يتفق خبراء عراقيون على أن العبرة ليست في الكمية العددية من الجامعات والطلاب، التي بلغ زخمها الحدود القصوى، بل في توافر الكوادر العلمية الجيدة والكفوءة، والموضوعية في القبول، والحدّ من التزوير والوساطة في الحصول على اللقب الأكاديمي، وإعادة التقويم الموضوعي لمن يشك في قدراتهم العلمية والأكاديمية.

جامعيون عراقيون خلال تخرجهم من كلية الصيدلة

بغداد: يستعد أحمد الرهيمي لإكمال رسالة الدكتوراه رغم تجاوزه سن الخمسين بعد فترة انقطاع عن الدراسة دامت عقدًا من السنين.

لم ينطفئ حلم إكمال الدراسة في نفس الرهيمي طوال السنوات، حتى أتيحت له الفرصة اليوم في جامعة أهلية، وحال الرهيمي يشبه حال كثير من العراقيين، الذين يقبلون على الدراسات الجامعية والعليا على رغم تقدمهم في العمر.

ويرجع الرهيمي أسباب الإقبال الواسع للدراسات الجامعية والعليا من قبل المتقدمين في العمر إلى الدخل المادي الجيد الذي توفره الوظيفة المقرونة بشهادة جامعية، إضافة إلى أن الدراسات العليا تتيح للشخص الانضمام إلى السلك الجامعي، وما يحمله من امتيازات مادية ووجاهة اجتماعية في الوقت نفسه.

دور متناقض

ويشهد العراق منذ عام 2003، ازديادًا مضطردًا في اعداد الجامعات في كل المحافظات، حيث يأمل العراقيون بأن تساهم الجامعات في توفير القوى العاملة ذات الخبرة والكفاءة.

لكن الواقع، بحسب الباحث الاجتماعي كريم السلطاني، يشير إلى أن الجامعات تقوم اليوم بدور معاكس، فهي تخرّج سنويًا أعدادًا هائلة من العاطلين من أصحاب الشهادات من دون أن يكون لهم دور في تنمية الموارد البشرية وتدريبها.

تحسين الحالة الاقتصادية

ورغم أن الغالبية من متخرجي العراق المتقدمين في العمر يحملون شهادات البكلوريوس، إلا أن الكثير منهم لم يتسن لهم الحصول على الوظيفة المناسبة، ولهذا وجدوا في فرصة إكمال الماجستير أو الدكتوراه نافذة للانخراط في سلك التعليم الجامعي بغية تحسين الحالة الاقتصادية.

ويقول المهندس الزراعي فوزي تركي، الذي تخرج من كلية الزراعة في جامعة بغداد عام 1978، لكنه طيلة السنين المنصرمة لم يجد عملاً حاله حال الكثير من مهندسي الزراعة في العراق، إنه يستعد اليوم لإكمال دراسة الدكتوراه، بعد الحصول على الماجستير قبل نحو سنتين.

يتابع: quot;شهادة الدكتوراه ستوفر لي عملاً مناسبًا في إحدى الجامعات، بحسب الوضع الحالي، وآمل أن لا تتغير الأمور نحو الأسوأ، لأن هناك بوادر تضخم في أعداد المتقدمين للحصول على وظائف في السلك الجامعيquot;.

لكن الدكتور أمين حسن المتابع لشؤون الجامعات في العراق، يرى أن الازدياد المضطرد في أعداد المتخرجين في الجامعات العراقية، وتزايد أعداد هذه الجامعات، إضافة إلى كثرة أعداد المنخرطين في الدراسات العليا، يكشف عن أزمة وظائف ستحدث في المستقبل إذا استمر الأمر على هذا النحو.

ويوضح أن quot;معظم المتخرجين من صغيري الأعمار لا يجدون وظائف ينخرطون فيها، فكيف سيكون الأمر مع المتقدمين في السنّ؟quot;. ويضيف: quot;غالبية المنخرطين في الدراسات العليا من كبار السنّ، الذين يعوّلون على الإنخراط في التعليم الجامعي، لكن هذا القطاع ربما سيغلق في القريب العاجل في وجه أي تعيينات بسبب التضخم في الأعداد المتقدمة وقلة الميزانية المخصصة للتوسع في التعليم الجامعي، الذي يتمدد بشكل عشوائي إلى حد كبير، وربما فاق الحدود المرسومة لهquot;.

السر في الإقبال الكبير

يتحدث الدكتور سبتي حسين عن السر في الإقبال الكبير لمتقدمي العمر على إكمال الدراسات العليا، ويعتبر أن الدافع لن يكون في كل الأحوال هو السعي إلى التحصيل العلمي.

