هل انتهي عهد الغرام اليهودي باللغة العربية؟
د. مجيد القيسي*: نشرالسيد (ابراهيم حمزة) في صحيفة (ايلاف) مقالا بعنوان (هل انتهى عهد الغرام اليهودي باللغة العربية) بتاريخ 20 تموز، 2008 اثار فيه عددا من المسائل المهمة يمكن تلخيصها بصيغة تساؤلات من مثل: لمِ َهجر الكثير من الكتاب العرب الأسرائيليين اللغة العربية والتجأوا الى اللغة العبرية لكتابة نتاجهم الفكري؟. و سؤال مقابل: ولمِ َظل كتاب يهود اسرائيليون متمسكين بالعربية رغم ان قراءها في اسرائيل يتناقصون باستمرار؟. ثم عرج الى مسألة أخرى حيث تساءل فيها السيد (خالد القشطيني) عن السبب في فشل الكتاب العراقيين في إيجاد جسور بينهم وبين المحيط الفلسطيني العربي. فرأى ان العرب الفلسطينيين نظروا اليهم كمغتصبين لإرضهم. كما ان اليهود الأشكناز (الغربيين) كانوا يشككون بولائهم التام لدولة إسرائيل ولأن معظمهم كان ذا ميول (ماركسية اوتقدمية) مما دفعهم لتغير مواقفهم لأثبات ولائهم للدولة. ثم طرح مسألة في غاية الإهمية وهي تحول كتاب عرب من الكتابة بالعربية الى العبرية فاستشهد بالكاتب السيد (نبيل عودة) الذي قدم لنا نظرية خاصة به لكنه تمنى ان تصبح نظرية لغوية شاملة، ومفادها ان اللغة العبرية اكثر تطورا واكثرقدرة على تفهم اللغات ألأخرى.
وسوف نناقش المحور الأول المتصل بالخلفية التاريخية والثقافية لليهود العراقيين، تلك التي صاغت فيما بعد شخصيتهم اليهودية / العراقية المتميزة ومن ثم تواجدهم وسلوكهم وتأقلهم في بيئة حياتية جديدة. ولكي يطلع القارئ الكريم على العوامل التأريخية والفكرية والإجتماعية التي فعلت فعلها في تشكيل شخصية المواطن اليهودي العراقي ينبغي ان نستعرض باختصار ظروف حياته الماضية منذ وجوده التأريخي الأول وحتى استيطانه في اسرائيل.
يرجع وجود الطائفة اليهودية في العراق الى زمن بعيد حين قام (نبوخذ نصر) بأسر اعداد كبيرة منهم وسبيهم وجلبهم الى دولة بابل، وذلك في القرن السادس قبل الميلاد. ثم قام القائد الفارسي كوروش بعد ذلك باحتلال وتدمير دولة بابل عام 538 ق.م فاعاد قسما منهم الى فلسطين، بينما بقي القسم الاعظم في العراق سنوات طويلة فعاشوا تحت ظل الحكم الساساني الفارسي والحكم الاغريقي اكثر من عشرة قرون وحتى الفتح الاسلامي، بداية القرن السابع الميلادي. وفي بابل كتب احبار اليهود التلمود البابلي المعول عليه كثيرا. حتى ليقال مجازا بان الديانة اليهودية ديانة بابلية. وكان هذا العامل احد دوافع تعلقهم بتراب العراق الى جانب وجود انبياء لهم كالنبي ابراهيم الذي عاش في مدينة (أور) قرب الناصرية والنبي (حزقيال) او (ذو الكفل) ومرقده في قرية (الكفل) حيث يزوره المسلمون ايضا، وكذلك (عزرا) الكاتب ومقامه في منطقة (العزير) في جنوب العراق والكاهن (يوشع) في جانب (الكرخ). ولقد سارت حياتهم بسلاسة وهدوء نسبي حتى مغادرتهم العراق بعد قيام اسرائيل عام 1948.

