؤدي إلى الحروب والنزاعات طال الزمان أم قصر.

لذا على العراق إذا أراد تجنب كارثة كبيرة الالتفات إلى هذا الأمر، فبإمكانه عمل الكثير بالتنسيق مع سوريا، من بينها نقل هذا الملف إلى أروقة مجلس الأمن، واهم شيء هو التركيز على هذا الملف عند فتح ملف العلاقات بين الطرفين، ولابد أن يستخدم العراق أوراق الضغط التي لديه وأهمها الورقة الاقتصادية، حتى يرغم تركيا على الالتفات إليه، حيث تحصل تركيا لاستضافتها أنبوب النفط العراقي الذاهب إلى ميناء كيهان على البحر المتوسط، على مئات الملايين من الدولارات التي لا غنى لها عنها في تنظيم واقعها الاقتصادي.

إن علينا أن نبذل الكثير من الجهود من اجل تلافي حصول مواجهة عسكرية، فاستمرار أزمة المياه لابد أن يساهم في زيادة التوتر في المنطقة، ودفع الأطراف المعنية إلى ضمان حقوقها بالقوة المسلحة.

باسم محمد حبيب