يسألونني تكراراً.. لماذا تكتب طالما أن أحداً لا يقرؤك أو الأحرى لا يفهمك أو يستجيب لما تطرح ؟.. فأجيب.. بلى، هناك من يقرؤني ويفهمني ولو أن عددهم قليل جداً حيث أنهم من القراء المتميزين فعلاً، من الذين يفهمون ماركس ولا يتنكرون له بغض النظر عن الطبقة التي يتحدرون منها ؛ ومهما كان عددهم قليلاً فإنهم يبررون دافعي إلى الكتابة. هذا من جهة وأما من الجهة الأخر فإنني أكتب استجابة لحسي الإنساني وأنا أرى قوى شريرة وفاسدة تدفع بالعالم إلى الهاوية حتى وإن لم يرَ العامة ما أرى، ثم لا يقرؤني أحد على الإطلاق.
ما يتصل بدوافعي إلى الكتابة وما أتوخاه منها هو أن أحد قرّائي المتميزين ومن الذين يستجيبون لما أطرح، استحثّني لأن أكتب مفسراً صمت الشيوعيين التقليديين إزّاء الطروحات الماركسية الجديدة التي أطرحها بقوة وتنسف كل الشعارات الفارغة التي يطرحها اليوم هؤلاء الشيوعيون quot; التقليديون quot; كما وصفهم، وغير الشيوعيين أو منتحلو الشيوعية كما أعرفهم جيداً. ويعبر قارئي المحترم عن حيرته إزاء مثل هذا الصمت المريب فيصف هؤلاء الشيوعيين عفوياً بالتقليديين وهو ما يستبطن أنهم ليسوا شيوعيين حقيقيين ويفتقدون الحد الأدنى من الوعي بمفاعيل الماركسية وليسوا ثوريين، وكل هذا من كبد الحقيقة. وهذا ما يعيدني لنصف قرن خلا، فإثر الثورة المضادة التي قادها عبد الناصر في المشرق العربي بدفع من البعثيين في ربيع العام 59 وصل عدد الشيوعيين في السجون الأردنية إلى 340 شيوعياً وبعد ست سنوات، أي في ربيع العام 65 أفرجت السلطات بعفو عام عن 140 شيوعياً فقط حيث أن 200 شيوعياً كانوا قد استنكروا الشيوعية علانية في الراديو وفي الصحافة خلال تلك الفترة الطويلة نسبياً كشرط لخروجهم من السجن. وبعد أسابيع قليلة من الإفراج العام جرى لقاء مع قيادة الحزب للبحث في خلافي معها حول التحريفية في قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي وكان ذلك آخر اتصال لي مع الحزب. واذكر جيداً أنني خلال ذلك اللقاء أكدت للقيادة أن ثلثي الذين استنكروا ليخرجوا من السجن مبكراً هم أكثر شيوعية من الذين بقوا ولم يستنكروا. ولما استشاطت القيادة غضباً من الطعن في شرف الرفاق، كما وصفوا، فسرت ذلك بأن معظم الذين لم يستنكروا هم ليسوا إلاّ مراهنين على حصان الحزب الشيوعي ويطمحون لأن يكونوا على ظهر الحصان عند الفوز، أما معظم الذين استنكروا فإنما هم شيوعيون بوجدانهم لم يدخلوا في أي رهان على الشيوعية ولذلك لم يتحملوا ضغط السلطات ومحاربتها لهم في عائلاتهم ؛ لذلك كان استنكارهم بالإرغام وهنا يتوجب أن أشير إلى أن نفس شخوص تلك القيادة قد أقروا بصحة ما كنت قد ذهبت إليه في العام 65 لدى انتهائهم من الكونفرنس الشهير للحزب عام 1970.