لقد عاش اليهود في ظل الدولتين الأموية والعباسية حياة كريمة. فقد قدمت لهم الدولة الحماية والرعاية في مقابل الخدمات الكبيرة التي شاركوا هم بها. يقول الرحالة اليهودي بنيامين التطيلّي حين زار العراق في القرن السادس الهجري بان اليهود الذين تجاوزعددهم ألأربعين الفا كانوا يتمتعون بحياة مرفهة كريمة وكانوا يمارسون اعمالهم التجارية والحرفية بحرية تامة. وكانت لحبرهم الاكبر حظوة خاصة لدى الخليفة العباسي. وقد ساعدهم على تبوء تلك المنزلة التزامهم بقيم المواطنة والتصرف بحكمة في تناول الامور. وكان فيهم الحكيم والطبيب والصيدلي والمترجم والمعلم والتاجر والمالي. و فيهم ايضا الصناع والحرفيون المهرة. وهذه كلها عوامل تجعلهم جزأ فاعلا في المجتمع وأساسا لاحترام متبادل بينهم وبين غالبية السكان من المسلمين وبقية الطوائف الأخرى. وحتى في احلك الظروف، يوم حكم العراق المغول والتتر والأتراك والمماليك وتعرضوا الى الإبتزاز والإرهاب لدفع الخاوات الى الولاة ورؤساء الشرطة والمحتسبين والأشقياء تجدهم قد تصرفوا بحكمة وحنكة وصبر لتجاوز المواقف الصعبة. وتروىَ عنهم روايات وطرائف كثيرة تدل على تمتعهم بتلك الخصال الفريدة التي مكنتهم من النجاة بأنفسهم حين تعرضوا الى مخاطر. فقد عركتهم التجارب والمحن وزودتهم بقدرات فريدة على استشعار الخطر قبل وقوعه. فكانوا شديدي الحذر ويعملون في كتمان شديد وتمويه ذكي يحسدون عليه. والغرض من ذلك هو لصرف وتشتيت اذهان من يريد بهم شرا. وقد اثار مثل هذا العمل حفيظة المتعاملين معهم بل وحتى اقرب اصدقائهم من المسلمين إذ يحسبون ذلك عرضا من الشك وانعدام الثقة بالآخرين.
واليهود شأنهم شأن اية اقلية تعيش وسط اكثرية لها عقيدتها وثقافتها ولغتها السائدة ينبغي عليها ان تتفاعل ايجابا مع محيطها الحيوي، فتأخذ ما تراه نافعا لها وللمجتمع، وفي الوقت ذاته تجد نفسها مطالبة بتقديم ما لديها من قدرات وطاقات خلاقة يفيد منها المجموع، ولتظل على الدوام موضع ثقة. ولعل العراقيين يتذكرون اول وزير مالية عراقي وهو (ساسون حسقيل) الذي استجاب لنداء الواجب الوطني عام 21 ليشغل ثاني اكبر منصب سياسي/ اداري في المملكة الفتية.
وعلى العموم، فقد عاشت الطائفتان المسلمة واليهودية في تكامل وتكافل ووئام، وأحيانا وكأنهما طائفة واحدة متجانسة، كما حصل في عدد من التجمعات السكانية الكبرى في بغداد (ابو سيفين والبو شبل وقمبرعلى والبتاويين) و كذلك في الحلة والبصرة والعمارة.

وقد نجانب الصواب لو قلنا بانه لم يحصل ما يعكر صفو تلك العلاقة المتوازنة طيلة آلاف السنين من العيش المشرك. والواقع، فقد حصلت هنا و هناك حوادث مؤلمة، او حتى مظالم قاسية، لكنها لم تترك آثارا غائرة في النفوس، لأنها لم تكن بسبب خلافات عقائدية او دينية عميقة، وانما حصلت لأسباب عارضة او مفتعلة، لذلك تم تجاوزها بتعاون وجهاء الطائفتين. فالاحتكاك بين الطوائف المختلفة او التمييز بينها على اساس الدين او القومية او اللون ظاهرة مألوفة. بل وقد تجدها حتى ضمن الطائفة الواحدة.
وقد نذكر مثالا ما يزال حيا في ذاكرة العراقيين وهو ما حصل أثناء قيام حركة (رشيد عالي الكيلاني) من مآس نالت بأذاها كلا من اليهود والمسلمين على حد سواء، تلك الحركة التي اتسمت بالغلو القومي وبالنفور من الطرف ألآخر واحتقاره احيانا. وقد رفعت تلك الحركة شعار مقاومة النفوذ البريطاني الذي كان مطلبا عاما. ثم انحرفت باتجاه التحالف مع المانيا النازية متصورة بانها بذلك ستعزز من رصيدها بين الناس.
وبعد تفجير تلك الحركة وانطلاق اول رصاصة منها أندفعت فلول العسكر المرتبك والعصابات المنظمة والغوغاء وبسطاء الناس. فعمت الفوضى بعض مناطق بغداد وخصوصا تلك التي تقطنها الطائفة اليهودية، بإستثناء البعض منها حيث قام المسلمون بحمايتهم والحفاظ على ممتلكاتهم وأموالهم، كمحلة (البو شبل) مثلا. كما قامت عوائل مسلمة كثيرة بحماية جيرانهم واصدقائهم من اليهود هنا وهناك مما يتعذر حصره. وقد ساعدت تلك الهمة القعساء على تقليل الخسائر البشرية بين المواطنين اليهود الى حد كبير.
وقد سعت بريطانيا وانصارها من الطائفتين، والوصي على العرش (عبد الإله) والساسة الموالين له والذين سبق وان تخلصوا من الملك الشاب (غازي) على اثر حادثة مريبة، وكذلك انصار المعسكر المناهض، وعلى رأسهم جماعة (الكيلاني)، للتحريض على الإقتتال وسفك الدماء ونهب ممتلكات اليهود ولأشعال فتنة طائفية شاملة تطال طوائف أخرى، كما شاع في حينها، وذلك سعيا وراء مكاسب سياسية لا تخفى على المراقب المحايد. هذا فضلا عن ألإساءة الى الشعب العراقي وتأليب العالم عليه. وقد اطلق على تلك الاحداث المأساوية اسما مثيرا وهو (الفرهود)، إذ راح ضحيتها ما بين 150 ـ 200 شخص واصيب اضعاف هذه الأعداد بحسب تقديرات المؤسسات المختصة يومها. كما تم تدمير ونهب الكثير من الممتلكات الخاصة باليهود وبعض المرافق الحكومية. وقد انتهز اصحاب الثارات الشخصية هذه الفرصة النادرة للإنتقام والإقتصاص من اعدائهم، فقام نفر من هؤلاء بالوشاية بأعدائهم الأبرياء لدى الإنكليز والسلطة المحلية، وقيل بأيحاء منهما، لفرض الأمن بالقوة ونشر الخوف وتعزيز هيبة الحكومة الجديدة، حيث تم القاء القبض عليهم واعدامهم بعد محاكمات سريعة. وقد اثار هذا الفعل غضب واستنكار العراقيين في حينه. وقد علق البعض بأنه كان على القوات البريطانية، إن كانت جادة، ان تبادر الى مثل تلك الإجراآت الحازمة قبيل تفجر الأحداث لدرئ وقوعها.

