تعد اللغة أحد أهم آليات الاندماج الاجتماعي، وهي أهم الأدوات والوسائل الوسيطة التي تتفاهم بها الشعوب والأفراد وتوصل عبرها رسائلها الى الآخر.
وقد عد علماء التفاعلية الرمزية ومنهم جورج هربرت ميد اللغة وسيلة إتصال الناس، ووصفها بأنها إحدى أوجه التصرف الاجتماعي. وبنفس الوقت إعتبرها ميد واسطة لنقل الإشارات والرموز بين الأفراد، مما يساعدهم على التعبير عن المعاني التي يفصح عنها الناس أو ينقلونها للآخرين. ولكل إشارة فعل خاص يدل على سلوك معروف من قبل المجتمع. بمعنى آخر هناك فهم مشترك لدى الأفراد لهذه الرموز والإشارات. (1)
وهذا يعني إجادة أحد الطرفين للغة الآخر أو كليهما للغة بعضهما البعض. ففي حالة الاقليات الاثنية التي تتمايز لغويا عن الأغلبية في وطن واحد، فإنها على الأرجح تجد أنفسها quot;مجبرةquot; لتعلم لغة الأغلبية من أجل زيادة فرص التعليم والاندماج في الهوية الوطنية ونيل الوظائف الحكومية وتمثيل البلد عامة وليس الأقلية حصرا. وبخلافه فإن أبناء الأقليات سيعانون العزلة وقلة الفرص وصعوبة التقبل فضلا عن صعوبة الاندماج الذي لا يعني بالضرورة فقدان هويتهم الثقافية الفئوية.
أما في حالة المهاجرين فإنه يتوجب عليهم إجادة أو فهم لغة المجتمع الحاضن لهم، بحيث يسهل لهم على أقل تقدير إبداء السؤال عما يريدون الإستفهام عنه وفهم إجابته، هذا فضلا عن إمكانية تفهم الضوابط والأطر القانونية والعرفية العامة في بلد المهجر، ومن هذه الأطر مثلا، معرفة السياقات العامة للآداب والسلوك من صيغ التعامل مع الآخرين والعادات والتقاليد وإدراك المحرمات التي يجب أن يقف عندها والمقدسات التي يجب احترامها أو عدم إهانتها، ومعرفة القوانين العامة التي تنظم الحياة اليومية وقوانين الإقامة والعمل التي يتطلب من المهاجر الإلتزام بها وغير ذلك.
فتصور كيف يكون حال شخص مهاجر لا يستطيع إدراك لغة البلد الذي يقيم فيه طيلة مدة إقامته؟ هل يستطيع المهاجر أن يقضي سنين عديدة أو بقية عمره معتمدا على مترجمين محترفين أو أقارب وأصدقاء له؟ وفي هذه الحالة هل هناك أدنى فرصة للاندماج الاجتماعي؟
وبصورة عامة فإن التحدث بأكثر من لغة يعد مهارة وامتيازا. وقد أكد quot;باحثون كنديون أن التحدث بلغتين خير من التحدث بلغة واحدة فيما يتعلق بالحفاظ علي حيوية المخ ونشاطه. وجد الباحثون أن البالغين الذين ينشأون وهم يتحدثون لغتين يتمتعون بعقلية أكثر فاعلية عندما يخضعون لاختبارات عن هؤلاء الذين يتحدثون لغة واحدة، إذ يظهرون معدلات أقل من حيث التراجع الطبيعي لقدرات المخ وهو ما يقترن بالتقدم في العمرquot;. (2) وفي ضوء التعامل مع لغة بلد المهجر وضرورة تعلمها باعتبارها من مؤشرات الاندماج الاجتماعي ومن آلياته بنفس الوقت.
من الشائع في الأوساط الثقافية أن quot; اللغة وعاء الثقافةquot;، فهي حافظتها ومخزنها وهي الجسر الذي تعبر به الثقافة من مجتمع إلى مجتمعات أخرى. واللغة هي الهوية التي يعرف بها الشخص وانتماؤه في كثير من الأحيان. (3)

وتفخر كثير من بلدان العالم بوجود تنوع ثقافي في أوساطها الاجتماعية بما في ذلك الأقليات المهاجرة إليها. لقد تحولت كثير من بلدان العالم بما فيها بلدان أوربا الغربية الراسمالية، من مجتمعات أحادية الثقافة أو القومية إلى مجتمعات تنوع ومغايرة ثقافية.
إذن فاللغة هي أداة التواصل وجسر المرور وصلة الوصل بين الأطراف الإنسانية أفرادا وجماعات. وبدونها يصعب التواصل وفهم الآخر. وهي ميزة البشرية عن غيرها من المخلوقات. وهكذا فهي عامل مهم في التفاعل الاجتماعي والاندماج الذي يعتبر مبتغى الشعوب التي ترتبط بمشتركات العيش المكاني والمصالح والمصير المشترك وتجتمع تحت مظلة وطن واحد تحديدا.
* د. حميد الهاشمي، مختص بعلم الاجتماع، لندن:
www.al-hashimi.blog.com

هوامش

1 - عمر، معن خليل، نقد الفكر الاجتماعي المعاصر، ط2، دار الآفاق الجيدة، بيروت، 1991، ص ص 197-198.
2 - جريدة الرافدين الالكترونية العراقية، 15-6-2004، http://www.alrafidayn.com/Story/Variety/Va_150604_1.html
3 - حددت اليونسكو يوما عالميا للغة الأم ويصادف quot; 21 فبراير من كل عام وتنشر اليونسكو وثيقة عمل تفتح الباب لهذا النقاشquot;. جريدة الوطن العمانية، دراسة لليونسكو حول تعزيز اللغات الأم لدى جاليات الهجرة في أوروبا،
http://www.alwatan.com/graphics/2003/02feb/23.2/heads/ct6.htm