ترجمة وتقديم: جلال زنكَابادي: محمود علي كيانوش (1313ش= 1934م ndash; مشهد) أديب موسوعي متعدد الأوجه ومرموق في تنويع أعماله ومثابر على العطاء الثقافي النوعي منذ أواخر خمسينات القرن الماضي وحتى الآن بصفته: شاعراً، قاصّاً، روائيّاً، كاتباً مسرحيّاً، مترجماً، ناقداً، باحثاً و صحافيّاً، بل يعد من أبرز روّاد(قصيدة النثر) في إيران، ومن أبرز كتّاب الشعر والقصّة للأطفال؛ حدّ تسميته بـ (أب شعر الأطفال)في إيران.
أكمل محمود كيانوش دراسته الإبتدائيّة في مشهد، ثمّ نزحت عائلته إلى طهران، حيث استأنف مرحلتيّ: المتوسّطة والثانويّة، وعمل بعدها معلّماً في أطراف طهران، بالإضافة إلى مواصلة دراسته الجامعيّة، والعمل الصحافي والترجمة...وقد حاز على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنكَليزيّة وأدبها. وفي سنة 1959 تزوّج من زميلته في الدراسة بري منصوري(المترجمة والقاصّة المعروفة لاحقاً) وفي سنة 1975 هاجر كيانوش عائليّاً(مصطحباً زوجته وابنه كاوه العالم لاحقاً، وابنته كتايون الفنّانة التشكيليّة لاحقاً) إلى إنكَلترا واستقرّ في لندن ، حيث مازال يعيش هو وزوجته شيخوخة مثقلة بالفاقة والمرض، علماً أنّهما ظلاّ يزوران بلدهما إيران بين فترة وأخرى، حيث كانا ينشران بعض كتبهما المؤلّفة والمترجمة.
لقد ابتدأ كيانوش كتابة القصة والشعر، والنشر مبكّراً منذ مطلع مرحلة دراسته الثانويّة، وراح لاحقاً يرفد المكتبتين الإيرانيّة والإنكَليزيّة بأكثر من (80 كتاباً) بل هو أبرز أديب ناشط بين أترابه وأقرانه من شعراء الرعيل الثالث(منذ العقد الرابع لحركة التحديث فصاعداً...) فضلاً عن كونه أبرز من قدّم باللغة الإنكَليزيّة ترجمات لقرابة ستين شاعراً إيرانيّاً (من القدامى والمعاصرين) والعديد من الدراسات في شؤون الثقافة الإيرانيّة...
ومع كلّ ماسلف لمْ يلق كيانوش الإهتمام النقدي اللائق بعطائه الثر والمتنوّع قياساً إلى أدباء إيرانيين آخرين لاتبلغ قامة أكثرهم نصف قامته الشامخة! وكذا الحال في مجال الترجمة إلى اللغة العربيّة، ماعدا استثناءت نادرة كترجمة كاتب هذه السّطور لمجموعة شعريّة له. وفي إحدى رسائله الموجّهة إليّ يعلّل عدم اكتراث النقاد والباحثين الإيرانيين بمنجزه الشعري قائلاُ:
-quot; عزيزي الشاعر زنكَابادي! إنّك مطّلع جيّد ببضع لغات على الشعر العالمي، وتعرف أنّ مجتمعاً مثل المجتمع الإيراني المتخلف لم يتعرّف جيّداً إلى الشعر بمفهومه العالمي، خلال القرن الماضي، وإذا كان ثمّة شاعر مثلي على تماس مع الشعر العالمي والإطلاع عليه بالإنكَليزيّة منذ فتوّته؛ فستكون آفاق ذهنه رحيبة وإنسانيّة، وسيدور شعره في تلك الآفاق الواسعة؛ لذا من الطبيعي أن يكون شعره غريباً في هكذا مجتمع. وإذا ابتغيت مصداقيّة كلامي ؛ فاقرأ مجموعتيّ (يا شمس إيران) بالفارسيّة و (The Amber Shell of Self) بالإنكَليزيّة، على صفحات موقعي الإنترنتي
www.kianush.com quot;
وفي رأيي لايكفي السبب السّالف لتعليل ظاهرة تغييب كيانوش وتهميشه، بل هنالك أسباب أخرى أهمّها: غيابه المديد عن المشهد الثقافي في إيران نفسها، وما يسود المشهد نفسه من تكتلات سياسيّة وإقليميّة وحزازات شخصيّة وحسد وإستحواذ، ناهيكم عن إستقلاليّة كيانوش الفكريّة والسياسيّة، وهدوء طبعه و ركونه إلى الفعل الإنتاجي بدلاً عن اللهاث وراء أضواء الشهرة وإثارة الصخب والضجيج لتسويق أعماله.


