ميساء ابو غنام من القدس: كنت اعتقد انني اعرفه بتفاصيله العامة وربما بعض الخاصه، قابلته للحديث عن فنه وشخصه ورؤيته للانسان في حالاته المختلفة، كانت البداية تقليدية لاسئلة هدفها اخذ لمحة عنه، طفولته وعمره ومكان سكنه وعلاقته بأبنائه، كانت عيناه تسير في اتجاهات مختلفة مع حركة رأس للاعلى والاسفل واحيانا اقتناص نظرات خجولة موجهة الي، بدأ بالاجابة مستنفرا الى ان اخذ موقفا بوقف المقابلة بالطريقة هذه قائلا quot;لا تعجبني المقابلة بهذا الشكلquot;.
وضعت قلمي ودفتري على الاريكة التي اجلس عليها وابتسمت قائلة ما الطريقة الانسب اليك في الحديث، كان الرد دعينا نتحدث بعيدا عن طفولتي وحياتي الشخصية، سألته عن لوحاته ان كان متوفرا لديه بعضا منها في المرسم الذي نتواجد به، قال نعم تفضلي في الغرفة المجاورة، تجولت معه بين ثنايا الوانه ولواحته وشخصياته التي كانت مزيجا مختلطا بين الرجال والنساء، لم اعجب عندما رأيت تلك اللوحات ذات الجسد الانثوي المكتمل بتفاصيله ووجه يغلب عليه شنب مسيطر على الجزء الاسفل من الوجه وكأن الشفاه البراقة محيت برجولة مقنعة، وقف امام اللوحات وبدأت ارى نفسي بشقين منفصلين ما بين انوثتي المتبلورة من الرقبة وما دون وما بين رجولة رأس لم ار تفسيرا لها.
عدت معه الى الاريكة التي اشعرتني براحة لا ادري منبعها، ولكن الحوار الذي اخذ منحى لم تظهر فيه معالم المحاور والمتحاور حتى فقدت احيانا نفسي في تفسير النقاش الذي اخذ ابعادا اكثر من قضية فن تشكيلي مبلور بريشة فنان.

هو ابراهيم المزين، خمسون عاما من مواليد غزة وبالتحديد من مخيم رفح، متزوج ولديه ثلاث بنات وولد، يعمل مديرا لأكاديمية الدراما التابعة لمسرح القصبة، عمل في وزارة الثقافة الفلسطينية لفترة من الزمن، مثقف يسحرك بمعلوماته، اطلالته نقيض ما بين الحنكة والطيبة، مزيج يختلط عليك...... تقترب منه فتحبه، ترى الانسان بريشة لوحته طائرا حرا يتنقل بين ثنايا الانا والنحن، بين المكان والزمان، بين الحب والكراهيه، بين السلام والحرب، بين الحياة والموت.

تجول مزين في العديد من الدول، ولكن حبه الاول لرام الله، حيث يعتبرها مغريه له ثقافيا، احبها بأناسها الذين تركوا بصماتهم في ذاكرته ومنهم الراحل حسين البرغوثي، احبها بماضيها، بأوج عطائها في الثمانينيات من القرن الماضي، حين كان المثقف يجد ذاته في حواضر ارصفتها بعيدا عن كوبون المعاش الذي يلهث وراءه اليوم هذا المثقف.
لم تكن غزة جذابة له معلقا.......quot;من يحب ان يعيش في سجن؟؟؟ولو خيرت بتحديد مكان اقامتي لاخترت رام الله اولا ونيويورك ثانيا، احب الفردية في الحياة واسأل نفسي احيانا اسئلة ربما تكون ساذجة للبعض، لماذا يتصارع البشر ولماذا الحروب ولماذا الدمار ولماذا الكذب ولماذا نلقي انفسنا في التهلكة؟؟؟؟؟؟ نبني تكنولوجيا لتطوير الانسان ونقوده للدمار، لو لم اكن فلسطينيا واشعر بمرارة الاحتلال الذي لا محالة سيزول، لاعتبرت الصراع الفلسطيني الاسرائيلي حماقة، فأنا كفلسطيني لا ذنب لي ان اصحى من نومي لاجد اخر يحل مكاني، ولكن اعود واقول المشكلة ليست فقط بالاحتلال الزائل بل بالمجتمع الذي لا يعرف افراده كيف يحبون ذاتهم والاخرين، فحالنا مخجلquot;.

نبعت حرية مزين من ذاته، ففكره بلا حدود ولاحواجز ولا دول، تجسدت هذه الحرية بريشته عبر لوحاته التي رسمت الصورة القاتمة عن حاجز ايرز والتي عبر من خلالها عن رؤوس الغزيين المضغوطة الاخذة في الطول، وهذا نبع من رؤيته لهؤلاء الناس المصطفين على الحاجز بالحر والبرد وقد ازيلت المسافات بينهم وظهرت رؤوسهم في لوحته بهذا الشكل الذي اعتبره ابراهيم قد افقد الانسان انسانيته.

رسم بالمحرمات الاجتماعية... الدين والجنس السياسة، فاللوحات التي رأيتها في مرسمه كانت معبرة عن ثنائيي الجنس، والمقصود هنا من لديه رغبة في ممارسة الجنس مع المرأة والرجل من كلا الطرفين، وهنا يعلق مزين قائلاquot;اعرف بعضا من النساء والرجال ممن يرغبون باقامة علاقات من الطرفين، ففي احدى الجسات، كنت في احد المقاهي مع صديقة قد رأت فتاة اخرى تجلس على الجانب المقابل، واخبرتني لو ان تلك الفتاة تقبل علاقة معي سأقيمهاquot;وهنا نبعت فكرة الانثى ذات الشنب في لوحاته، ويضيف مزين ان هذه ظاهرة موجودة في كل المجتمعات ونحن في المجتمع الفلسطيني لسنا بعيدين عن ذلك فالانسان انسان في اي مكان على هذه الارض.

جسد السياسة في لوحاته مركزا على الاحتلال والحواجز والسجن، تحدث الكثير بريشته عن قضايا المرأة، واخذ الدين حيزا من مساحات الوانه معتبرا ان الاديان بصورتها الحاليه، وكيف يتناولها البعض قد كرست الحروب وكانت مسببها، فهو ضد سياسة حماس في غزة واستخدامها للدين بهذه الطريقة باسم الله، وايضا المتدينيين اليهود وقضية شعب الله المختار، معلقا ان الدين بسيط ولا وسيط بين الخالق والمخلوق فالعلاقة ليست بحاجة الى وكلاء.
وبعد ساعتين من الحديث الذي لم امل منه ولم اشعر بالوقت اضاف مزين عتبه على التعليم الفلسطيني وعلى تهميش المنهاج لمادة الفنون، واثر ذلك على الاجيال ونظرتها الثقافية والابداعية.

غادرنا المرسم وما زالت علامات السؤال تحوم في ذاكرتي بالعلاقة المزدوجة الفردية بين الرجل والمرأة في لوحات مزين، من حيث المخفي والمعلن في نظرتنا لاجسادنا وكيف نتعامل معها في اطار المسموح والممنوع في ثقافة المجتمع الذي نعيش فيه.