يتماهى الكثير من الشباب في العراق بالدراما التركية، فيختلط لديهم إدراك الواقع من الخيال، ويجدون فيها متننفساً للهروب من مجتمعهم المحكوم بالتقاليد. فيما تعتمد مكاتب السفر على صور أبطال تلك المسلسلات لجذب الزبائن. أما رجال الدين والمحافظون فيرون أنها ذات مضامين غريبة في تفاصيلها عن بيئتهم.


بغداد: تحتل المسلسلات التركية المدبلجة الى العربية منذ العام 2008 حيزًا مهمًا من اهتمام الشباب العراقي، يرافق ذلك حرص شديد على متابعة التطورات الدرامية لحظة بلحظة، وتجسيد التعايش معها على أرض الواقع، ومحاولة تقليد الأبطال في العادات والتقاليد والمأكل والملبس والعواطف، على رغم التناقض بين أجواء العمل الدرامي والحياة الحقيقية.

ويعيش الفتيان والفتيات حالة من التوحّد بين الشخصية الدرامية الافتراضية والواقع، مما يثير حالة انفصام مرضية في بعض الأحيان بين التخيل والحقيقة، ليعيش الشاب واقعًا افتراضيًا، يستمد قيمه وتفاصيله من الدراما.

لعل هذا يفسر ظاهرة الانتحار في بعض مدن العراق، ومنها قضاء سنجار، حيث أشار رئيس مجلس القضاء في تصريحه(الثلاثاء، rlm;24 rlm; أيار/مايوrlm;، 2011) لوسائل الاعلام إلى انتحار 28 شاباً و شابة في القضاء خلال الأشهر الأربعة الماضية.

ومنذ أن عرض المسلسل التلفزيوني التركي quot;نور ومهندquot; على الشاشات العربية، بحلقاته المائة والخمسين، تمنى الكثير من متابعيه العراقيين لو أنها (حلقاته) تضاعفت، وعلى حساب حلّ منطقي للقضايا التي أثارها المسلسل، كما راج مسلسل quot;سنوات الضياعquot; وquot;نورquot; وquot;تمضي الأيامquot; وquot;عاصيquot; بين الفئات المختلفة للمجتمع.

متعة افتراضية

هذا يفسر الرغبة الجامحة للشاب العراقي في الانفصال عن الواقع والعيش في لحظات درامية تخيلية تشبع نهمه من متعة افتراضية لا يوفرها له المجتمع المحكوم بالعادات والتقاليد، بل إن المجتمع التركي نفسه لا يتوافر على تلك الحياة التي ترسمها الدراما.

من الأمثلة الصارخة على الهوس الناتج من التخيل أن أمينة حميد الطالبة في الجامعة المستنصرية، كانت تتابع المسلسل لوسامة البطل، لا غير، والمثير أن أمينة تكره quot;نورquot;، وهي حبيبة مهند. وتعترف أمينة: لا أطيق نور لأنها مغرورة، وتتكبر على مهند البطل الوسيم.

ولأن نور لا تقلّ جمالاً عن مهند، فإن فتيان العراق تعلقوا بها، لأسباب عاطفية، أو لدوافع جنسية، مثلما هاموا بـquot;لميس ويحيى، وعمر وباناquot;.

من هؤلاء، حميد صاحب صالون حلاقة، الذي يجمّل جدران صالونه بست صور لـquot;نورquot;، حيث يقول عنها إنها فتاة أحلام الكثيرين ممن يرتادون المحل.

وسيلة لجذب الزبائن

مكاتب السفر المنتشرة في بغداد،خصوصًا في شارع السعدون وفي منطقة الصالحية، وجدت في صور المسلسلات التركية وسيلة لجذب الزبائن، فيقول أحمد الفيلي إن الجولات السياحية إلى تركيا تلقى إقبالاً جيدًا، كما إن الدعايات للدراما التركية تجذب الكثيرين. وصمم الفيلي كتيبًا دعائيًا رسمت على غلافه صورتي نور ومهند كجزء من الترويج لتجارته.

ويرغب بعض الشباب العراقي، كما يقول الفيلي، في زيارة تركيا لمشاهدة مواقع تصوير مسلسل مهند ونور.

