فى مقال سابق لى حذرت من اندساس المغرضين من طائفيين وبعثيين يريدون العودة الى الحكم وعاطلين استلموا أجورا لقاء المشاركة فى المظاهرات، و من قاعدة الارهاب، الى غرباء من دول الجوار وغير الجوار يريدون فرض حكمهم وأنظمتهم علينا. ومع أن حضور المندسين كان ضئيلا بفضل انتباه المنظمين الحريصين على نجاح المظاهرات الا أنه كان موجودا حيث رفعت بعض الأعلام البعثية بين المتظاهرين فى ساحة التحرير فى بغداد وحتى فى مظاهرات جرت خارج العراق. كما نادى البعض برحيل رئيس الوزراء المنتخب من قبل الشعب، ولا يخامرنى أي شك فى أن هؤلاء البعض هم من ترسبات العهد البعثي الأسود المباد والقاعدة الارهابية المجرمة، ولم يفهموا بعد أن العراق يطبق الديموقراطية التى تضمن الحرية لجميع العراقيين، وإن حفنة من المتظاهرين لم يصل عددهم الى عشرة آلاف متظاهر أو حتى تظاهرة (مليونية!) لايمكنها أن تنسخ اختيارات ما يقرب من عشرين مليونا من الناخبين العراقيين الذين أدلوا بأصواتهم فى العام الماضي. والغريب أن السياسيين المعارضين يشجعون استمرار قيام المظاهرات ويطلبون من الحكومة أن تنفذ مطاليبهم وكأنهم منتخبون من قبل أكثرية أبناء الشعب العراقي لينوبوا عنهم، وسنرى ماذا سيقولون إذا ما استلموا الحكم.

من الواضح أن الغرض الأصلي لقيام هذه المظاهرات هو الفساد الذى وضع العراق على رأس قائمة الدول التى يتفشى فيها الفساد، ولكن الفساد فى العراق لا يقتصر على المسئولين فى الحكومة والدوائر التابعة لها ومجلس النواب، بل يمتد ليشمل نسبة كبيرة من أبناء الشعب العراقي نتيجة للتركة الثقيلة التى خلفها الحكم السابق، وإن تخريب أربعين عاما (1963-2003) لا يتم إصلاحه فى بضع سنوات لم يخل منها يوم واحد مر من دون قتل أو تدمير.

المطالبة بالاصلاح والتظاهر من أجل الحصول عليه حق مشروع لكل الشعوب، وقد ضمن الدستور العراقي المعتل ذلك الحق أيضا، ولكن التمادى فى ذلك قد يكون ضرره أكثر من نفعه، فتتأثر الأعمال وتتعطل المواصلات وتزيد البطالة فيخاف المستثمرون ويضطرون الى استثمار أموالهم خارج العراق، ويعزف المستثمرون الأجانب عن الاستثمار فيه. لا ينكر أن الفساد فى الدولة العراقية مستشر ومزمن ولكنه لا يقتصرعلى الحكومة وحدها، بل أنه ينتشر بين أفراد الشعب أيضا. تعالوا نتعرف على بعض من هؤلاء الفاسدين المفسدين:

إنهم من مختلف طبقات الشعب العراقي، بدءا من عامل القمامة (الزبال) والتنظيفات الذى يرفض رفع القمامة من الشوارع إلا بعد استلام رشوة (إكرامية) من اصحاب البيوت على جانبي الشارع. إنه عامل التلفونات الذى يقطع الأسلاك ولا يعيد ربطها إلا بعد استلامه (الاكرامية). إنه موظف البنك الذى يقتطع حصة له من النقود التى يسحبها الزبون من البنك. إنه موزع البريد الذى لا يوصل الرسائل الى أصحابها إلا بعد استلامه (الاكرامية). إنهم أصحاب المعامل الصغيرة فى الدور السكنية الذين يغشون منتجاتهم ومنها الماء المعبأ فى القنانى. إنه الطبيب الذى اغتنم فرصة شحة الأطباء فرفع أجور الفحص وإجراء العمليات الجراحية الى مستوى خيالي واذا راجعه المريض فى المستشفى يطلب منه أن يراجعه فى عيادته. إنها الممرضة التى تطالب ذوي المرضى بالاكرامية حتى وإن لم تقدم أية خدمة للمريض. إنه الصيدلي الذى يبيع الدواء المنتهية صلاحيته. إنه مصلح السيارات الذى يبدل أجزاء من السيارة لا تحتاج الى تبديل. انهم شيوخ العشائر الذين ينصبون انفسهم قضاة يحكمون بين الناس ويقررون كم يدفع الطبيب الذى مات مريضه نتيجة اختلاطات بعد اجراء عملية جرحية لأهل المتوفى وعشيرته.