أستذكر كل هذا السيناريو اليوم لأؤكد من جديد أن جميع الذين أفرجت عنهم السلطات الأردنية تقريباً في نيسان 1965 باعتبارهم شيوعيين حتى النهاية لم يكونوا حقيقة شيوعيين على الإطلاق وهم ليسوا أفضل من quot; الشيوعيين quot; الذين طالب لينين بطردهم من الحزب في العام 1922 وعددهم حوالي 200 ألفاً. لسنا هنا لنتجنّى على هؤلاء فكثيرون منهم عادوا واستنكروا الشيوعية، والذين عمّر منهم حتى االيوم لا يذكرون الشيوعية بكلمة واحدة باستثناء إسم الحزب. لو كانوا شيوعيين حقيقيين لبحثوا في الأسباب الحقيقية لانهيار المشروع اللينيني حتى وإن شاركوا هم أنفسهم بانهياره ؛ لوكانوا شيوعيين حقيقيين لتلمسوا اليوم مساراً جديداً للعمل الشيوعي فالمسار اللينيني طمسته أنقاض الإتحاد السوفياتي ؛ لو كانوا شيوعيين حقيقيين لما نسوا ماركس ولينين بل إن العديدين منهم لم يخجلوا في المطالبة بتحديث ماركس أو بتوطينه وأحياناً بتجاوزه، ويتواقح بعضهم فيعلن تخليه عن كارل ماركس كمرجعية للإشتراكية مثل قيادة ما يسمى بالحزب الشيوعي في السودان ومنهم من يطالب بمحاكمة لينين لأنه تسبب في انتفاضة أكتوبر وبالثورة الإشتراكية في عالم النصف الأول من القرن المنصرم.
ليسمح لي قارئي المتميّز المحتار من صمت quot; الشيوعيين quot; التقليديين لأن أحتار لحيرته حيث أن موضوعتي ما بعد الرئيسة كانت في كل ما كتبت منذ بداية التسعينيات حتى اليوم هي استنكاف الأحزاب الشيوعية عن العمل الشيوعي. استنكفت من العمل الشيوعي وأخذت تتلهى بقشور الفكر البورجوازي وأطروحاته التافهة من مثل الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان والعدالة الإجتماعية، تلك المفردات التي لم تكن تذكرها إبّان اشتباكها بالعمل الشيوعي. تقوم بهذا وهي تعلم تماماً أنها إنما تضلل جماهير الكادحين والفقراء. إنقلاب هؤلاء الشيوعيين سابقاً إلى مضللين ومخادعين يجب ألا يأخذنا بالحيرة، فتفسيره واضح لا لبس فيه وهو الدرس الأول في تاريخ الحركة الشيوعية كما شرحنا في مقالنا بعنوان quot; ضعة البورجوازية الوضيعة quot; المنشور بتاريخ 17/5/09.
منذ صدور البيان الشيوعي قبلما ينوف على مائة وستين عاماً، انخرط في العمل الشيوعي مئات الملايين، والملايين منهم ضحوا بحياتهم من أجل تحرير الإنسان من قيد الإنتاج، من أجل الشيوعية، وهو ما سيظل بالطبع مفخرة للجنس البشري على مدى التاريخ. لكن مع كل هذا الفخار سيظل هناك ما هو محط عار وشنار. فمنذ أن بدأت الحركة الشيوعية تشكل تياراً جارفا في الحياة الدولية سارعت شريحة هامة من البورجوازية الوضيعة وهي المبرزة في العلم والثقافة تزاحم للوصول إلى قيادة العمل الشيوعي ليس انتصاراً للشيوعية بل انتهازاً لما حسبته من فرص توفر لها امتيازات مختلفة وأولها حب الظهور، فالبورجوازي الوضيع الرثّ حيث هو في قاع المجتع يغدو زعيماً لامعاً ذا شأن في القيادة الشيوعية. ومن هنا يمكن القول بكل ثقة أن انزياح قطاع كبير من المثقفين إلى مسار العمل الشيوعي مبعثه الحقيقي هو كراهيتهم للشيوعية وليس حبهم لها كما يتراءى في الظاهر.
