قالها وهو الذي أعلنَ نفسَهُ (راعي الوجود) متمحِّضاً (نيتشة) بكل حروفه العلنية والسرية... تشرَّبه ضميراً يشعلُ نار الانتقام والثار والتمرُّد في هشيم الحياة اليابس، ليفرض عليها صيغة ليست مستعدة لها، ولا تستسيغ نكهتها، فالحياة هي كما جاء لنا قسرا، تغادرُنا قسرا، والمثلُ الاعلى سادرٌ في غياهب الامل النيتشوي يفتش عن مخرجٍ كاذبْ، وهل للوهم أن يشيِّد حقيقة؟
قالها...
هل حقاً جئنا لنموت؟
لقد اعطى هايدجر للموت معنى (إنطولولجيا) يغورُ داخل الحياة، ليكسبها النهاية المحتومة، والخاتمة التي لا مفر منها!
أي انطلوجيا هذه إذن؟
كيف يا ربْ؟
اليس هو الذي صرخ صرختَه المدوية في أعماق فلسفة اليونان، ليبعث الميِّتَ القديم من رفات الاضافات المتثائبة؟
أليس هو الذي عمَّد فكره بماء الاحياء الابدي؟
حقاً جئنا لنموت...
الموتُ يكتبُ حروفَه الاولى على جبين هذا الانسان الموهوم بإنسانيته منذ اللحظة الأولى، حروفٌ أولى في اللحظة الأولى!
قد لا نأكلُ يوماً أو يومين، ولكن لا نموتُ بالضرورة لاننا لا ناكلْ، وقد لا نشربُ يوما أو يومين، ولكن لا نموتُ بالضرورة لاننا لا نشربْ، ولكن إذا متنا لن نأكل إلى الأبد، ولن نشرب إلى الأبد..
إذن جئنا... لنموت!
نموتُ كل لحظة ألف مرَّة، ملايين المرات، ولا نشعر، فكم هو الموت حقير، وكم هو خادع، وكم هو مدمِر خفي، ساحق سحري لعين، يتسرب إلينا بل يعيش في داخلنا، فيما نخدع أنفسنا بأنّنا أحياء...
والمفارقة هي موت في الصميم...
إذن جئنا لنموت...
هو ا لموت... يعيش في داخلنا، ويغرينا أننا أحياء!! ينخر خلايانا بشراهةٍ مفجعةْ، ويُخَّيَّل إلينا أننا أحياء، ولو كانت الحياة هي الاصيلة، لما كان موتٌ على الاطلاق...
الموتُ جبراً خروج للجسد من الروح، والموتُ طوعا خروج للروح من الجسد، فهل من الحكمة أن تبقى أجسادُنا وتموتُ أرواحُنا؟
الموتُ جبراً هروب من الموت ذاته، فيما الموت اختيارا هروب للموت، هزيمة، كسرٌ لانفته الطاغية، استهزاءٌ بسخريته اللاذعة.
هي اليدُ الرائعةُ تصكّ على زناد النهاية، تفجِّر حقدَ بارود الخلاص من ألم ٍلا نعرف سرَّه ولا بدايتَه، ولا نهايتَه، ولا حكمتَه.
أجسادُنا عبيء زائفٌ على مسؤولية الموت، فإذا متنا جبراً، نكونُ قد حررنا الموتَ من بعضِ أعبائه، ولكنَّ الموتَ إختياراً بصقةً مهينةً على جبينِ الموت، وأنفةً أنْ يكونَ هو الذي يتحمَّل زهق أ رواحنا، فالموتُ إختياراً خلاصٌ من هذه المذلة القذرة.
وليس الموتُ اختيارا لحظة عابرة، بل هو تاريخ، وعيٌ مسبَق بتفاهة الموت ذاته، وهل نعلم أن الموتَ اختياراً تسبقُه طقوسٌ مذهلة، طقوسٌ مقدسة، طقوسٌ هادئة مطمئنة، طقوسٌ يسكن الكونُ لجلالها وهيبتها، طقوسٌ تطوفً على محياها خلاصاتُ الوجود عندما كان في بذرته الاولى يعاني من عسر الولادة.
فهل بعد ذلك عذرٌ أنْ لا نسارعَ حتف وجود زائل لا محالة؟
لقد خُلِقنا لنموت، وإذن، الحياةُ بكل ما يقال عن مباهجها المغرية، وإغرائاتها المبهجة ليست سوى عقاب مسبق على جريمة لم نقترفْها، لم نرتكبْها، لم نمارسْها، كان هناك إثم مفترَص يؤسِّس لولادتنا التعيسة.
هل حقا خُلِقنا لنعمِّر الارض؟
أي أرض هذه التي نعمرها، وهي التي تأوينا في النهاية في أنفاقها المخيفة... المظلمة... العاتية... القاسية... القذرة...الساخنة... الخاوية...الجاسية...النتنة...الوحلة...المحشورة بالدم والعظام والأسن والجماجم ليتسرّى الدودُ بكل حرية في صميم قلوبنا، وفي عمق دماغنا؟ وأي ُّأرضٍ هذه التي نعمِّرها وهي التي تتفجر حمما وبراكين لتبتلع افئدة مواليدها الأبرياء بكل قسوة وجبروت؟
الموتُ إختيارا طقسٌ كوني يتعالى على هذا الكون الجاسي، يتعالى على التاريخ، يتجرَّد من كل زمن، من كلِّ لاحقٍ وسابقٍ وحاضر، له كونُه الخاص به، يبيِّتُه صاحبُه، يضاجع آلته الحلوة، حتى تأتي اللحظة المواتية، يقبلُه كل َّيوم، يطهِّرهُ في كل لحظة من ملامسة الهواء الدنس، هذا الهواءُ الذي نتنسمُه، الهواء الذي يلصقُ بجسمي رغماً عني قذارات المرابين... القوادين... القتلة... الاصدقاء الخونة... الاعداء...
جئنا لنموتَ كما يريدُ الموتُ، فلماذا لا نموتُ كما نريد نحن؟
إذا قال الفارس الشجاع سأموت كما أريد... زَغردوا...، صفِّقوا... إرقصوا... غنوا... لا تزغردوا بألسنتكم بلْ بقلوبكم، لا تصفِّقوا بأيديكم بل بخلجات روحكم، لا ترقصوا بأجسادكم بل بجنانكم، لا تغنوا بشفاهكم بل بانفساكم التي سأمت الموت لانه موت!
وإذا ما ماتَ حقا كما كان يريدْ، فاحزنوا، لانكم خسرتم صادقا في هذه الحياة.