إنه المعمم الذى وجد فى (مهنة) الدين مكسبا كبيرا وسهلا و خاصة إذا ما خلط بين الدين والسياسة. انهم أئمة المساجد الذين يؤججون الفتنة الطائفية ويحرضون الناس على قتل بعضهم البعض الآخر ناسين الآية الكريمة : (وتعاونوا على البروالتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) و (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وانتم تتلون الكتاب افلا تعقلون).
إنه السياسي الذى لا يهمه الا الحصول على الكرسي وما يتبعه من الجاه والمال ويصول ويجول فى مختلف الدول الأجنبية مستجديا مساعدتها للحصول على الكرسي وإذا لم يحصل عليه يتهم الآخرين بالفساد والعمالة ويتحين كل فرصة لمهاجمة خصومه ويستخف بإنجازاتهم.

انه الموظف المسئول عن التعيينات الذى لا يعين عاملا ولا موظفا ولا جنديا ولا شرطيا بدون أن يستلم (الاكرامية). إنه الموظف الذى يعامل المراجعين بخشونة وفظاظة ناسيا أنه مأجور لخدمتهم. إنه المعلم والاستاذ والبروفيسور الذى يعامل تلامذته طائفيا. إنه موظف الجوازات الذى لا يصدر جوازا إلا بعد استلام (الاكرامية). إنه الجندي أو الشرطي الذى يخلص لطائفته وحزبه قبل وطنه فينفذ من الأوامر ما يتفق مع ميوله الطائفية والحزبية ويهمل غيرها. إنه الذى يهدر الطاقة الكهربائية فى بيته وعمله فيبقى المصابيح الكهربائية مولعة ليل نهار غير مبال بمصلحة الآخرين.
إنه الصحافي المأجور الذى يساعد فى نشر الطائفية ونشر الأكاذيب والاشاعات مع علمه بعدم مصداقيتها. إنه الكاتب الذى يدبج المقالات الكاذبة فيرفع من يشاء ويضع من يشاء دون وازع من أخلاق وتقريع من ضمير. انه التاجر الجشع الذى يستورد البضائع الفاسدة والمنتهية صلاحيتها ويبيعها بأعلى الأسعار. إنهم المنحطون الذين يسمحون بدخول المجرمين من الغرباء لبلدهم العراق ليقتلوا ويدمروا كما يحلو لهم.


للأسف الشديد أن كل هؤلاء الذين ذكرتهم وغيرهم أكثر بكثير ممن ذكرتهم هم عراقيون ويشكلون نسبة كبيرة من أبناء هذا الشعب المبتلى بهم. أنهم لا يتورعون من إغتصاب حقوق مواطنيهم فيزيدون فى تعاسة التعساء وفقر الفقراء وجوع الجياع.

لقد رأينا العجب من رؤسائنا ونوابهم وأعضاء مجلس النواب الذين انتخبناهم، والأحزاب التى تركض وراء مصالحها، ورأينا العجب من اقتتالهم على الكراسي طيلة تسعة أشهر ولا تزال المعارك مستعرة بينهم بالرغم من مشاركة الكل بالحكومة، فنسمع منهم فى كل يوم تهديدات وتوعدات وسباب واتهامات باطلة يوجهونها بعضهم الى البعض الآخر دون حياء ولا خجل وكأنهم تلامذة فى الابتدائية، وانكشف لنا ما كانوا يخفون فى دواخلهم من حب لمصالحهم الخاصة ومصالح المقربين اليهم واستهتارهم بمصالح شعبهم الذى ذاق أنواع المرارات خلال العقود العديدة الماضية. ان الأحزاب التى تقدم مصالحها الخاصة على مصلحة البلد يجب أن تسمى عصابات وليس أحزابا. فالاحزاب الوطنية الحقيقية هى التى تتسابق لخدمة المواطنين لا لسلبهم وهضم حقوقهم.

ومن الضروري ان نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب المسئولين والنواب الذين انتخبناهم، فنحن من جاء بهم وعلينا ان نتحمل اوزارهم ونصبر لحين الانتخابات القادمة، فلا ننتخب الفاسدين منهم مرة اخرى بل نلفظهم لفظ النواة. أما العنف فيجب علينا الابتعاد عنه فالعنف لا يجلب الا العنف، والفوضى لا تجلب الا الفوضى وقد عانينا ولا زلنا نعانى الكثير منها.

وعلى الغافلين من المسئولين ان يفهموا أن للشعوب أنفاسا طويلة ولكنها لا تنسى، والشعوب حليمة ولكن العاقل من يتقى غضب الحليم إذا غضب. والذكي من يتعلم من أخطائه والأذكى منه من يتعلم من أخطاء الآخرين.