بعد رحيل ماركس وإنجلز مع نهاية القرن التاسع عشر انتقلت قيادة العمل الشيوعي إلى المثقفين الروس وخاصة بعد أن استطاع فلاديمير لينين بعبقريته الفذّة أن يوجه ضربات قاضية إلى القيادة الألمانية وعلى رأسها المرتد كارل كاوتسكي. في أرجاء روسيا القيصرية الواسعة بدأت تتشكل منظمات ماركسية محلية مع نهاية القرن التاسع عشر خاصة وأن نظام الإنتاج الرأسمالي قد أخذ يشق طريقه في الإقتصاد الروسي ؛ منها quot; منظمة تحرير العمل quot; التي شكلها بليخانوف عام 1883، و quot; عصبة الكفاح لتحرير الطبقة العاملة quot; التي أسسها لينين عام 1895. وفي العام 1898 تم توحيد منظمات ماركسية متعددة في حزب quot; العمال الإشتراكي الديموقراطي في روسيا quot; الذي أصبح فيا بعد الحزب الشيوعي. ما يجدر ملاحظته هنا هو أن منظمات وأحزاباً تشكلت وأعلنت باسم الطبقة العاملة قبل أن يكون هناك طبقة عاملة ذات شأن في المجتمع الروسي، وهو ما يدل بصورة قاطعة على أن الحركة الشيوعية في روسيا لم تولد من التناقض بين العمل ورأس المال، كما هو مفترض، بل كانت امتداداً للفكر الماركسي في أوروبا فكان المثقفون الروس هم مستقبلوه الوحيدون. انحصار العمل الشيوعي في أوساط الثقفين هو ما دفع بستالين إلى نشر مقالته الأولى عام 1901 بعنوان quot; الواجبات الملحة على حزب العمال الإشتراكي الديموقراطي quot; ينتقد فيها قيادة الحزب لأنها تحصر نشاطها في أوساط المثقفين دون العمال الذين هم وحدهم أصحاب المصلحة الحقيقية في الثورة الإشتراكية ومحذرا من أن هذا من شأنه أن يحول الحزب إلى حزب بورجوازي كحال الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية في أوروبا الغربية التي لم تعد تمثل العمال بشيء. كان يجب أن تظل تحذيرات ستالين تلك التي أطلقها قبل مائة وثمان سنوات ترن في أسماع قادة العمل الشيوعي طيلة القرن العشرين، قرن الثورة الاشتراكية ؛ لو تم ذلك لما انتهى العمل الشيوعي إلى ما انتهى إليه. ظل قادة البروليتاريا الخلّص يقودون نضالاً صعباً ومريراً ضد منتحلي الشيوعية من سلالات البورجوازية الوضيعة في قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي. بدأت المعركة حامية الوطيس في المؤتمر العام لحزب العمال الاشتراكي الديوقراطي الروسي المنعقد في لندن في العام 1903 فكان أن انقسم الحزب إلى بلاشفة (أكثرية) بقيادة لينين ومناشفة (أقلية) بقيادة بليخانوف ومارتوف ولم تنتهِ المعركة إلى الحد الفاصل سوى في المؤتمر العام للحزب في براغ عام 1912 وقد شكل البلاشفة حزبهم الخاص بهم ولم تعد تربطهم بالمناشفة أية صلة.