والحقيقة، فان المنتفع الأول من آثام تلك الحركة الإجرامية الطائشة هم البريطانيون والسلطة القائمة والحركة الصهيونية بخاصة والتي استثمرتها سياسيا الى أبعد مدى، فجعلت منها واحدة من النكبات التأريخية الكبرى. وقد ظهرت انعكاساتها وارتداداتها المتلاحقة بعد عام 50، حيث بدأت التفجيرات هنا وهناك، فواكبتها حملة توزيع منشورات او دعوات شفهية من المنظمات الصهيونية في دور العبادة والمقاهي تطالب اليهود بمغادرة العراق فورا والذهاب الى اسرائيل. وهو امر لم يكن غير طبيعي وغير متوقع. كما لم يكن امرا غريبا ان يتطابق هذا السيناريو مع آجندات الحركات القومية والدينية المتطرفة وبعض الساسة من انصار الحكومة والإنكليز حيث قامت بتوزيع منشورات مماثلة تطالب بطرد جميع اليهود من العراق.

لقد سارت الأحداث المأساوية في طريقها المرسوم، وحصل ما حصل. إذ دخلت القوات البريطانية بغداد واللصوص والقتلة منهمكون بعمليات النهب والسلب والقتل والتعذيب وجرد الغنائم وتقييمها. وقد علمنا بان رئيس الطائفة اليهودية السيد (ساسون خضوري)، اذا لم تخني الذاكرة، قد طالب بنفسه، وبشدة، بتدخل الجيش البريطاني لحماية الطائفة اليهودية دون جدوى. وقد راح الناس ينظرون الى مشاهد هذه المأساة الإنسانية المفتعلة والألم ينهش في احشائهم. وقد حصلت من الأحداث والتعديات القاسية ما لا يتسع المجال لذكره. واستمر الحال على هذا المنوال قرابة اليومين. وقد اختار مشعلو الفتنة، ولعل ذلك كان عن سابق تصميم، اياما مقدسة عند (اليهود) وهو نهار السبت الذي يطلقون عليه محليا (الشبّاث). وكان الصبية المسلمون في (ابو شبل) و(ابو سيفين) ساعتها منهمكين في إضاءة السُرُج والكوانين في منازل اليهود بإنتظار (البخشيش) من الحلوى، وكعادتهم دائما في مثل هذه المناسبات.
وفي تلك الأثناء كنا نشاهد الطائرات البريطانية ذات اللونين الأبيض والأسود تحلق في سماء بغداد وتحوم حول مناطق اليهود بالذات وبارتفاع منخفض جدا!. ونتذكر جيدا كيف قام رئيس المحلة (الطرف) بأطلاق النار على احدى الطائرات من بندقيته الخاصة مما حمل الطيار الإنكليزي على الإنتقام الفوري بالقاء قنبلة يدوية على الصبية المتجمهرين، من اليهود والمسلمين، حول مزبلة (ابو شبل) فتناثرت الأزبال والشظايا فوق رؤوسهم مما اثار الرعب بين سكان المحلة. وقد شاهد البغداديون احدى تلك الطائرات في السينما الوطني بعد اسقاطها.
ولعل البعض يتساءل: لِمَ اشتعلت تلك الأحداث في بغداد العاصمة لوحدها، وعلى ذلك النحو المأساوي، في الوقت الذي انتشر في شوارعها وازقتها ألآف الجنود الإنكليز و(الگورگة) والعربات المدرعة، وحلقت في اجوائها الطائرات بينما لم تشتعل في مدينة (الحلة)، مدينة الكاتب الكبير(انور شاؤول)، حيث تعيش بين ابنائها طائفة يهودية عمرها تأريخ العراق؟.
ولقد اصدر الحكام الجدد التحذيرات والإنذارات المعتادة في مثل تلك الأحوال ولكن بعد فوات الأوان. ولم تنس تلك القوات ان تبلغ الناس عن طريق (الدلالين) و(المخبرين) بأن لدى (ابو ناجي)، وهي كناية الإنكليز، قطة (بزونة) ذكية بمقدورها كشف المسروقات عن طريق حاسة الشم حتى وان تم إخفاؤها في باطن الأرض!. فاذا بالساحات العامة و(الفضوات) تمتلئ بالمنهوبات من كل صنف ولون. بينما راح الحمالون والعربات والدواب العائدة الى المتنفذين والتجار والسياسيين والأشقياء ينقلونها الى منازلهم ومخازنهم!. ولعل من المشاهد المثيرة للضحك ان ترى بين اللصوص صبية من عامة الطائفة اليهودية!. وفي الوقت الذي تعالت فيه الإستغاثات من دور(ابو سيفين) و (فرج الله) المتهالكة نجد نسوة (ابو شبل) من اليهوديات والمسلمات يتربعن في الطرقات امام منازلهن ويتفرجن بعيون دامعة على تلك المشاهد المؤلمة.
ولقد اصبحت تلك الاحداث المؤلمة مدعاة للأسى والإستياء العام في حينها. وكان الخاسر الأكبر من تلك الجريمة النكراء المصنعة هو الشعب العراقي البريء وبجميع طوائفه وفئاته. والمثير للتساؤل والإستغراب حقا هو اننا ما نزال تقرأ لكتاب راحوا يسطحون تلك المأساة الإنسانية ويجردونها من دوافعها السياسية المفبركة ويعزونها الى مجرد واقعة نهب وقتل قام بها الغوغاء من العراقيين. ولم يكتف البعض بذلك بل راح يضع لنا نظريات (سايكولوجية) غريبة يزعم بها بان ما حصل عرض لداء او طبع خاص بالشخصية العراقية!.

