لا يمكن نكران حقيقة اللهجة المحلية لأية منطقة أو إقليم، رغم وجود لغة رسمية (standard)، ومهما كانت أهمية تلك اللغة كالعربية، التي تعتبر لغة القرآن والتاريخ والهوية المشتركة للعرب. فاللهجة المحلية هي الجانب الشفهي للحياة الاجتماعية اليومية والتراث والثقافة الشعبية. فهي واقع ثقافي واجتماعي قائم لا يمكن تغييره. ولكن يمكن quot;تهذيبهquot; بما يسمح له أن يكون ساندا ورافدا للغة الفصحى ومصدرا من مصادر شيوع الثقافة الشعبية وترقيتها وإيصالها إلى مديات أبعد من نطاق محليتها الضيقة، خاصة في ظل التواصل الإعلامي الكثيف وتعدد قنواته الفضائيات وشبكة الانترنت بما تحتويه من مواقع ومنتديات وصحف الكترونية تحفل بملايين المواد المرئية والصوتية والمقروءة.
وكنموذج لهذه الحالة فإننا نرى أن اللهجة العراقية quot;المكتوبةquot; باتت اليوم بأمس الحاجة إلى تشذيب وتهذيب يرتقي بها إلى صف المقاربة مع اللغة العربية الفصحى ونعيد لنؤكد أننا نقصد هنا اللهجة quot;المكتوبةquot;، وليست المنطوقة. فتغيير اللهجة المنطوقة أمر صعب، ولعل ارتفاع نسبة التعليم وانتشار وسائل الإعلام وزيادة التواصل مع الثقافات الأخرى ولو المجاورة هي الكفيلة بأن تعدل منها.
لقد اشتهر العراق بإنجاب آلاف المفكرين والمبدعين البارزين في مجالات الفكر والثقافة منذ فجر تاريخه، ولازال يسمع ويقرأ ويشاهد نتاجه الفكري سواء بالعربية الفصحى أو باللغات المحلية الأخرى أو حتى باللهجة الشعبية العراقية، مع ملاحظة أن هناك لهجات فرعية عراقية متعددة لكنها لا تختلف كثيرا عن بعضها سوى في بعض المصطلحات ونطق بعض المفردات.
إن اللهجة الشعبية العراقية هي الحاضنة الحقيقية للتراث والحكمة الشعبية العراقية خاصة في مجالات الشعر الشعبي والأمثال الشعبية والألغاز والأحاجي الشعبية وما إلى ذلك. وقد أعتيد أن تكتب في مراحل تاريخنا المتأخرة خاصة بطريقة التدوين الحرفي أي حيثما يلفظ يكتب سواء من ناحية اللكنة أو حتى الحرف الأعجمي. فـ(ك) المؤنث بالعربية تقلب (ج) أعجمية (ﭽ) وهي أمر شائع في الخليج العربي وبعض مناطق بلاد الشام الكبرى أيضا. في حين أن معظم البلدان العربية تقريبا (خاصة المشرق منها) قد تجاوزت هذه المشكلة من خلال تدوين اللهجة الشعبية بـ(حروف عربية). وقد اشرنا في مقال سابق ( ) إلى هذه المسألة كإشكالية تواجه اللغة العربية.
فمن الأسماء مثلا: مطلق، شاعت كتابته في العراق (مطلك) بتوظيف الكاف الأعجمية (ﮒ) بحسب لفظه. اللفظ هو هو سواء في المشرق أو المغرب العربي إلا من بعض الاستثناءات لكن شكل الكتابة اختلف. ونفس الشيء مع قاصد (كاصد) وكاسب (ﭽاسب) وعقلة (عكلة) ...الخ. أما من الشعر الشعبي فاغلبه جميل ومستساغ ومفهوم إلى حد ما لدى المستمع العربي عامة حينما يسمعه، لكن الأمر يبدو مثل أحجية حينما يقرأه، أو قد يفهم معناه بشكل مغاير إلى حد بعيد.
