نجحت دول الإتحاد الأوروبي وروسيا في رفع قضية التغيرات المناخية إلى مستوى التحدي لأجيال القرن الحادي والعشرين، إلا أنَّ الولايات المتّحدة ومعها الصين تعتبران الملوث الأكبر في العالم، وقد ظهر أنَّ ارتفاع حرارة الأرض درجتين مئويتين يؤدي إلى خسائر كبيرة، أبرزها تراجع الأمطار في منطقة البحر المتوسط، وذوبان الثلوج القطبية، وخطر الانقراض المتسارع لثلاثين في المئة من الأنواع النباتية والحيوانية، ويبدو مصير العالم معلقًا على ما يجري في كواليس قمة كوبنهاغن التي افتتحت أعمالها اليوم وما سيقترح من حلول.


قمّة كوبنهاغن تنطلق اليوم لمواجهة التحدّيات المناخيّة

quot;قمة المناخquot;... دعوات إلى الحد من الاحتباس الحراري

بيروت: ماذا تستطيع قمة كوبنهاغن المناخية، التي يبدأ التمهيد لها اليوم وتستمر لأسبوعين، أن تفعل لوقف الإنبعاث الحراري إذا ظلت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما مكبلة الأيدي والأرجل بكونغرس يرفض مجاراتها بسن قوانين تؤثر سلبًا على قوتها الإقتصادية في سبيل الغاية الإنسانية النبيلة ؟ إنسانية أدارت لها أميركا ظهرها طيلة ثمانية أعوام على عهدي الرئيس السابق جورج بوش الذي رفض متفردًا بين رؤساء الدول توقيع معاهدة كيوتو التي تنتهي مفاعيلها قريبًا السنة 2021 .

ولكن ليست أميركا وحدها، فهناك الصين quot;أكبر ملوث للفضاء على وجه الأرضquot; بلا منازع وحيث لا رقابة على الإنبعاثات الصناعية ولا من يراقبون ، وقد اعتبرها اتفاق كيوتو من الدول النامية المعفاة من الإلتزامات مقدمًا أكبر ذريعة لتتملص أميركا من التزاماتها. وليست الصين وحدها في هذه الخانة المخيفة ، فمعها دول عملاقة اقتصاديًا تختبئ وراء صفتها دولاً نامية كي لا تساهم في تخفيف الإنبعاثات القاتلة لكوكبنا مثل الهند والبرازيل، ودول مصدرة للنفط تتحسب لخسارة عشرات مليارات الدولارات من اليوم إلى 40 سنة إذا وضعت قيودًا على إنتاجها أو سايرت في اتجاه يبرز في كوبنهاغن نحو تعويض الدول الفقيرة المتضررة من تكثف ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي للأرض، ولا سيما في أفريقيا.

إلا أن هذا الجانب هو الجزء الفارغ من الكوب. في الجزء المليء إن دول الإتحاد الأوروبي ومعها روسيا نجحت في رفع قضية التغيرات المناخية إلى مستوى التحدي لأجيال القرن الحادي والعشرين ، بما تعني من ارتفاع لدرجات حرارة الأرض سيؤدي خلال نصف قرن إلى انتشار تصحر يقضي على موارد وثروات طبيعية لا تحصى خسائرها واختلال مناخي يتمثل في ذوبان جزء كبير من الإحتياط الجليدي الذي يحفظ توازن الأرض والبلدان مطرًا ومياهًا، ويقضي على العديد من الجزر بالفيضانات، وعلى مناطق خضراء بالجفاف ، فضلاً عن إبادة أنواع عديدة من الحيوانات والنباتات، وصولاً إلى ما يشبه استحالة عيش في بلدان كثيرة ستتقلص مواردها إلى حدود خطرة .

حتى الآن نجحت أوروبا في فرض الموضوع على الدول التي تهربت من بحثه، وكان معبرًا صدور 20 صحيفة رئيسة في القارة القديمة صباح اليوم بافتتاحية واحدة تحض البشرية على موقف موحد قبل أن يفوت الأوان، فنورث الجيل التالي أرضًا مدمرة تضيق فيها سبل العيش. ولكن لعل من المغالاة تعظيم الآمال في التوصل إلى وثيقة عالمية جديدة للمناخ على غرار ما حصل في مدينة كيوتو اليابانية في كانون الأول (ديسمبر) 1997، علمًا أن تلك الوثيقة دخلت حيز التنفيذ في 16 شباط ( فبراير) 2005 وينتهي العمل بها سنة 2012، وكانت متعثرة منذ البدايات، أي منذ ما قبل إعلان الرئيس الأميركي السابق جورج بوش منها في 2001.

في الواقع كان موقف بوش الإبن نزولاً عند ضغط الكونغرس الذي رأى أن اتفاق كيوتو يُحمل الصناعات الأميركية تكاليف مرتفعة للحد من نفث الكربون، بينما لم يفرض على الصين مثلا أي التزامات . وأول 1998، وجه السناتور روبرت بيرد رسالة إلى الرئيس السابق بيل كلينتون حضه فيها على رفض بروتوكول كيوتو، واصفا إياه بأنه quot;مجرد سد لثقوب في سفينة تتسرب إليها المياه، بينما يبقى مسببو الانبعاثات الكبار في العالم النامي في مؤخر السفينة يحدثون فيه مزيداً من الثقوب. والنتيجة لا تتغير، كلنا نغرقquot;.

لكن ما تشهده كوبنهاغن اليوم قد يكون له حظ أفضل، وثمة من يصفونه بأنه quot;الاجتماع الدولي الأكثر أهمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية quot;، إذ يشارك فيه ممثلو 190 دولة في سعيًا إلى اتفاق تبدو شروطه أكثر توافرًا مع إبداء الكونغرس الأميركي إشارات تفهم واضحة لخطورة الموضوع . خطورة يعبر عنها ربما حضور أكثر من 15 ألفًا من الصحافيين وأعضاء الوفود، مؤتمر الأمم المتحدة الخامس عشر في بيلا سنتر، وسط العاصمة الدانماركية.