وكان لنجاح تلك الخديعة (الإنكليزية) الكبرى والتي اتخذت صورة المأساة الإنسانية المؤلمة ان استنسخها الأميركان بتفاصيلها وحواشيها ابان غزوهم للعراق في نيسان، عام 2003، حيث اطلقوا العنان للعصابات المنظمة، دولية ومحلية، والمجرمين والدهماء وبسطاء الناس بنهب المتحف العراقي والمؤسسات الأخرى وعلى نطاق واسع، مع استثناء واحد وهو انهم نسوا ان يجلبوا معهم (القطة الذكية!) وكادرها التقني للإستعانة بهم!.

وقد يثير الأتهام المتواصل الموجه نحو العراقيين بأنهم شعب يجنح نحو الكراهية والعنف والشر اتجاه (اليهود) إشكالية فكرية تستلزم تفسرا وايضاحا. إذ كيف سنوفق بين هذه المزاعم وبين الوقائع الواردة سابقا والتي تقول بان المسلمين واليهود عاشوا بسلام ووئام طوال قرون؟. وهاهم حكماء اليهود وعلماؤهم وادباؤهم وشعراؤهم، قديما وحديثا، يذكرون مآثر ومناقب بلاد الرافدين الطيب أبناؤها والعذب ماؤها واللذيذ طعامها والعليل نسيمها، و كما وصفته اقلام المفكرين والأدباء والشعراء الكبار من امثال (ابراهيم عوبديا) و(انور شاؤول) و(مير بصري) و(سمير نقاش) و(د. شموئيل موريه) و(د. سلمان درويش) و(اسحاق بار- موشيه) و(د. مراد ميخائيل) و(د. دافيد صيمح) و(مراد العماري) و(د. ليليان دبي) و(يعقوب بلبول) وغيرهم. وكذلك ما نشره مفكرون وسياسيون في الصحافة العلنية مثل (سليم البصون) و(حسقيل قوجمان) وغيرهما. وما سمعنا من افواه اكاديميين واساتذة وأطباء وصيادلة ومعلمين وقراء مقام ومغنين وموسيقيين و آلاف من المواطنين البسطاء. وقد لن انسى ابدا ما أسرّني به احد ابناء الطائفة (اليهودية)، والدموع تترقرق في عينيه، بانه سوف يفتقد شيئين عزيزين على قلبه اذا ماترك البلد، وهما: (نومة السطحْ وميوة العراق!) (والميوة هي الفاكهة). أفهناك مشاعر وطنية اكثر طيبة وصدقا يمكن ان يجدها المرء خارج أحرف تلك العبارة الفطرية البسيطة؟. فلو نحن نقبنا ما بين جوانح كل يهودي غادر العراق فسنكتشف بأنه قد اودع العراق سرا من اسرار كينونته العراقية. ولكن ماذا بأيدينا نفعله حتى نغير من نواميس الكراهية والشر في هذا العالم!؟.
والحقيقة، فان محنة (الفرهود) القاسية لم تترك أثرا سلبيا كبيرا في نفوس جمهور العراقيين، يهودا ومسلمين، كما كان يتوقع بل ويرجو البعض، فقد لعق الجميع جراحه فخلدوا للسلم والطمأنينة. وهو ما يؤكد إفتعاليتها وصناعتها. فعادت الحياة الى طبيعتها وبدا التعاون والتآخي بين كافة الطوائف وكأن شيئا مؤلما لم يحدث. لكن طواحين المناورات والأحابيل لبعض الساسة والحركات السرية ومن كل الطوائف ظلت تدور بالخفاء لزرع الفتنة بين العراقيين، وهو امر مفهوم ومتوقع في جميع الأزمنة.
وتعد الحقبة التي اعقبت تلك الحركة من اخصب الحقب السياسية في تأريخ العراق الحديث. فقد نشأت الأحزاب والجمعيات التي مثلت جميع المدارس الفكرية، بدأ باقصى اليسار وانتهاء باقصى اليمين وما يقع بينها من اطياف حزبية. وكانت بحق تجربة رائدة بالرغم مما واجهته من صعاب قد ادت في النهاية الى وأدها. وما يهمنا هنا هو ان نبين دورالطائفة اليهودية في اغناء تلك التجربة الفريدة وانعكاسها الإيجابي المؤثر على سلوكها في المهجر، وهو احد محاور حديثنا.
فقد ساهمت الطائفة اليهودية بشكل فاعل ومباشر في قيادة بعض تلك الأحزاب، ياتي في مقدمتها (الحزب الشيوعي العراقي وواجهته (حزب التحرر الوطني). وهما اللذان افرزا (عصبة مكافحة الصهيونية) تحت قيادة (ابراهيم ناجي شميل) والتي نشأت عليلة ثم انتهت لأسباب موضوعية لسنا بصدد مناقشتها. وكذلك (حزب الشعب) بزعامة (عزيز شريف) و(حزب الأتحاد الوطني) بزعامة (عبد الفتاح ابراهيم)، وهما حزبان ماركسيان يمثلان أقصى يسار الوسط، و(الحزب الوطني الديمقراطي) بزعامة (كامل الجادرجي)، وهو حزب ديمقراطي/ تقدمي، و(حزب الإستقلال) بزعامة (الشيخ محمد مهدي كبة) وهو تنظيم قومي عربي.
وقد التحق الكثير من المثقفين اليهود بالاحزاب والحركات الماركسية والتقدمية. فبرزت فيهم شخصيات شيوعية قيادية مثل (يهودا صديق) و(ساسون دلال) اللذين أعدما من قبل السلطة مع عدد من زملائهم المسلمين. وكانت هناك ايضا شخصيات سياسية ماركسية مثل (سليم البصون) الذي رأس تحرير صحف حزبية مثل (السياسة) و(الأساس) اللتين كانتا تعبران عن افكار حزب (الإتحاد الوطني)، والكاتب الماركسي (حسقيل قوجمان) الذي كتب ايضا في مجال فنون المقام والموسيقى والغناء العراقي.

