عبدالجبار العتابي من بغداد:واخيرا.. مات الشاعر العراقي طالب السوداني!!، ولا اعرف لمن يمكنني ان انقل خبر نعيه، لقد مات في المستشفى بعد ان عاش اياما عصيبة في صراعه مع المرض، ربما لاصدقائه الكثيرين او محبيه الذين لايعدون او الى الذين كانوا يغضبونه منه بسبب مؤلفاته الشعرية العامية او الفصيحة حتى، او ربما ليس هنالك من انقل له الخبر كون طالب السوداني مثيرا للجدل ومشاكسا ليس له من نظير، في كل شيء، في ما يكتبه وما يقوله وما يتصرف به، لم اعرفه الا متهكما، الا ساخرا، الا عفويا، لا يخطط ابدا لاي شيء، يدخل اينما يشاء ويتحدث متى يشاء ويجلس الى طاولة من يشاء بدون استئذان، ويتناول الطعام مع من يشاء، وفي كل هذا لا ينظر اليه الا بالابتسامات الظريفة، لا اعرف وانا احاول ان اكتب الخبر كيف سيتصور من يقرؤون الخبر شكل طالب السوداني وهو مسجى على فراش المرض في المستشفى، فهو لم يكن سوى عظم ولحم وطول فارع، ربما لم يأكل منذ عشرة اعوام، ربما ما يأكله يصرفه بسرعة ما يشربه. ليس هنالك من شيء يمكن قوله عن طالب الذي يجمع المتناقضات كلها، يتحول من صعلوك الى مثقف في لحظات، يتكلم بكلام لا تفهم منه شيئا، وبسرعة تجدك معجبا بما يطرحه، تصفه بالجنون من اول نظرة ولكنك تتراجع لتقول انه فيلسوف!!، تشعر في اللحظة انه عدواني وشرير، ولكن بعد هنيهة من التعرف عليه تجده طيبا جدا، مات طالب السوداني.. الذي اطلق عليه البعض (سيد.. فن التقليل من اهمية الاشياء)، لا يبالي بأي شيء ولا يمنح أي شيء قيمته، تراه مثل جذع شجرة كالبتوس رفيع لكنه يعلق على كتفه حقيبة جلدية تجعله يميل قليلا، وكأنها ستسقطه، ولكن ليس فيها ورقة ولا قلم، الذين يعرفونه جيدا يقولون انه يمتلك ذاكرة فولاذية لذلك فهو يؤلف في كل الاحوال، حين يمشي وحين يتكلم وحين يترنح وحين يجلس على حافة أي رصيف او في أي مقهى او في أي مكان يستهويه ولا احد يسأله، يأكل مجانا ويشرب مجانا، الاخرون هم يدفعون.
كتب عملا تلفزيونيا عنوانه (الحگو مات)، فاثار ضجة في الوسط الفني والثقافي والشارع العراقي،في لحظة كان الكثيرون ان طالب سيتعرض للاغتيال لان ما قاله غير اعتيادي وقاس وتهكمي بشكل كبير خاصة انه جعل المواطن العراقي يحسد القطة على عيشتها،وفي تنبؤه ان عراقيا واحدا فقط سيبقى، وكذلك كتب مسلسل (نص اخمس) الذي لاقى اصداء متباينة، لكنه كان يترنح في الشوارع والاسواق والمقاهي والامكنة الثقافية دون ان ينبس له احد ببنت شفة ولسان حال الجميع يقول انه طالب السوداني،كما انه كتبفي التسعييات اغنية صارت اشهر الاغاني وهي اغنية (الماعنده منين يجيب) يعتبرها اغنية وطنية لانها تدافع عن الفقراء ايام الحصار.
