أردوغان العائد بقوة الى احداث الشرق الاوسط وتفاعلاته السياسية المضطربة، يحاول جاهدا اعادة امجاد الامبراطورية العثمانية من جديد في زمن يتوهم فيه بأن بشائر تحقيق مثل هذا النصر قد بدأت تلوح في الافق. وهو النصر الذي تبحث عنه تركيا الجديدة لاثبات الذات بعد ان فشلت في تحقيق حلمها بالانضمام الى الاتحاد الاوربي. لذا نجد اردوغان، الذي حاول ان ينفي موضوع البعد العثماني في سياساته تجاه قضايا الشرق الاوسط، يقع بين الحين والاخر في اخطاء تفضح سريرته و طريقة تفكيره ومنها ما قاله مؤخراً حين ذكر quot; ان على الاتراك ان يتبعوا خطى اسلافهم وان يذهبوا الى كل الاماكن التي وطأتها من قبل اقدامهم. اننا نتحرك بذات الروح التي اسهمت في تاسيس الامبراطورية العثمانية quot;. وقد جاءت تلك الكلمات في رد اردوغان على الاسئلة التي طرحتها بعض الاصوات المعارضة في تركيا حول جدوى التوجه والتدخل التركي في غزة وسوريا على وجه التحديد.

الازدواجية التي يعيشها اردوغان هذه الايام تحديدا، تأتي في حقيقتها لتعبر عن اضطراب كبير يعيشه مع حزب العدالة والتنمية بعد ان فشلا معاً بشكل كبير في تحقيق الاهداف التي وضعوها لعثمنة الشرق الاوسط مجددا. ففي غزة اراد اردوغان ان يكون لاعبا في التسوية بين حماس والاسرائيلين، لكنه تفاجأ بان التأثير الذي مارسه الاخوان المسلمون في مصر كان اقوى من ان يتاح له امكانية لعب هذا الدور. لذا لم يسمع الكثير من المراقبين اي اصداء حقيقية للدور التركي في هذه الازمة غير التصريحات التي ذكر فيها اردوغان كلمات لا تميزه كثيرا عن اصدقائه في الرياض او الدوحة، وهنا يكفينا ان نذكر ببعض من تلك العبارات التي رددها اردوغان قائلاً quot; لقد كنت في مصر نهاية الاسبوع، وقد كان ذلك الامر مهما في الوقت الذي كانت فيه اسرائيل تستمر في هجومها الدموي ضد قطاع غزة. ان على العالم ان يتفهم ويفكر بشكل جدي بهذا الهجوم. ان اسرائيل تقوم بشن حملة تطهير عرقي في هذا الاقليم، فهي تحتل التراب الفلسطيني خطوة خطوة. وهو ما يدفع الفلسطينين الى استخدام حقهم في الدفاع عن انفسهم quot;.

لقد كان بأمكان اردوغان وحزبه الحاكم القيام بالعديد من الاجراءات الفعلية واتخاذ الكثير من القرارات الاستراتيجية التي كانت بدورها ستقود الى وقف اجباري للعدوان الاسرائيلي على غزة. ففي الوقت الذي يعلم فيه الجميع باهمية الموقع الجغرافي لتركيا في الاستراتيجية الغربية عموما وفي منظومة حلف الناتو خصوصا، نجد بأن اردوغان لم يخطوا اي خطوة باتجاه تفعيل استخدام مثل هذه الميزة التي كان بامكانها ان تغير المسار الحقيقي لتلك الحرب باتجاه نهاية مبكرة للصراع وعدم اعطاء الفرصة للاخرين في التفكير مجددا بفرضه على الابرياء في غزة. وهو ما يعبر بصدق عن مراوغة الخطاب والفعل السياسي لاردوغان في مجمل المنطقة.

لذا نجد بان زعيم الحزب الجمهوري التركي يعبر عن ازدراءه لهذه الازدواجية المقيتة لدى اردوغان، الذي يَعتبِرُ موقفه موقفا تمثيليا quot; ميكافيلياً quot;، بالقول quot; اذا ما اراد اردوغان فعلا القيام بشيء ما مهم من اجل السكان في غزة، فانه كان بامكانه فعلا القيام بذلك بكل سهولة. فان كان فعلا ضد اسرائيل، فكان حينها يتوجب عليه في مثل هذه الحالة القيام بتعليق النشاطات التي تجري في محطة رادار كورشيك... وتسائل لماذا تم وضع الرادار في هذه المدينة؟، ويجيب بالقول ان السبب وراء ذلك يكمن في حماية الامن الاسرائيلي. ان اردوغان يقوم بمناشدة الجامعة العربية والامم المتحدة للقيام بعمل ما في غزة، في الوقت الذي كان بامكانه هو شخصيا ان يقوم بمثل هذا العمل ويصبح في ظل ذلك مثالا للعالم quot;.