وفي الإطار الأوسع نجد ان هناك فئات مارست الادب اكثر من السياسة يمكن وصفها بكونها نخبا تتحرك على مساحات اكثر رحبا من المفاهيم الوطنية والديمقراطية والإشتراكية. وقد ينطبق وصف ( التقدميين) او (المستقلين) او حتى (اللبراليين)، على وفق مصطلحات هذه الأيام، على معظمهم، بضمنهم من سبق ذكرهم من المثقفين المتنورين. ولعل دورهم في صوغ الشخصية اليهودية / العراقية كان عميقا ومؤثرا الى جانب الدور الحاسم الذي لعبه قراء المقام والموسيقيون (ألآلتية) والمغنون طوال تأريخهم وحتى اليوم. وهي المسألة التى سنتناولها باختصار لاحقا بالنظر لأهميتها الخاصة في تشكيل الشخصية الأجتماعية لليهود العراقيين وانعكاساتها على العراقيين بعامة.

ولقد عمل الكتاب اليهود والمسلمون معا في جو من الود والتقدير والإحترام. فلم يشعر اي منهم بانه إنما يعبر عن مشاعر طائفته او همومها او حاجاتها وحسب حين يكتب مقالة اوقصة او ينظم شعرا. كما ان القراء بدورهم لم يشعروا باية فوارق او مشاعر قومية او طائفية حين يقرأون لكاتب يهودي او مسلم. فالقارئ العراقي يقرأ (لأنور شاؤول) مثلما يقرأء (لجعفر الخليلي) ويقرأ (لشموئيل موريه) مثلما يقرا (لعبد الملك نوري). فهاجسهم المشترك هو عشق العراق. فالكل عراقيون وفوق الميول والإتجاهات... وهو الشعار الشعبي الذي شاع بين الناس وسرى مسرى الأمثال. ولعل الكتاب اليهود كانوا اكثر تمسكا به ليدفعوا عنهم شبهة التعصب لطائفتهم. وهو شعور طبيعي في مثل ظروفهم الدقيقة. ولم يقتصر ذلك الشعور النبيل على الفئات المتنورة وحسب بل وتجده ايضا بين الفئات الإجتماعية العريضة دون استثناء.
ويلمس المتتبع ان اليهود العراقيين قد نقلوا تلك المشاعر الوطنية / العراقية الى المهجر وعملوا على إذكائها وترسيخها بين ابنائهم وفي محيطهم الحيوي. فليس غريبا، إذا، ان يكون صوت اليهود العراقيين عاليا مجلجلا في وسائل الإعلام الإسرائيلية والذي انتشر خارج فلسطين عن طريق المذياع والمواقع الألكترونية، بالرغم من قلة عددهم. وتراهم قد تمسكوا بإسلوب عيشهم وبعاداتهم وبلغتهم ولهجتهم العربية المتميزة حتى اليوم. وقد يكون ذلك السلوك مدعاة لموجة العداء إتجاههم من قبل اليهود (الأشكناز) والسلطة الإسرائيلية والأحزاب الدينية منذ الأيام الأولى لوصولهم، وبخاصة تلك الموجهة نحو الكتاب الوطنيين والتقدميين مما حدا بالكثير منهم الى مغادرة اسرائيل او البقاء في عزلة عن المجتمع حتى بعد مرور فترة طويلة على وجودهم هناك. ولعل مأساة الكاتب الكبير(سمير نقاش) ومعاناته النفسية وتجواله واغترابه لخير مثال. ومن المفارقات العجيبة ان زميله الكاتب المعروف (انور شاؤول) الذي آثر البقاء في وطنه الاول العراق والذي شغف بحبه شغفا شديدا قد تعرض هو الآخر الى المضايقات من قبل السلطات العراقية واختتمت بأسقاط الجنسية عنه!.
وكما المحنا سابقا فان النشاط ألأكثر انتشارا والأبعد اثرا في حياة ابناء الطائفتين المسلمة واليهودية في القرنين الماضيين كان في مجال الفنون الموسيقية، وبخاصة المقام العراقي والغناء والرقص وفي اقامة الحفلات في المناسبات والأفراح. ويمكن القول بان هذا العامل كان من العوامل الحاسمة في تكوين الشخصية الإجتماعية / الشعبية لليهود العراقيين، وللبغداديين بنحو خاص. فللغناء والطرب سحره على الناس بصرف النظر عن طوائفهم وعقائدهم كما هو معروف. ويمكن القول بان النشاط الفني هذا بالذات كان احدى وسائل الحماية والدفاع الطبيعية التي لجأ اليها المواطنون اليهود.
ولقد برز بين اليهود العراقيين عدد كبير من قراء المقام، ومن الطبقة الأولى، الى جانب زملائهم المسلمين، حيث صنعوا معا إرثا غنائيا / مقاميا في غاية الإبداع والجمال، منهم على سبيل المثال (روبين رجوان) و(رحمين نفطار) و(يوسف حوريش) و(سلمان موشي). وقد اخذ عن هذين الأخيرين كل من (سليم شبث) و(حسقيل قصاب). وكان آخرهم (فلفل كرجي) الذي مايزل يحظى بشعبية بين العراقيين من اليهود والمسلمين.
كما تفرد الموسيقيون اليهود (ألآلتية) في ادارة وقيادة الفرق الموسيقية المسماة بـ (الچالغي البغدادي) حتى رحيلهم عن العراق بعيد عام 48. واشتهر فيهم فنانون كبار ابرزهم (شميل بن صالح) و(صالح بتو) و(حوكي بتو) و(حسقيل بن شمولي) و(ابراهيم بن عزرا). وقد صاحب بعضهم الفنان الكبير (محمد الكبنجي) لحضور المؤتمر الموسيقي الاول الذي عقد في القاهرة عام 32. وما يزال العراقيون حتى اليوم يستمعون بشغف الى موسيقى الفنان اليهودي المعروف (صالح الكويتي) ويرددون الأغاني الشعبية الخالدة التي قدمها الى فنانات شهيرات متل (زكية جورج) وسليمة (باشا) مراد وسواهما.