1
كانت تجلس
في الجانب الآخر من الغروب
على غصن -الصّمت- البلّوريّ
ونظراتها تكتمُ أبهم سرّ
يتأرجحُ بين توهّمِ لؤلؤةٍ في الرحم
وحُباب حزنٍ في القلب.
كانت تجلس
في الجانب الآخر من الغروب
وتحدّقُ مثل ظلّ غريب
في الشمس الأجنبيّة.
كانت الأسرارُ البسيطة لكلّ المجرّات
منذ البدء حتى لحظةِ البلوى
في رؤى قوس قزح
حيث كانت تنتزع منها الهدأة الآسية
التي وجدتها في اليأس
وتوقظ فيها ذكرى-الشكّ-النائية.
كانت تجلس
في الجانب الآخر من الغروب
وقد أجرى الشكّ دماً أخضر
في طين- بدنها- الأحمر
بينما كانت جارتها المتوحّدة الغريبة
تستدفيء بالبسمة الصموتة للشمس الأجنبيّة
وتدعو البراعم المنسيّة
إلى مهرجان الطفولة.


2
لقد خيّم الليلُ
على ساحل الرزايا
وراح الموجُ والظلامُ
يدندنان بانسجام
بأغنية رحلةٍ أخرى
وأشرعت سفينة الأرض الشراع
وأبحرت أقصى إبحار
حتى رست في ميناء الأفكار
وكنّا نعوم برفق
في عباب النسيان الرحيب
بينما كانت الجارة الغريبة
تحتضن الشمس الأجنبيّة
كوليد من رحمها توّا
وإذا بيدٍ تشقّ صدري
وتقتطف من شجرة الحكمة والألفة
قلبي المستحيل
تفاحة حمراء ناضجة
وتقذفه في الفضاء
فلاحقت عيناي التفاحة
دون أن أتوقّع سقوطها
وظللت مفتوناً بدورانها
حيث تتحلّقها هالة من النار
وفجأةً صرخت: quot;إلهي!quot;
وهوت التفاحة الحمراء
لحظتئذٍ غائصةً في رأسي
فنظرت إلى المرأة التي سألتني:
-quot; أ كانت نجمة؟!quot;

3
أجلْ...كانت نجمة
في تفاحة حمراء
أو تفاحة حمراء
في بؤبؤ عينها
وقلت:
- quot; الليل طويلquot;
فقالت:
- quot; لنتفرّج..!quot;
وإذا بصبيّ أسود عارٍ
كان يرقبنا عبر سيقان السرخس
يبتسم بمودّة.
فلوّحت الجارة المتوحّدة
بيدها
فرفع الصبيّ حربة
(ربّما كانت مخفيّة في ردنه حتـّائذ)
فعلا الصخب في الغابة
وحشدٌ من العذارى في عنفوان الصّبا
يتزيّنّ بعريهنّ أمام مرآة الرغبة
واللبن الطازج لجوزالهند
يندلق من نهودهنّ في باطن السفينة
وإذا برجال ينطلقون
من أعشاش أفخاذهنّ المرتعشة
يحمل كلّ واحد رمحاً بيد
وكأساً فارغة بالأخرى
مصنوعة من جمجمة أسد
بمظهر من العاج
وابتدأ الرقص
سريعاً ، إيقاعيّاً بعنفوان
مثل دوران التفاحة الحمراء في الهواء.
فقلت للجارة المتوحّدة:
- quot; لقد تثاقلت ساقاي
وخدّرَ الضنى ظهري
فابتسمت جارتي الغريبة و هي تلهج:
- quot; الليلُ طويل!quot;
فقلت:
-quot;لنتفرّج...!quot;