ويتلو الطفل عماد، وهو في الصف الثاني الابتدائي، أسماء الكثير من المسلسلات التركية، حيث حفظها عن ظهر قلب، في دلالة على عمق تغلغل هذه المسلسلات في الحياة الاجتماعية العراقية، ويسمّي عماد مسلسلات مثل quot;مهند ونورquot;، وquot;العشق الممنوعquot;، وquot;لحظة وداعquot; وquot;ميرنا وخليلquot;.

رجال لين يحذّرون من مضامينها الغربية

يحذرمعظم رجال الدين المحليين في خطبهم من غزو المسلسلات الغربية والتركية. ففي خطبته في مسجد في مدينة بابل، حذر الشيخ أمين الياسري من تقليد المسلسلات التركية، وذكر اسم quot;مهندquot; تحديدًا، مما يدل على مدى شعبية هذا الاسم اليوم في الشارع العراقي. وأرجع الياسري شيوع هذه المسلسلات الى مؤامرة على الإسلام والمجتمع العراقي. وينتقد الياسري مخالفة للشرع الاسلامي التي تنادي به هذه المسلسلات.

الجدير بالذكر ان الخطيب الحسيني المعروف quot;جاسم الطويرجاويquot;عاب في خطبة له أمام جماهير البصرة في العام الماضي الشباب العراقي ولعهم بالمسلسلات التركية، ودعاهم الى التقيّد بتعاليم الدين التي تمنع الفساد والدعارة والتعرّي، بحسب وصفه.

ويعترضمعظم العراقيين أصحاب النزعات المحافظة على المضمون الفكري لبعض الدراما التركية. فهم يرون انها ذات مضامين غريبة في تفاصيلها عن بيئتنا، ويدعون الى رقابة صارمة على هذا النوع من الدراما، لكن هذه المسلسلات المدبلجة أثرت في مضمونها على الكثير من المفاهيم الحياتية اجتماعيًا ودينيًا. وصارت بعض تلك التفاصيل مفاهيم اجتماعية متداولة.

يرجع كامل حسين، وهو صاحب دكان لبيع الافلام والكاسيت، وقد زينت دعايات المسلسلات التركية جدران محله، يرجع تعلق العراقيين بالمسلسلات إلى انها تعالج قضية محرّمة في الشارع العراقي، وهي العلاقات العاطفية، وهو يرى ان الشباب يفرغون عواطفهم الغرامية حين يتابعون تفاصيل دراما الحب.

يرفض كامل ان يكون الشباب وحدهم من يتابع المسلسل، ويضيف هناك آباء وأمهات يتشوقون لرؤية الدراما التركية. ما قاله كامل يحمل وجهة نظر صائبة، إذا ما عرفنا ان ام حسين، وهي مدرّسة وأم لخمسة اولاد، تتابع المسلسلات التركية، لانها ذات فائدة كما تقول، فقد تعلمت من الدراما التركية اساليب حضارية جديدة في التعامل مع الآخرين، وتفاصيل تجميل البيت، وكيفية إعداد طاولات الطعام، إضافة الى ديكور المنزل.

ترجع هيفاء اللامي تعلقها بالمسلسلات التركية الى غرامها بالتصاميم والأزياء، وقد اكتسبت خبرة جيدة من متابعتها للدراما.

القيم الغربية

لكن الفرق يظل شاسعًا بين تقاليد المجتمع الشرقي، وبعض القيم الغربية التي تروّج لها المسلسلات التركية، لكن هذه المسلسلات تظل الاقرب الى المجتمع العراقي قياسًا الى بعض المسلسلات الأجنبية على الفضائيات، وهذا يفسر تراجع المسلسلات الغربية مثل quot;دالاسquot; وquot;ذا يانج آند ذا ريستليسquot;، التي طغت على الشاشة لفترة طويلة، الى جانب مسلسل quot;الكسندراquot; المكسيكي، لكن الكتاب الاتراك نجحوا على ما يبدو في صياغة دراما تناسب العرب والمسلمين.