ولست بمغال لو قلت بان العوامل المارة الذكر مجتمعة، بدأ بوجودهم الأول في بابل ووجود انبيائهم وكهنتهم ومرورا بالسياسة والأدب وانتهاء بالموسيقى والغناء والمقامات العراقية، كل تلك العوامل الرئيسة قد فعلت فعلها السحري بين يهود العراق فدفعتهم نحو انشاء ما يمكن ان يطلق عليه بـ (غيتو) عراقي داخل إسرائيل حوى كل خصائص الحياة الإجتماعية العراقية، والبغدادية على وجه الخصوص. وقد ظل ذلك (الغيتو) متصلا بالوطن الأم عقودا طويلة ما زالت بقاياه شاخصة حتى اليوم وذلك من خلال ممارسة العادات والتقاليد والموروثات الشعبية التى عشقوها بصدق وعمق وسهروا على حمايتها ورعايتها وتطويرها وكأنهم ما يزالون يعيشون في وطنهم الام.

أوليس من المدهش ان نرى بعد اكثر من نصف قرن على مغادرتهم العراق الجيل الجديد من الأبناء والأحفاد وهو يصدح بأنغام المقامات والبستات البغدادية الشجية، اوحين تدخل منازلهم او مطاعمهم لتشم فوح الطبيخ البغدادي اللذيذ من بعيد، او ان تدلف الى الاسواق او الحارات الشعبية لتستمع الى لهجتهم العربية المتميزة وكانك في (ابو سيفين) او (حنون الصغير)!.
والواقع، فانه لم يكن من اليسير على اليهود العراقيين ان ينعموا في مجتمعهم الجديد بنمط حياتهم العراقية الأصيلة. فقد جابهوا، ومنذ البداية، عمليات منهجية لغسل المخ او بالأصح اعادة تشكيل العقل وذلك بمحو الفكر العراقي القديم واستبداله بفكر مختلف كليا يقوم على خصائص الدولة الأوربية / العبرو / ييدش. فقد سعى المنظرون الأوربيون الى لصقه عنوة بالأصول الأوربية لا بالتأريخ الشرق اوسطي. ولم تكن مهمتهم يسيرة ابدا. فقد واجهوا اكتر من 33 قومية ولون وسحنة وثقافة ولغة ولهجة. إذ ليس من السير خلطها ولتها وترقيقها إلا بمعجنة سحرية عملاقة. وهذه ألآلة لم يتم ابتكارها بعد. وقد وجد اليهود العراقيون انفسهم بين تلك الكتل المختلفة. وقد تمر دهور طويلة قبل ان ينصهروا اجتماعيا وثقافيا ونفسيا.