ويضيف: quot;المشكلة، إن المتقدمين للدراسات العليا يودّون الدراسة في الجامعة، التي تقع في المدينة نفسها، وغالبية الكوادر التدريسية تربطها علاقات قربى وعلاقات اجتماعية مع الطلاب الكبار في السنّ، وهؤلاء يشجعونهم على الانخراط في الدراسات العليا، حيث يذللون لهم الكثير من الصعوبات، بل ويغطون على الكثير من العيوب، فترى أن الطالب يحصل على الدكتوراه خلال فترة سنتين أو ثلاث بدون جهد حقيقي ومستوى أكاديمي يؤهله حقًا لنيل تلك الشهادة.

والمحصلة النهائية، بحسب حسين، quot;هي وجود كم هائل من أصحاب الشهادات العليا، لكنهم يفاجئوك بضحالة مستواهم العلمي وتواضع مستواهم الأكاديميquot;. ويرى أن الأعوام التي تلت العام 2003 أثمرت عن أصحاب شهادات درسوا حقًا في جامعات العراق، quot;لكن تحت ذريعة الظروف الاستثنائية، إضافة إلى المجاملات والإخوانيات على حساب الحقيقة العلمية، ونتج من ذلك نيلهم شهادات لا يستحقونهاquot;.

ويقول إن الحالة ما زالت موجودة، والحصول على الشهادة عبر quot;الوساطةquot; ما زال ممكنًا، لكنه بدقة أقل قياسًا إلى السنوات السابقة. وبحسب سبتي، فإن من جراء ذلك كله تحوّل بعض جامعات العراق إلى بيئة (عشائرية) بسبب التدخلات الخارجية في شؤونها، بسبب غياب العلاقة الصحية بين نظم التعليم والأنظمة الاجتماعية السائدة.

سهولة الحصول على الشهادات

ويشير طلاب عراقيون إلى نتائج سهولة منح الشهادات الجامعية في العراق. فثمة أساتذة لا تتوافر فيهم المستويات الأكاديمية والعالمية المطلوبة، مما يفقد الطلاب فرصة الحصول على المعلومة بالأسلوب المناسب والدقة المطلوبة.

هذا الأمر ليس وليد اليوم في العراق، ففي عهد النظام العراقي السابق كان الانتماء إلى حزب السلطة الحاكمإحدى الوسائل للقبول في الدراسات العليا، وتمخض عن ذلك مستويات علمية متواضعة. لكن الأمر اليوم يشيع بدرجة أكبر بعدما كان الأمر في زمن النظام السابق ظاهرة محدودة، تشمل بعض الموالين لسياسيات الحزب الحاكم.

الشهادات المزورة

إضافة إلى الشهادات التي تمنح عبر الوساطة، هناك الشهادات المزورة، التي مازال أصحابها يتبوءون المناصب الأكاديمية ومراكز الدولة، ولم يكتشف أمرهم إلى الآن.

وبحسب المحامي والباحث القانوني سعد الدراجي، فإن الكثير منهم معروفون، لكنهناك تحابيًا ومجاملة، وتغطية لهم من قبل جهات مسؤولة، والمشكلة الكبرى أن هؤلاء يظهرون في وسائل الإعلام، ويطلقون على أنفسهم ألقابًا أكاديمية، لا يحملونها أو إنهم حصلوا عليها في غفلة من الرقابة والقانون في خضم فوضى 2003 الإدارية والسياسية والقانونية والأكاديمية.

ويضيف: quot;ثمة من يحمل الشهادة المتوسطة قبل العام 2003، وبعد سنة من هذه التاريخخرج على الناس بشهادة الدكتوراه. وثمة أسماء في الوسط الإعلامي والثقافي والسياسي العراقي، معروفة لكثيرين، ولا يحتاج المرء عناء طويلاً لاكتشافهاquot;.

إعادة التقويم

وفق تقارير عراقية فإنه تم الكشف عن 3165 وثيقة دراسية مزورة، وحصول عراقيين على شهادات دراسية في اختصاصات حساسة ومهمة مقابل ثمن.

وبحسب تقرير لمكتب مفتش وزارة التعليم العالي العراقية، فإن 2769 وثيقة دراسية مزورة، تم كشفها خلال العامين الماضيين. وبحسب الدراجي، فإن أهم خطوة أقدم عليها العراق هي إرسال البعثات الدراسية إلى خارج البلاد بغية الحصول على أكاديميين يتمتعون بمستوى علمي وأكاديمي متقدم.

ويعتبر خبراء عراقيون أن العبرة ليس في الكمية العددية من الجامعات والطلاب، بل في توافر الكوادر العلمية الجيدة والكفوءة، والموضوعية في القبول، والحد من التزوير في الحصول على اللقب الأكاديمي، وإعادة التقويم الموضوعي لمن يشك في قدراتهم العلمية والأكاديمية، وطرد أصحاب الشهادات المزورة، وعدم التهاون في حسم ملفاتهم.