بدأ ليل الظلمات ينجلي عن العالم العربي، وها هو صنم هبل يسقط في كل مكان، ويزول السحر وتنفك العقد.
quot;مصر أم الدنيا، وأمنا كانت متجوزة بلطجي، وأمنا رجعت لنا،quot; هكذا قلت لأصدقائي المصريين وأنا أقلد اللهجة المصرية، لأهنئهم على استعادة مصر لكرامتها وحريتها.
وماذا تفعل الأم عندما تعود إلى الحياة؟ إنها تُنظف، وتُطعم، وتحنو عل الجميع.
إن الأمة العربية كمثل امرأة وضعتها الأقدار في يد رجل بلطجي؛ يضربها ثم ينزل إلى المقهى ليجلس مع الأصدقاء. يضرب الأولاد ثم يشعل سيجارته. يحطم أغراض البيت ثم يضحك. يصرخ، يتوعد، ثم يطالب الجميع بعبادته. يسرق أموال العائلة ثم يذهب ليقامر بها. ولكن الأولاد كبروا وأفاقوا وقاموا ضد الأب القائد. لا، ليس للأبد! لا، ليس للأبد!
لماذا يخشى الإنسان الغزو الخارجي؟ أليس لأنه يسجن الابن ويستبيح البلاد ويسرق الأموال ويسحق الحريات؟ وكيف يعيش العرب الآن؟ أليس هذا هو الاستعمار بعينيه ولكن بنظارات عربية سوداء. ماذا قال القذافي بينما يقصف شعبه المدني الأعزل بالطائرات الحربية؟ قإل إنه يريد الذهاب لشرب الشاي مع الأصدقاء لكن المطر منعه. يا للهراء! أهؤلاء الذين يحكمون الأمة العربية؟! ذاك الآتي من ظلمات الجشع والحرمان يعبئ قصوره بالعملة الورقية والكراكيب، وذاك الذي يقصف المدنيين العزل بمضادات الطائرات، وذاك الذي يمشى على خطى أبيه القائد فيزيد الاعتقالات ليخيف الأبناء الشجعان الشرفاء. يا الله، كيف تسلط علينا هؤلاء؟ إننا مثل الأيتام في مأدبة اللئام. فسطوة من الخارج وقمع من الداخل.
ولكن الله لا يخلف وعده. quot;إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهّل الكافرين أمهلهم رويدا.quot;
ماذا فعلت إيطاليا بالليبيين أكثر مما يفعله القذافي الآن؟ بل السؤال هو: هل تجرأت أن تصل لدرجته؟ من يتجرأ أن يقصف المدنيين بالذخيرة الحية، ويطلق على شعبه القتلة المأجورين؟ لم نتحرر من الاستعمار. بل غرقنا في استعمار أعمق عندما باعنا الاستعمار الخارجي للاستعمار الداخلي، في صفقة من بلطجي أجنبي كان على الأقل ينافق للقيم الإنسانية، إلى بلطجي جاهل يستهزئ بالقيم الإنسانية.
هذه اللحظات التي نعيشها الآن هي لحظات الحرية التي طالما تاق إليها أبناء المنطقة. وكل الثورات من قبل كانت دوامات وشعارات نعيشها في حالات من (القابلية للإستعمار) كما عبر عنها ببلاغة المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي. ويبدو أن فقدان المناعة أمام الاستبداد الداخلي والخارجي بدأ يزول. فالكريات البيضاء، السلامية، الرافعة للأعلام البيضاء بدأت تقوم بدورها، وبدأت التخلص من الجراثيم الفكرية التي شلت الجسد العربي لتحافظ على الدم الأحمر الجميل حتى لا يعود رخيصا يهرق على منابر النفاق والاستغلال وبيع الشعوب بالمزاد العلني.
والأعجب، بل الأجمل أننا نكتشف أن الجسد الذي كان قد قطّعه البلطجي الأجنبي، ثم دفنه البلطجي العربي، يعود إلى الحياة بكل أعضائه متواصلا متكاملا، إذا اشتكى منه عضو في القاهرة تداعى له سائر الجسد في ليبيا واليمن والبحرين بالسهر والحمى. ما يحدث في تونس يؤثر على القاهرة وما يحدث في القاهرة يؤثر على جيبوتي. ولا تظنوا أن سوريا لا تتنفس، مهما كمموها. لقد اكتشفنا أن الوحدة العربية لم تكن حلما أوخيالا، وإنما كانت حقيقة تعيش مختبئة في زوايا الوعي العربي، غائبة عن غباء الاستبداد. وها هي الوحدة العربية تخرج لنا حية من جديد. إنها لم تُقطّع، ولم تدفن. والأهم والأروع أن هذه الوحدة ليست وحدة شعارات لزعران يراهنون بالأمة على طاولات القمع. بل هي وحدة عضوية روحية عاطفية تناضل من أجل العدل الاجتماعي، والحريات المدنية، والرحلة نحو الديمقراطية ولتوقظ البشرية أيضا من غفلتها.
أمنا كانت جميلة، أمنا كانت رائعة، أمنا كانت حانية. ولكن الرجل البلطجي الذي تزوجته دمر حياتها وحياتنا، حتى قام الأولاد وقالوا كفى. شكرا لكم أيها الشباب والشابات، لأنكم أعدتم الكرامة للمواطن العربي والمواطنة العربية. وأعدتم الهيبة والقداسة لقيمة الفرد. صرنا نعرف أسماء شهدائنا، ووجوههم في ساحة التحرير، وتونس، ونتبادل أسماء سجنائنا ومعتلقي الرأي والضمير في سوريا. لقد عادت الهوية العربية إلى الفرد، لأن الشعب لا يحيا إلا بالأفراد، وإن الحكومات التي تسحق الفرد، بحجة توازنات إقليمية أو في سبيل مشروع وطني، فإنما تسحق نفسها، لأنه لا تعيش ولا تزدهر أمة إلا بكرامة أفرادها وحرياتهم.
كم هانت الأمة العربية في أيد البلطجية العرب، وأيدي البلطجية في الغرب. ولكننا لم ننتظر أحدا، لا الحكام، ولا رحمة الغرب، ولا بطلا من الماضي يأتي ديكتاتورا ليحررنا. إن الإنسان البسيط هو الذي يصنع اليوم هذه المعجزات. فطوبى للمساكين، طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الرب يُدعون. واللهم احشرني مع المساكين، وصانعي السلام وزارعي الرحمة.
اللهم ارحم شهداء لييبا، اللهم أعز أبناء الأمة العربية وبناتها، الذين قاموا ضد الأب القائد وكل شعاراته الفارغة وإرثه المزور. اللهم ارحم البوعزيزي، اللهم ارحم أبو القاسم الشابي، شاعر الشباب والذي مات في سن الشباب.
التعليقات