وكانت تلك الصورة مغايرة لما تخيله اليهود العراقيون الذين تشكل عقلهم في البيئة العراقية او حتى العربية، وعبر آلآف السنين، فاصبح ركنا رئيسا من البناء الحضاري السامي للمنطقة. فصورة الدولة العبرية كما أرادوها هي التي تقوم على الفكرة السامية / العبرية / العربية وبالوان الثقافة الشرق- أوسطية السائدة. ولعل من غرائب ذلك (الفكر المختلف) وعجائبه انه سلخ اكبر الكتل التأريخية/السامية كالعرب وألآراميين والفنيقيين من حظيرة (الساميين)، بحيث اصبح المصطلح مختصا بـ (اليهودية) وحسب. فلو قام (عربي عراقي) او (عربي لبناني)، مثلا، بنقد سياسة دولة اسرائيل فهو متهم بمعاداة السامية!.
وكانت اول ضربة تلقاها (اليهود العراقيون) هي من خلال طعن (اللغة العربية) وآدابها وفنونها، ذلك الوسط العقلي/ النفسي الفريد الذي ينقل الفكر والثقافة والتراث والعادات والمشاعر ويسعى لحفظها وتطويرها وترقيتها. ولقد اتخذت وسائل محاربة (العربية) اشكالا متعددة لامجال لعرضها هنا. لكن ابرزها كان في التضييق عليها في وسائل النشر المختلفة، وضمن برنامج طويل النفس، مستغلة ظاهرة الشيخوخة الطبيعية لأية لغة تتخلى عنها الأجيال الجديدة لمصلحة اللغة الرسمية السائدة، وكما اكد ذلك العالم الجليل ابن خلدون في مقدمته. والواقع، فان اللغة العربية تخوض اليوم صراعا مريرا في مواجهة العبرية. فالذين يعنون بالعربية ويوجهون نتاجهم للقراء اليهود بالدرجة الأولى هم من بقايا الرواد اليهود العرب ألأوائل، والعراقيين على وجه الخصوص. و يأتي في مقدمتهم الكاتب الكبير الدكتور شموئيل (سامي) موريه الذي ما يزال يحمل راية اللغة العربية بكف والقلم بكف آخر. وكذلك اولئك الذين يكلفون بمهمات خاصة من قبل النظام الإسرائيلي وفي نطاق مشاريع الأعلام الموجه او ما يسمى بالحرب الإعلامية او النفسية، والموجهة أصلا الى العرب في كل مكان من خلال الفضائيات والمواقع الأكترونية والصحافة.
ووفق التحليل السابق يمكن ان نفسر تخلي كتاب يهود كثر عن الكتابة بالعربية. فالكتابة سلعة ينبغي ان تجد لها من يسوقها ومن يتوسط لتسويقها واخيرا من يشتريها. لكن المشكل الأكبر هو في تحول كتاب عرب نحو استخدام اللغة العبرية.بدلا من اللغة العربية. فان كان هؤلاء يكتبون في الأصل للإسرائيليين وفي نطاق مشاريع اعلامية عربية موجهة ومتقابلة فليس هناك من بأس، بل على العكس من ذلك، فهو ضروري جدا. اما في غير ذلك فليس هناك ما يدعو الى تشجيع تلك الخطوة. وسوف يكون ضررها بليغا على المدى البعيد، ولابد وان يكون على حساب العربية.
ويزعم بعض الكتاب العرب ومنهم السيد (نبيل عودة): (بان اللغة العبرية اسرع تطورا واكثر قدرة من اللغة العربية واكثر قدرة على تفهم اللغات الأخرى. فالترجمة من الإنكليزية الى العبرية اسهل بكثير من الترجمة الى العربية). ثم يضيف، وهنا بيت القصيد، (باني كمواطن في اسرائيل اجد سهولة اكبر في استعمال العبرية في كل مايتعلق بالعلوم والتكنولوجيا). لكن من اغرب استشهاداته قوله: (وحين حاولت قراءة كتاب (الإستشراق) (لأدوارد سعيد) بالعربية ترجمة (البروفسور كمال ابو ديب) عجزت عن فهم لغة المترجم. ولحسن حظي وجدت ترجمة عبرية رائعة للكتاب واضحة ودقيقة. نفس المشكلة واجهتني مع كتاب (الثقافة والإمبريالية) لنفس المترجم) انتهى!.