4
ظلّ الصبيّ الأسحمُ العاري
يرمقنا عبر سيقان السرخس
مبتسماً بمودّة.
كانت الأمهات
يكابدن لتسكين أوجاع الولادة
بسحر الخضوع
على أبواب المواخير
ينتظرن بناتهنّ!
والأبناء المبتلون بالجوع
يسألون عن أسماء العاهرات
كلّما خرجوا من مناجم الماس !
ثمّة كان راهب يلوذ بصخرة
يحدّق في السماء ونجومه
يتمتمُ أحياناً ببضع كلمات
تذروها الريح في الديجور:
- quot; لاتندم الأشجارُ عن الإثمار
ولا الشمسُ عن السخاء
ولا الأمطارُ عن الحبّ،
لكنّما الدمار
في المسافة مابين البحر والغابة
يعزّزُ مجيءَ إبليس
فيا إلهي أنتظر منك الإجابة
- أأنت الذي أوجدت المدن،
النقود،
الجشع،
الإستبداد
والدمار؟!
فيا إلهي هلاّ أجبتني!quot;
فأجابت الجارة الغريبة
وهي تحملقُ في الشمس الأجنبيّة
بأسى:
- quot; أجلْ ، أجلْ ؛ كلّها..كلّها!quot;
وإذا بالصبيّ الأسحم العاري
يلوّحُ مرّةً أخرى بالحربة
مبتسماً بغضب!


5
كنت أتمعّن في الخطوط المعقّدة
في راحتيّ كفيّ المعروقتين
وفي أصابعي المرتجفة بشدّة
وإذا بجارتي تقلبُ كفّيّ
و تُشهِدُني على ظاهريهما المروجَ الخامدة
والجداولَ المنثالةَ سرّاً منْ كلّ صوب
حتى الغابة والبحر
فغمرتني الطمأنينة
وحرّرتُ يديّ
وإذا بالراهب اللائذ بالصّخرة
مازال محدّقاً في السّماء ونجومها
متهدّجاً بحنوٍ وخشوع:
quot; يا منْ وحدُك العارف بالبداية؛
ستعرف أيضاً النهاية quot;
وفجأةً هزم رعدٌ
فتعالت سحابة ثقيلة
حتى سرادق الجِنان
وراح الجميعُ يلوذون على غير هدى بالفرار
لكنّ فرصة النجاة كانت جدّ ضئيلة
إذ كان الفارّون لايُحصَون
ويحسبون منح كلّ واحد فرصةً عادلة
خيالاً جنونيّاً؛
فتخلّفت الأمّهات عن الآباء
وتخلّف الآباءُ عن الأبناء
وضاع الأطفال في دوّامة السحابةِ الثقيلة
فتمتم الراهب اللائذ بالصخرة
خجلاً:
- quot; أ هيروشيما أيضاً؟!quot;
وأنا كوحيد شريد وضال
أطوي راجلاً صحراء الأخطاء
من ابتداء الذاكرة
وسّدتُ رأسي صدرَ جارتي الغريبة
وهي تحتضنُ الشمس الأجنبيّة
كوليدها بحنان.
وراحت السفينة
تدنو من أفق-الوعي- العديم اللون
والموج والظلام معاً يهدهدان...
وعندها جلس الصّبيّ الأسحمُ العاري
جنب السرخس هادئاً
تثاقلَ جفناه
واسترخى
فسقطتْ من يده الحربة
وإذا بالرّاهب اللائذ بالصخرة
يرفعُ رأسَهُ إلى الأعلى
محدّقاً بالسماء ونجومها
ويبتسمُ بغبطة
إذ ناولته فتاةٌ عارية خارجة من المبغى
تفاحةً حمراء كانت تقضمها!
وضجّ قلبُ-الليلِ- اللامتناهي بصوته:
- quot; طوبى لك أيّتها الحياة
تقدّستِ وبوركتِ باليُمنِ والخلود!quot;


6
ولمّا رفعتُ رأسي بهدوء
عن صدر جارتي الغريبة
كنت قد بلغتُ الصوب الآخر من الغروب
وكانت الجارة الغريبة
على غصن الصمت البلّوريّ
تحدّقُ بابتسامة فاترة
في الشمس الأجنبيّة
ويخلقُ رحمها لؤلؤةَ الحبّ والحكمة.


ناماروبا (Namarupa): مفردة مركّبة من(ناما = داخل، باطن) و(روبا = خارج، ظاهر) وتعني في الفلسفة الهنديّة صورة العالم (الباطنظاهري)(ج.ز).
السّرخس: نبتة غير مزهرة، تنمو سيقانها تحت التربة، حيث تغور جذورها عميقاً، وهي ذات وريقات كبيرة،
وتكثر في المناطق الرطبة (ج.ز).
المصدر:
(از بنجرهء تاج محل) ط1/ طهران1972 مع نسختها المنقحة وترجمتها الإنكَليزيّة اللتين زوّدني بهما الشاعر نفسه(مشكوراً) في 2007. والمجموعة مترجمة جاهزة للنشر منذ عقود!