لم يعد خافياً ان التطورات الأخيرة التي شهدها لبنان في الأسابيع الاخيرة استقطبت اهتماماً عربياً وإقليمياً متزايداً. المنطقة اساساً تتخوف من أي حريق، مهما صغر حجمه، مع أن الحرائق تشتعل في مثل هذه اللحظات بالذات. لكن الجهود الصادقة والمؤثرة التي تستعد الدول العربية وبعض الجوار الإقليمي لبذلها من أجل تطويق الحريق قبل اندلاعه تبدو مفتقدة لفرص النجاح الفعلية. حتى الآن ثمة اقتراحات عربية وإقليمية لإيجاد تسوية ما في المشهد اللبناني، تؤجل انفجاره إلى حين، غير ذات فاعلية. ذلك ان الأطراف المعنية بهذه التسوية ليست طيعة بما يكفي لإنتاج تسوية يخسر فيها الجميع ويربح فيها المجموع. على أي حال، ينقص هذه التسوية لتكتمل فرص نجاحها كما بات واضحاً ضلعان اساسيان. الأول متعلق بارتباط حزب الله بالأجندة الرسمية الإيرانية، والثاني متعلق بطبيعة الطرف الآخر الذي يملك مفتاح الحرائق، وهو إسرائيل.
واقع الأمر ان افضل ما يمكن التوصل إليه من نتائج في مسألة القرار الظني الذي سيصدر عن المدعي العام في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في وقت ما من الأسابيع المقبلة، قد يكون النجاح في تحويل هذه المحكمة الدولية إلى ما يشبه المحكمة الدولية الخاصة بدارفور، اي تلك التي اصدرت قراراً ظنياً تتهم فيه الرئيس السوداني عمر البشير بالإبادة الجماعية. هذه المحكمة لا تملك من القوة العسكرية ولا من الإرادة الدولية ما يتيح لها تنفيذ قرارها، مما يجعل من قراراتها، حتى إشعار آخر، حبراً على ورق. لكن المعضلة الأساسية في المسألة اللبنانية ان حزب الله لا يشبه الرئيس السوداني. وان اعداء حزب الله المباشرين لا يشبهون اعداء الرئيس السوداني المباشرين. حزب الله من دون قرار دولي يتهم بعض قياداته بتنفيذ جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناين الأسبق رفيق الحريري، هو حزب منذور لمعركة حامية الوطيس في المقبل من الأيام. وهذا يفترض ان القرار الظني الذي قد يصدر عن المحكمة الدولية ليس من القرارات التي قد توضع على الرف، لأن ثمة دول فاعلة، ابرزها إسرائيل، لها مصلحة حاسمة في تفعيله وتطوير الخطوات الآيلة إلى وضعه موضع التنفيذ. والحال، وجد اللبنانيون أنفسهم في فخ بالغ الخطورة. ذلك ان القاصي والداني يعرف ان شيئاً لن يحول دون صدور القرار الظني، أولاً لأن ليس ثمة بين الذين يستطيعون التأثير فعلاً على المحكمة الدولية الخاصة بلبنان من يخاف على مصير حزب الله او يقيم معه حلفاً استراتيجياً. وثانياً لأن مثل هذا القرار في حال صدوره سيكون حجة لا مثيل لها لأعداء هذا الحزب بغية وضعه مرة واحدة وإلى الأبد في موضع تنظيم القاعدة. وهذه فرصة لن يفوتها اي من أعداء حزب الله الدوليين بطبيعة الحال.
على هذا تبدو حظوظ الوصول إلى تسوية ما على المستوى اللبناني رقيقة الحاشية. فالمسألة في لبنان اليوم ليست في ان يتنازل بعض اللبنانيين عن مواقفهم الداعية للاقتصاص من قتلة الحريري، بل هي في واقع الأمر اكبر من لبنان نفسه، واوسع رقعة من مجال الدول العربية مجتمعة. وقد ينجح اللبنانيون في تعطيل مفاعيل التهديدات التي اطلقها امين عام حزب الله في اطلالاته طوال الأسبوعين الماضيين، لكنهم في نهاية الأمر لن يستطيعوا منع القرار الظني من الصدور ومنع المتربصين بحزب الله شراً من استغلال نص القرار.
وقد يكون أسوأ ما في سلوك حزب الله في الآونة الأخيرة، واقع انه وجه نيرانه إلى الداخل اللبناني في حملته للدفاع عن نفسه. في حين ان الهجوم الفعلي على حزب الله لن يكون داخلياً في مطلق الأحوال، ولم يفعل حزب الله، من خلال إطلاقه التهديدات في حق اللبنانيين، ووصم بعضهم بالعمالة لإسرائيل، إلا تحسين شروط الهجوم الخارجي عليه. على أي حال، ليس وارداً ان تلجأ قوة لبنانية، سياسية كانت أم امنية، إلى محاولة القبض على عناصر من حزب الله بناء على توصية القاضي الدولي. والأرجح ان إسرائيل سيسرها حين تستكمل استعداداتها ان تؤدي دور الشرطة القضائية الدولية لجلب رأس حزب الله امام قوس محكمتها.
المسألة في واقع الأمر ليست في صحة الاتهام او في عدالة القضاة الدوليين، التسييس الذي يتحدث عنه حزب الله، قد لا يكون في القرار الاتهامي نفسه، ولو كان قراراً جائراً وغير مستند إلى وقائع صلبة وأدلة دامغة. التسيييس في نهاية المطاف هو عمل دول كبرى ، تستطيع ان تحمل القرار الظني وتدور به، وتتصرف بناء على مقتضياته من دون توكيل من احد، خصوصاً من اللبنانيين، باعتبارها ولية الدم الدولية وحارسة عدالتها.