ومشكلة بعض الكتاب العرب، مع الأسف، انهم كثيرا ما يخلطون ما بين عنصرين مختلفين كليا حين يتناولون مسألة اللغة العربية، وهما عنصر اللغة كفكر وفلسفة واصول وبين عنصر اللغة كأداة عملية. اي انهم يخلطون ما بين نظرية الألوان في الرسم وما بين الأصباغ. فالقول بان اللغة العبرية (افضل) من العربية لا يخرج عن هذا السياق. والحقيقة التي يدركها علماء الألسنيات واللغة بان اللغات العربية والآرامية والعبرية لغات ساميات ولدت من رحم لغة (سامية ام) او اصل (بروتو سامية). ومع مرور الزمن والمحن والتجارب اختلفت سبلها ومدارجها. لكن المعروف بين العلماء بان العربية، كفكر وفلسفة واصول قد نمت وازدهرت وتقدمت على اللغات السامية الأخرى بأشواط فاصبحت اداة عملية رائعة وطيعة يوم كان هناك ما يفجر طاقاتها الكامنة ويعبر بها في الشعر والأدب والفلسفة والتاريخ والعلوم. وقد لا اظن بان السيد الكاتب يجهل حقيقة قد لمسها فبله علماء ومستشرقون كبار وهي هذا الإعجاز اللغوي البياني الذي نزل به القرآن، وذلك الأسلوب العلمي المدهش الذي كتبت به (رسائل اخوان الصفا) و(رسائل جابر بن حيان) وكتب (الفارابي) و(ابن سينا) و(ابن رشد)، وتلك اللغة الجميلة السلسة التي كتبت بها قصص (الف ليلة وليلة) وكتب (كليلة ودمنة) و (البيان والتبيين للجاحظ) و(الأيام لطه حسين) ومعجمات (مشرفة) و(حتي) و(البستاني)، الى آخر حبيـبات تلك المسبحة الجميلة المتناسقة.
فأني في الواقع لا ارغب ان اقلل من شأن (العبرية) او غيرها من لغات سامية قديمة، فهي جميعا ادوات تعبيرية جميلة ومفيدة قد انبثقت عن فكر سامي قديم واصيل. لكن علينا اولا ان نحدد ونقيم عناصر ذلك الفكر وادواته في اللغتين العبرية والعربية، و سواء أكان ذلك في النحو ام الصرف ام الإشتقاق ام المجاز ام البيان.على ان لا ننسى حيوية كل أبجدية وعدد مداخل الفاظها. و بودي ان احيل الكاتب، ولضيق المجال، الى المراجع اللغوية ففيها القول الفصل.

اما ما ذكره من ان اللغة (العبرية) اكثر حيوية من العربية، فهنا ايضا نجد انفسنا امام خلط بين المفاهيم الأساسية وبين الأدوات الفنية وبين السياسة اليومية الدارجة. فقوله ذاك لا يخرج عن حدود هذا المثلث المغلق. فهو يندرج ضمن خانة الأعلام الموجه الذي اشرت اليه. ومن اهدافه اعلاء راية وتنكيس أخرى.
والحقيقة، فان ما يحاول تناسيه الكثير من كتابنا العرب في اسرائيل وفي خارجها هي الحقيقة المرة القائلة بان البيئة الحيوية التي وجدت (العربية التأريخية) نفسها فيها بيئة جامدة وعليلة. وهي عين البيئة التي تتحكم بمصير هذه الأمة المنكوبة بنكبة لغتها. فقوة (العبرية) ومرونتها إذا مستقاة من قوة (الدولة العبرية) وترسانة سلاحها وارتفاع نبرة وسائل اعلامها وأعلام اعظم دول العالم لصالحها لا من إمكانات لغتها التأريخية المعروفة.
ومن الحقائق التي ينبغي الإقرار بها وهي ان علماء اللغة الأسرائيليين يحاولون بذل جهود مضنية لتطوير اللغة (العبرية) لتغطي مساحات واسعة من العلوم والمعارف والتكنولوجيا الحديثة اعتمادا على اصول لاتينية / إغريقية وعلى ذخيرتيهما العظيمتين من المصطلحات والرموز العلمية، وهو ما قامت وتقوم به (العربية). لكن ذلك النشاط الإسرئيلي المتواصل لن يطمس الحقيقة القائلة بان(اللغة العربية التأريخية) ستظل اللغة الند لها وللغات أخرى عديدة. اقول هذا عن خبرة عملية طويلة في مجال لغة العلوم البحتة ومصطلحاتها، واعتمادا على قدراتها الذاتية لا على قدرات (العربية السياسية).
تعقيب اخير بودي ان يكون مسك الختام. قال الكاتب (عودة): بأنه ايسر عليه ان يقرأ كتابا مترجما الى (العبرية) من ان يقرأه (بالعربية) ومستشهدا بقصة كتاب (الإستشراق) (لأدوارد سعيد) المار الذكر وملقيا باللائمة على العربية التي لم تتطور كأختها الصغرى خلال المائة سنة الأخيرة بحسب فوله. وربما كان يوجه اللوم نحو المترجم (البروفسور) ايضا. ويؤسفني القول بان هذا الزعم يتسم بالسذاجة والذاتية ولا تجمعه بمفهوم اللغة آصرة ما. وبمقدوري ان آتي باكثر من كاتب ليقول مثل القول الجميل في اللغة العربية.
فنحن، ولكي نفهم المقروء ونستوعبه جيدا، ينبغي ان تتوافر ثلاثة عناصر متلازمة: هي اللغة والكاتب والقارئ. ولكل منها مواصفاته العالية. لكن السيد (عودة) اختزل هذه الصورة الثلاثية الأبعاد الى مسطح. ففضلا عن توافر اللغة البليغة، ينبغي ان يكون الكاتب (مؤلفا او مترجما) متمكنا من التعبير بهذه اللغة والإفصاح بها. ولا اظن ان المترجم وهو استاذ اكاديمي تنقصه تلك المواصفات. اما القارئ فعليه ان يجاري الكاتب في مواصفاته تلك لكي يستوعب ما يقرأ. فبدون تلك العناصر، إذا، لايمكن للمعرفة، ايا كانت طبيعتها، ان تصل الى مبتغاها. فالقاء اللوم على اللغة (العربية) جزافا ما هو إلا غطاء للتستر على ضعفنا وخيبتنا وهزيمتنا.

يقول المثل الدارج: (ان الفريق المعد إعدادا جيدا لابد وان يكسب اللعبة حتى بكرة (شراب)!.)

* أكاديمي مغترب من العراق