ويقول محمد عيسى: أنا صاحب عائلة، ولي ابنتان وولد في دور المراهقة، وعلى رغم حرصهم على متابعة المسلسلات التركية، لكنني اشاهدها معهم، واعلق على بعض التفاصيل في الدراما، لكي يكتسب الاولاد الخبرة اللازمة لتقويم هذا العمل من ذاك.

ام جاسم، هي أرملة في الستين، ترى في متابعة المسلسلات التركية متعة، إضافة إلى انها مفيدة اجتماعيًا، فهذه المسلسلات quot;تجمع العائلة في وقت واحد، حيث يسود الهدوء البيت في تلك اللحظاتquot; بحسب أم جاسم.

وتعترف أم جاسم ان ولعها بهذه المسلسلات، ليس القصد منه متابعة القصة التي هي غالبًا غرامية، انما لصقل ذوقها في طريقة ترتيب المنازل، وأزياء الفنانات وأسلوب عرض المائدة.

خديجة التركمانية.. شاهد من أهلها

لكن خديجة محمد، وهي معلمة ابتدائية من أصل تركماني، تستنكر عرض نوع معين من الدراما التركية، التي تصنفها كسلعة جنسية، ودليل ذلك ما يعرض من ممارسات داخل غرف النوم وتبادل القبلات وعرض أجساد الفتيات.

وتتابع في حديثها مع quot;إيلافquot;... quot;هناك الكثير من المسلسلات الاجتماعية التي اتابعها على القنوات التركية، وهي مسلسلات هادفة وذات توجه محافظquot;. وتتسائل خديجة: quot;لم لا تعرض هذه على الفضائيات العراقية والعربيةquot;.

وتضيف أن المجتمع التركي إسلامي الثقافة والتوجه، لكنها لا ترى فتاة محجبة في تلك المسلسلات، الا نادرًا. وترى خديجة ان هناك تشابهًا كبيرًا في العادات والتقاليد بين المجتمع العربي والمجتمع التركي. وترى خديجة ان هذه المسلسلات تمثل وجهة نظر ارستقراطية، وان الكثير من تركمان العراق يرونها غير واقعية.

تعيش خديجة في بغداد، وتتكلم التركمانية الى جانب العربية، وإضافة الى وظيفتها كمعلمة، تقوم بمهام الترجمة لبعض الشركات التركية في بغداد.

وفي بلد إسلامي، مثل العراق وتركيا - تضيف خديجة ndash; فإن الموائد العامرة بالمشروبات الروحية، كما تعرضها المسلسلات أمر مستهجن. وتضيف:يحدث هذا في تركيا في فنادق الدرجة الأولى وبعض المنتديات الخاصة.

ولا تعكس معظم المسلسلات التركية، بحسب خبراء، وجه تركيا الاسلامي، وتقلدغالبيتها الطريقة الغربية في الحياة.

فالفتاة كما تعرضها بعض الدراما تمارس الجنس من دون زواج، وبمباركة الاب، وهذا أمر لا يحدث حتى في العوائل التركية ذات الأفكار الغربية. بينما يقلد الشباب تقليعات اللباس الغريبة وقصات الشعر ودق الوشم والبنطلونات المرتخية الى أسفل الوسط.

وتقلد بعض فتيات الجامعات في العراق بطلات المسلسلات في الملابس القصيرة والشفافة، والتي تكشف الجسد، وتظهر المثيرة للشهوات، بحسب بعض العراقيين من ذوي التوجهات السلفية.

الباحث الاجتماعي سليم هادي الدليمي لا يرىضررًا من مشاهدة المسلسلات التركية، لانها في كل الاحوال الأقرب الى مجتمعنا العراقي، وهي أفضل مهما كانت سلبياتها من المسلسلات المكسيكية والايطالية والأميركية.

ويضيف: طبيعة الشعوب المتأخرة انها تقلّد الشعوب الاكثر تطورًا، والمجتمع التركي الذي هو جارنا يعد أكثر تطورًا في بعض النواحي، ولابد لنا ان نتفاعل مع الشعوب المتقدمة المجاورة لنا، كنوع من التمازج والتفاعل بين الحضارات والشعوب، لكنه يقترح ان يكون الانفتاح على المجتمعات عبر دراما اكثر محافظة وهادفة، وان لا يكون محورها الغرام فحسب.