كان يحلم ان يدخل كلية الفنون الجميلة، وحاول ذلك كثيرا ولكن درس اللغة الانكليزية كان يحول دون اكماله الدراسة الاعدادية، فلم يستطع تجاوزه وهو ما دعاه الى تزوير شهادة لكن امره اكتشف اقتيد الى الجيش والحرب لكنه لم يحتملها فهرب، يقول انه عانى كثيرا وحمل هموما كثيرة وعاش محنا كبيرة من الحرمان والجوع،وعليك ان تتصوره واطفاله الخمسة الذين اسماؤهم( جنوب وحسين ومنتظر ومريم وديما)
كان يطرب لصوت وديع الصافي ويضعه قائمة الذين يحبهم، وهم قلة،كما انه طالما يعلن تمنيه لو كان المطربة الكبيرة فيروز امه!!، والاصدقاء يتندرون بذلك فيما هم مقتنعون انه يعشق صوت فيروز، وليس غريبا على شخص من طالب السوداني ان لا يعشق فيروز لانه يمتلك ذائقة، وربما لا يبدو الامر غريبا ان نقول ان طالب السوداني كتب واحدة من اجمل الاغاني الرومانسية وهي ( ما اريد تطلع شمس وانت علي زعلان)، وهي من الحانه ايضا، كما انه في كل مرة يرى نفسه سيموت مثل ميتة الشاعر الاسباني لوركا في الحرب الاهلية، لكنه لم يمت اغتيالا ولا بسيارة مفخخة ولا بعبوة ناسفة، وكان اخ له اسمه عقيل قد مات اغتيالا على يد ارهابيين، كان في لحظات صحوه يتأسف انه يعيش في بلد اصبحت تطلق فيه جملة ( تصبح على خير) في الثالثة ظهرا، ولانه كان يعشق السهر ويتمنى ان يتجول في ليالي بغداد كان يقول (كنت اترك اطفالي واقضي ليلتي في احد مكاتب الاصدقاء لأقنع نفسي انني سهرت مثل ايام زمان).
طالب حسبن علي السوداني وهذا اسمه الكامل من مواليد 1966 تعرض للسجن اكثر من مرة في زمن النظام السابق سواء في الجيش بسبب غياباته وهروباته ام لانه كان يسب ويشتم النظام بشكل علني، ونال من التعذيب الكثير حتى ان يده اليمنى انكسرت وألتوت، وكان يتندر على نفسه بالقول (يداي ّ اثنانهما يسرى).
كتب مجموعة شعرية بالفصحى عنوانها (طز) عام 2001، لم يستطع نشرها لكن قصائدها تفرقت بين الاصدقاء وذهبت المجموعة الى الاردن ورفعت منها القصائد السياسية التهكمية وطبعت، وكاد يعدم بسببها والمخطوطة لدى صانع العود محمود موسى، وقد كتب في اهدائها : (الى عائلتي الى كونها احدى العائلات السعيدة / حقوق الطبع محفوظة لامي) ومن قصائدها :
(ذات يوم اختل نظام الطبيعة
وفقدت الارض اتزانها فولدت انا
وذات يوم اختل نظام ابي
وفقدت امي اتزانها فولدت الطبيعة).
ومنها :
(صباح الخير ايها الليل /
هكذا قال الجنرال /
وراح يضاجع بناية وزارة الدفاع،
بعد سنوات طويلة انجبت الوزارة جيوشا بشتى الالوان)
ومنها ايضا :
(بسبب الازدحام المفروض على قطرنا العزيز
سأتأخر عن الحياة).
طالب السوداني ايضا هو صاحب اول اغنية وطنية بعد سقوط النظام السابق وهي اغنية (مو علي بابا العراقي مو علي بابا / سومري ومن اصل راقي) التي لحنها وغناها المطرب حسن بريسم، وكانت من اشهر الاغنيات كونها جاءت ردا على حالة (الفرهود) التي نشرتها الفضائيات في ايام ما يسمى بـ (الحواسم).
في عام 2004 قال لصديقه محمود موسى :انا اتصور انني في أي لحظة اموت، ولكنني اريد ان اتواصل مع اصدقائي، فخذ الايميل والرقم السري، وتواصل بدلا عني مع اصدقائي!!، مات وودعه اصدقاؤه ومحبوه، رحمه الله.
التعليقات