لعل ادراك العديد من الجهات الداعمة لتركيا لحقيقة مثل هذا الدور، هي التي قادت الى تراجع الاراء والاصوات التي اعتادت على تمجيد الفعل السياسي التركي في المنطقة خاصة في تفاعلها مع الحركات الاسلامية في اكثر من مكان وفي اكثر من قضية. حيث يسعى اردوغان دوما الى ابراز نفسه كخليفة جديد لجموع المسلمين في العالم العربي بشكل خاص كما يسعى الى ابراز دوره كمدافع عن قضايا سكان هذه المنطقة ونصرة ابنائها، وهو مايبرر محاولته الاخيرة التضييق على الاعلام التركي من خلال نقده اللاذع لاحد نتاجات الدراما التركية quot; حريم السلطان quot; مهددا بمقاضاة الجهة التي كانت تقف وراء انجاز هذا العمل، لكونها بحسب رأيه تعرض القيم العثمانية للتشويه خاصة وانها تطال الحياة الشخصية لأحد الملوك العثمانيين. في حين يتغاضى اردوغان عن الرد على الرأي الذي تقدم به معارضوه ازاء موقفه الضعيف والماكر في حرب غزة وعدم استخدامه اساليب الضغط الاستراتيجية التي تملكها تركيا لتحقيق دبلوماسية فاعلية في حل الصراع هناك. افلا يعتبر ذلك تشويه لمكانة الدور الذي يمكن لتركيا حقاً لعبه في نصرة المظلومين في هذ المنطقة !.
ازدواجية تركيا تتجاوز غزة هذه المرة بالتعمق نحو المستنقع السوري، اذ ان الاخبار والتقارير تفتضح امر حزب العدالة والتنمية في المشروع الذي يجري تطبيقه في سوريا لاهداف توسعية تتجاوز موضوع الاطاحة بالنظام الحاكم هناك. وهو ما يتناقض بشكل صارخ مع رؤية اردوغان للموقفين في غزة وسوريا حيث يقول quot; لا يمكننا اليوم تطبيق فلسلفة اتاتورك التي تنادي بالسلام في الداخل والسلام في الخارج بطريقة سلبية، اننا لا نطمع بارض اي دولة اخرى في العالم، بل اننا نريد ان يعم الاستقرار في الاقليم بقدر ما نريد بان يعم ذات الاستقرار في بلدنا.

اننا نقف دوما الى جنب الحوار من اجل حل المشكلات... quot;، في حين كانت تركيا من ضمن الدول الاخرى في محورها الاقليمي المعروف تقف بالضد من هذا الحوار ولاتريد اي تسوية للموضوع السوري الا وفقاً لشروطها وقرارتها. وهي بالمقابل تنظر الى الادوار التي يمكن ان تقوم بها الدول الاخرى ومنها ايران وروسيا، على انها نوع من الانتهازية السياسية التي لن تسمح بها تركيا حفاظاً على هيبتها وبحثا عن السلام المنشود في خطابها السياسي والغائب فعلا عن ممارساتها في تلك الازمة.

وفي حال من الامعان في هذه الازدواجية التي يتناقض فيها القول مع الفعل، نجد بان تركيا تستغل حرب غزة الاخيرة لتناشد حلف الاطلسي بنشر صواريخ الباتريوت عند حدودها مع سوريا. وهو ما يقود براي العديد من المهتمين الى تحقيق العديد من الاهداف من بينها طبعا حماية اسرائيل التي تملك معها تركيا حلفا استراتيجيا بعيد المدى لن تؤثر فيه الاحداث العابرة في دافوس او السفينة مرمرة. لذا نجد بان السيد اوغلو و اردوغان اتفقا على هذه الخطوة الخاصة بالصواريخ في عمق ازمة غزة وليس بعيدا عنها، وقد جاء ذلك بكلمات اوغلو ( قبل سفره بيوم الى غزة اثناء الحرب الاخيرة ) الذي قال quot; ان تركيا التي تعد احد اعضاء حلف الناتو ستقدم طلبا رسميا للحلف من اجل نشر صواريخ مضادة لحماية حدودها من سوريا، وهو مايعد اجراءا احترازيا استباقيا للاهداف الدفاعية بشكل خاص. وان الاتصالات الضرورية الخاصة بهذا الهدف مستمرة ووصلت الى مرحلة نهائية quot;.

اردوغان فشل في غزة بفعل خطابه السياسي المفعم بالازدواجية، ففي الوقت الذي كان بامكانه العمل على استخدام مكانة بلاده في حلف الناتو و دورها في الاستراتيجية الامريكية التي لازالت بعد تحتفظ بمواقع ستراتيجية لها في تركيا، نجده يهرب من هذه المسؤولية التي تحتمها عليه رغبته في القيادة والمشاركة في الحلول لمشكلات المنطقة كما يدعي. ليكتفي بدلا من ذلك بالخطابات التي لم تغني السلام بشيء ولم توقف اطلاق النار هناك. كما انه تعمق في هذا السلوك، الذي اثار معارضيه الاتراك بحدة، عبر التوجه الى العمل على عكس ماتمنوه في غزة، وذلك بالاتجاه نحو تقديم طلب رسمي للناتو من اجل عسكرة الحدود الجغرافية مع سوريا لاهداف لا تُستبعد منها حماية اسرائيل المتهمة بأرتكاب الجرائم في غزة، وذلك بدلا من المناورة بورقة وجود تركيا في الناتو وبالدرع الصاروخي الامريكي على اراضيها لانهاء تلك الازمة. موقفان لابد ان الذاكرة التركية ستتوقف عندهما طويلا في الانتخابات القادمة، لانهما يسجلان حجم الاضطراب والتلون في الممارسة السياسية لتركيا الاردوغانية.

كاتب واكاديمي عراقي
[email protected]