وكان تقرير الأمم المتحدة الذي بنيت عليه مناقشات ومحاور من المقرر أن تدور مدى أسبوعين ، قد بيّن احتمالات قوية لارتفاع درجات حرارة الأرض بحلول السنة 2100 إلى ما بين 1,1 درجة و 6,4 درجات مئوية. ووضعت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ أفضل تقدير للطرف الأدنى من هذا النطاق عند 1,8 درجة مئوية، وأفضل تقدير للطرف الأقصى عند 4 درجات مئوية. وفي حين حددت غالبية الدول هدفًا تمثل بوقف ارتفاع الحرارة لدرجتين مئويتين، وتظهر مواقف الدول الكبرى المؤثرة عدم استعدادها للدفع وصولاً إلى الحد الأقصى أي 4 درجات مئوية.

وأظهر التقرير كذلك إن ارتفاع حرارة الأرض درجتين مئويتين يؤدي إلى خسائر كبيرة، أبرزها تراجع الأمطار في منطقة البحر المتوسط، وذوبان الثلوج القطبية، وخطر الانقراض المتسارع لثلاثين في المئة من الأنواع النباتية والحيوانية، وابيضاض الشعب المرجانية، وزيادة الأضرار الناجمة عن العواصف والفيضانات. أمّا وصول الارتفاع إلى ثلاث أو أربع درجات، فستكون نتائجه مأسوية، مثل انقراض الأنواع النباتية الرئيسة في مختلف أنحاء العالم، وتراجع المحاصيل الزراعية وخصوصًا الحبوب، واتساع رقعة المناطق الساحلية التي تضربها الأمطار الغزيرة، وظهور أمراض أكثر ضراوة. ويستلزم البقاء تحت مستوى الدرجتين، وفق خبراء الأمم المتحدة المناخيين تحقيق خفض في مجمل الانبعاثات العالمية للغازات إلى النصف بحلول السنة 2050، مما يعني أنّ المستوى الأقصى للانبعاثات ينبغي أن يتحقق في 2015، على أن يبدأ بالتراجع في 2020.

وعلى الرغم من الصور المستقبلية الكارثية، لا توحي المفاوضات التي ستستمر حتى بعد وصول قادة الدوزل إلى المؤتمر في 12 من الجاري إنها ستتوصل إلى اتفاق مناخي جديد ، بل إن أقصى الطموح هو إعلان إطار سياسي لا غير يمهد لمزيد من العمل في هذا السياق الحيوي. إطار تعلن من خلاله الدول الصناعية الكبرى التزامها خفض الانبعاثات الصادرة عنها من ثاني أوكسيد الكربون والغازات الأخرى التي تنبعث من باطن الأرض، وتحديد مدى استعداد الدول النامية الكبرى مثل الصين والهند والبرازيل للحد من انبعاثاتها، وطريقة مساعدة الدول النامية والأقل نموًّا والفقيرة في الحد من الانبعاثات والتأقلم مع ظواهر تغير المناخ، وأخيرًا طريقة إدارة الأموال المطلوبة لتحقيق تلك الأهداف.

ويبقى الأهم الأهم أن يكون أوباما قادرًا على تغطية نياته الإيجابية التي دأب على تكرارها خلال حملته الإنتخابية وبعد انتخابه بغالبية في مجلس الشيوخ الذي لا يزال يعطي مؤشرات إلى الشيء ونقيضه كلما عرض عليه موضوع التأثير المتبادل بين مناخ كوكب الأرض وأحوال الصناعات الأميركية الخارجة من أزمة مالية هائلة.

وكان مجلس النواب أقر قانونا يساعد أوباما في تطبيق وعوده المناخية لكن مروره فيمجلس الشيوخ يبدو محفوفا بالخطر. وهذا القانون يشمل نحو 85 في المئة من قطاعات الاقتصاد، بما في ذلك إنتاج الكهرباء ومصافي النفط ومنشآت الغاز الطبيعي وصناعات الحديد والفولاذ والإسمنت والورق، كان طبيعيًا أن يُواجَه بالانتقادات والشكوك. وقد انبرت صحيفة quot;الوول ستريت جورنالquot; لانتقاده، باعتباره quot;أكبر ضريبة في التاريخ الأميركيquot;، مشيرة إلى أنه سيُحمل الاقتصاد عبء 161 مليار دولار سنة 2020، أي ما قيمته 1870 دولارًا تقع على عاتق كل أسرة من أربعة أفراد، وقد يرتفع ما تتكبده تلك العائلة إلى 6800 دولار سنة 2035.

أما مجلس الشيوخ فلا يبدو مستعجلاً إقرار القانون البيئي المعروض عليه ولم يتمكن السيناتور جون كيري، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في هذا المجلس، من جمع 60 صوتًا لاقراره قبل قمة كوبنهاغن، إذ لا يتجاوز عدد الشيوخ المؤيدين الـ41، وهناك 32 يعارضون، و27 لم يحسموا خيارهم والكلمة المرجحة لهم، وبعضهم ديمقراطيون يمثلون ولايات يقوم اقتصادها على الصناعات الثقيلة المعتمدة على الفحم الحجري، أحد أكبر مصادر التلوث. وهكذا مرة أخرى، يبدو مصير العالم معلقًا على ما يجري في كواليس بعض مباني واشنطن من مساومات لها طابع مصالح الشركات، والعالم يصرخ مجددًا : أميركا ! أميركا!