للمرء أن يعتقد أن انفصال البلاشفة التام عن المناشفة شكل المعركة الفاصلة والانتصار الحاسم لمعسكر البروليتاريا على سلالات البورجوازية الوضيعة في جبهة العمل الشيوعي إلا أن الأمر لم يكن كذلك. كان المناشفة يحاربون البلاشفة من خارج صفوفهم وبصورة مكشوفة أما فيما بعد الانفصال فقد تواجد الأعداء بين صفوف البلاشفة وقد تخفوا بلبوس البولشفية وخير مثال على هذا هو قيام زينوفييف وكامينيف عضوي المكتب السياسي للحزب بافشاء ساعة الصفر لثورة أكتوبر إلى البوليس السري للسلطة المعادية أو تشكيل تروتسكي كتلة معادية للخط اللينيني في مؤتمر الحزب العام العاشر في العام 1921. المعارك الصعبة والقاسية والدموية في أحايين كثيرة التي خاضها كل من لينين وستالين ودزيرجانسكي دفاعاً عن الثورة ومبادئها اللينينية الثابتة ستبقى أبداً معالم بروليتارية لن تمّحي. ما يسميه أعداء الاشتراكية سنوات الرعب الأحمر 1936 1938 إنما كان معركة كبرى خاضها الحزب ضد أعداء الإشتراكية من البورجوازية الوضيعة المتسربلين بأردية البولشفية من مثل بوخارين وريكوف وتوخاتشوفسكي وزينوفييف وكامينيف. يدعي اليوم كتبة البورجوازية وأعداء الإشتراكية أن ستالين كان قد تآمر للتخلص من هؤلاء الشيوعيين المخلصين لتوطيد دكتاتوريته المطلقة. نحيل هؤلاء الكذبة إلى الخطاب التاريخي الذي ألقاه نيقولاي بوخارين في الجلسة الأخيرة لمحاكمته وقد اعترف، وهو كبير هؤلاء المتآمرين، بخيانته للحزب وللثورة وطالب هيئة المحكمة ألا تأخذها به الرحمة فتصدر حكمها عليه بأقل من الإعدام. جميع الذين أعدمهم ستالين خلال سنوات quot; الرعب الأحمر quot; كانوا من الذين سيبيعون الثورة الإشتراكية إلى هتلر. لو قيّض لأولئك الخونة بيع الثورة إلى هتلر لرضخ العالم كل العالم بما في ذلك الغرب الرأسمالي تحت الجزمة النازية الهتلرية ربما لألف عام كما كان هتلر يخطط.
منذ العام 1903 وحتى العام 1957 ظلت الكوادر الماركسية اللينينية تخوض المعركة إثر الأخرى دون توقف ضد السلالات المختلفة للرجعية والرأسمالية والبورجوازية وكان الضمانة الكبرى لانتصار البروليتاريا في جميع هذه المعارك عباقرة أفذاذ يتقدمون صفوف البروليتاريا، أبرزهم فلاديمير لينين وجوزيف ستالين. بعد رحيل ستالين في آذار 1953 تمكنت البورجوازية الوضيعة متمثلة بالفلاحين والعسكر من إلحاق هزيمة مشينة بجبهة البروليتاريا فكان أن شنّت البورجوازية الوضيعة بلسان رجلها الخائن نيكيتا خروشتشوف هجوماً حقيراً وكاذباً على القائد الإشتراكي التاريخي جوزيف ستالين في نهاية مؤتمر الحزب عام 56 وبعد بضعة أشهر، في حزيران 57، تم طرد جميع البلاشفة من المكتب السياسي للحزب الذي لم يعد بلشفياً.
الشيوعيون quot; التقليديون quot; يا أخي quot; المحتار quot; هم الذين اصطفوا، إن بسبب غبائهم أم بسبب خيانتهم، وراء الخائن خروشتشوف. ولهذا كان من تداعيات خيانة خروشتشوف أن اندمغ هؤلاء الشيوعيون quot; التقليديون quot; بالخيانة أيضاً ويصعب عليهم اليوم أن يمحو مثل هذه الدمغة الأبدية كما تبدو. لن يتمكن الشيوعيون التقليديون المدموغون بالخيانة أن يعودوا للتعامل مع العلوم الماركسية وقوانينها المختلفة، ولن يجدوا من بضاعة يتاجرون بها سوى بضاعة البورجوازية المنتهية صلاحيتها من مثل التنمية والديموقراطية عديمتي الهوية (!!) والحرية وحقوق الإنسان والعدالة الإجتماعية !! ما يمكن السكوت عليه هو خيانة البورجوازية الوضيعة لشعوبها إذ أن الخيانة هي من طبيعة تكوينها، أما أن تستمر في خيانة البروليتاريا من خلال احتفاظها بالعنوان الشيوعي فذلك أمر مرفوض ويستوجب التنديد.
فؤاد النمري
التعليقات