يشير التقرير الذي بثه راديو كندا عن جريمة اغتيال الحريري إلى جملة وقائع معبرة. على اي حال التقرير كله معبر وخطير. لكنه أيضاً ناقص ومبتور. يكفي ان نتذكر ان التقرير لم يأت على ذكر أحمد ابو عدس وعلاقته بالجريمة، او على ذكر الانتحاري الذي يفترض أن يكون قد قضى لحظة الانفجار، لنكتشف ان الحلقة الأساسية التي يفترض ان يبحث عنها التحقيق، اي تحقيق، ما زالت مفقودة.
لكن المناقشة في بوليسية التقرير ودقته على هذا الصعيد، لا يقدم ولا يؤخر، والأرجح انه يؤخر اكثر مما يقدم، ذلك أن احدا، صحافياً او سياسياً، لا يملك ما يكفي من المعطيات في موضوع الجريمة ليقرر في شأنها او يبني على الوقائع التي بحوزته قناعات ومواقف. وغني عن القول ان نشر مثل هذه التقارير في الصحافة العالمية، سواء تلك التي نشرتها quot;الفيغاروquot; الفرنسية او quot;دير شبيغلquot; الألمانية، او حتى بعض الصحف العربية، يهز لبنان من أقصاه إلى اقصاه. إذ بات معروفاً للقاصي والداني ان لبنان يعيش على إيقاع المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال رفيق الحريري، وتضيره الشائعات التي تنتشر حولها وتهدد سلمه الأهلي، فضلاً عن ان قياداته الحالية متوترة ومتطيرة إلى الحد الذي قد يجعل يجعل اي شرارة طائشة مثابة افتتاح مجزرة لا أول لها ولا آخر.
مع ذلك يجدر بنا ان نتأمل قليلاً في ثنايا التقرير، لتثبيت مسألة في غاية الأهيمة. إذ لطالما دافع مناصرو المحكمة الدولية في لبنان عن ضرورتها بحجة أنها تمنع تكرار جرائم الاغتيال التي يتعرض لها سياسيو لبنان ومقدموه منذ عقود، وتضع حداً للإفلات من العقاب. والحق ان التقرير يعتمد في متنه وثناياه على حركة الاتصالات الخلوية والثابتة المحيطة بموقع الجريمة والمرتبطة بشبكات اخرى مقفلة ومفتوحة على حد سواء، ويخلص من خلال هذا البحث، الذي انجزه الرائد الشهيد وسام عيد بمفرده وبوسائل بدائية، إلى توجيه الاشتباه وتعيين الاتهام. والواقع ان المرء في وسعه ان يتساءل مراراً، لماذا استخف المجرمون وهم على هذه الدرجة من الدقة في التنظيم وحرية الحركة بمثل هذا المعطى البالغ الخطورة؟ في حين أنهم، ودائماً بحسب التقرير، لم يتركوا أثراً هاتفياً حين نفذوا عملية اغتيال الشهيد وسام عيد، وعمدوا إلى استعمال الأجهزة اللاسلكية التي لا تترك اثراً وراءها.
لو صح هذا الافتراض على المستوى البوليسي، فإن له معنى سياسيا بالغ الاهمية. ويعني في المقام الأول، ان لبنان لم يصبح بمنجاة من جرائم الاغتيال بطبيعة الحال، لكن ارتكاب مثل هذه الجرائم بات أكثر صعوبة بما لا يقاس. وهذا في حد ذاته ما يمكن اعتباره نصف انجاز حققه اللبنانيون. ذلك ان جريمة اغتيال الحريري وهو كان ما كانه حضوراً لبنانياً وعربياً ودولياً، تبدو، بحسب التقرير ابعد ما تكون عن وصفها بالجريمة الكاملة، حيث ترك القتلة وراءهم خيوطاً كثيرة لتعقبهم، في حين ان جريمة اغتيال الرائد وسام عيد، ولم يكن يرقى بطبيعة الحال، وزناً وأهمية إلى مرقى الرئيس الحريري، كانت أكمل وكان القتلة فيها اكثر حرصاً على محو كل أثر من ورائهم.
هذا نصف إنجاز ولا شك. وقد يحمي لبنان واللبنانيين من جرائم كثيرة في المستقبل. ربما لهذا السبب لم يعد ثمة من يرد على التحقيق بالجرائم بارتكاب المزيد منها، بل بات يهدد البلد برمته بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر. وحيث ان لبنان أمام واحد من احتمالين: إما تسهيل الاغتيالات، وإما تفجير البلد برمته، فإن الحصافة تقضي ان نتذكر ان البلد تفجر اصلاً منذ جريمة الاغتيال، وليس من سبب يدعو اللبنانيين للتخوف من حرب أهلية هم اصلا يقيمون فيها.