خذ مثلا بعض أبيات الشاعر الكبير مظفر النواب: ( )
خضري يروحي اعله بختج هذا آخر شوك عدنه
خضري وانطي شما بحيلجمن ورد جايتنه مزنة
نكتفي بهذين البيتين الجميلين من القصيدة ولنتأمل، كعراقيين، هل يستطيع أي قارئ عربي أن يفهمها مثلما نفهمها نحن العراقيين؟؟
لنعد صياغتها أو كتابتها بالشكل الذي نهدف إليه في مقالتنا هذه، وذلك من خلال إزالة لبس الإشكاليتين الرئيسيتين وهما: 1- الكتابة باللفظ العامي المفرط، حيث يتغير شكل الكلمة أو إملائها و2- إبدال الحروف الأعجمية بحروف عربية، لنعمل مقاربة مع الفصحى أو اللغة السلسلة التي يفهمها قارئ العربية، ليكون البيتان بالشكل التالي:
خضري يروحي على بختك هذا آخر شوق عدنا
خضري وانطي شما بحيلكمن ورد جايتنا مزنة
من المؤكد أن البيتين الآن قد أصبحا أكثر وضوحا للقارئ اللهم إلا توضيح بعض المفردات مثل:
شما: شو ما= كلما
مزنة= زخة المطر
قد يعتبر البعض أن في هذا تشويها للشعر الشعبي العراقي وذائقته، ولكن نقول أن بإمكان قارئ هذا النوع من الشعر من العراقيين ومتذوقيه أن يقرأوه بنفس طريقة لفظه حيث يتم إبدال الحروف افتراضيا، وهذا لا يفسد معناه ولا عمليه تذوقه.
هنا مثال آخر لتشوه المعنى نتيجة التدوين الخاطئ الذي شاع، حيث يفقد المكتوب معناه ويتيه قارئه من غير العراقيين أو ربما حتى من بعض العراقيين.
بعض الأبيات من قصيدة جميلة لشاعر شعبي كبير هو عريان السيد خلف: ( )
جملني بعد كطره وخذني وياكهناك الفيض كلبك
وتنشدني اعله كلبيكلبي حب وذاب
ياكلبي حلك تنور لو سرداب؟
لقد قمت بعرض هذه الأبيات على صديق غير عراقي من جنسية عربية أخرى وطلبت منه أن يقرأه ويفسره لي. فتلكأ بقراءته طبعا ثم أعطاني التفسير التالي بما مضمونه:
quot;زادني حلاوة وخذني معك، هناك الفيض كلبك (قصد هنا الحيوان الكلب dog). وأكمل التفسير: وتسألني عله كلبي (كلبه لديه مرض)، كلبه حب وذاب.
وأجمل لي ما فهمه على أن هناك شخصا يحب كلبه (الحيوان الوفي) حبا جما، بل ويذوب بحبه.
وبعد أن استبدلت الحروف بالطريقة المقترحة بنفس ما سبق مع أبيات مظفر النواب وبالشكل التالي:
كملني بعد قطرة وخذني وياكهناك الفيض قلبك
وتنشدني على قلبيقلبي حب وذاب
ياقلبي حلق تنور لو سرداب؟
وهنا أعاد قراءته وأعاد تفسيره وفق التعديل بحيث أصبح مفهوما تماما، بل ولام الشعراء الشعبيين العراقيين لعدم تدوينهم لشعرهم بهذه الطريقة المقربة إلى الفصحى بحيث يسهل فهمه فينتشر أكثر وتتسع شهرتهم أبعد من حدود بلدهم.
نكتفي بهذه الأمثلة ولا نخوض فيما يكتب على مواقع الانترنت والمنتديات التي يكتب فيها عراقيون، فهناك العجب مما يشبه اللهجة العراقية وليس لهجة عراقية، فهناك المكتوب مثل المنطوق تقريبا، حيث الإدغام وحذف الحروف أو قلبها، فضلا عن الأخطاء الطباعية والإملائية والنحوية وما إلى ذلك. وطبعا لذلك أسباب عديدة منها التمايز الاثني والعرقي في العراق وبالتالي فهناك من يكتب بغير لغته الأم مثل الأكراد والتركمان والكلدان الاشوريون والأرمن وغيرهم، وهناك من أبناء العراقيين من المهاجرين في بلدان غير عربية، فهم بالكاد يكتبون بالعربية، حيث تعليمهم الأصلي بغيرها، أضف إلى ذلك شيوع خدمة الانترنت إلى حد ما بحيث أصبحت بمتناول مختلف الطبقات والفئات والمستويات، ناهيك عن تدني المستوى التعليمي لدى الأجيال الحالية بصورة عامة، لعله في العالم اجمع وليس حصرا في العراق أو المنطقة.
لدينا مثال جيد لمجتهدين عراقيين اتبعا نفس الطريقة تقريبا في تقديم نفسيهما كمطرب وشاعر كبيرين وهما كل من كاظم الساهر وكريم العراقي. فقدما ثقافة عراقية من شعر ولحن وصوت يفهم عربيا ولا يجد الحواجز فيه سواء كان منطوقا، مغنى أو حتى مكتوبا.
فهذه دعوة للشعراء الشعبيين العراقيين ومحبيهم والمهتمين بالثقافة العراقية من مسؤولين وفضائيات ومؤسسات وصحف ومواقع الكترونية ودور نشر أن تنهج هذا النهج في سبيل تهذيب اللهجة العراقية التي غرقت بالعامية وانكفأت وتقوقعت على نفسها.
باحث في علم الاجتماع: www.al-hashimi.blog.com