دخول التكنولوجيا العصرية على خط التغيير والصراعات السياسية ليس بأمر جديد في إيران. ويكاد يصبح شبه تلازم، هناك، بين التغيير والتكنولوجيا، رغم quot;التوجسquot; التقليدي المعروف، ويا للمفارقات المؤلمة، وانتهازياتها الماكيافيللية، بين الحداثة وأدواتها quot;التكنولوجيةquot;، والقيم المحافظة بشكل عام، ومؤسساتها الكهنوتية التي ترفض الحداثة جملة وتفصيلاً، وتضع حولها الدوائر الحمراء.

فلا زالت المخيـّلة تستحضر، وبكثير من الوضوح الصافي، رغم اكتظاظها بالمدلهمات الكاويات الناسفات، كيف اقتحم آية الله روح الله الموسوي الخميني، عبر الحداثة وآلياتها، والتي كان يقف بالضد، وافتراضياً، من مفاهيمها العامة وثقافتها، عرش الطاووس الشاهنشاهي في أواخر سبعينات القرن الماضي، وقوّض إلى الأبد، ربما، حكم أسرة آل البهلوي، في ثورة تكاد تكون على النمط الغاندي أو البرتقالي والمخملي أو البنفسجي...إلخ، حيث وقف الجيش، يومذاك، موقف المتفرج، لا بل انحصرت مهمته في استقبال quot;قصفquot; الجمهور له بباقات الزهور، بالابتسامات ورد التحيات بأحسن منها، على سنة وهدي الإسلام.

ولعبت الكاسيتات، أو أشرطة التسجيل التقليدية، الدور الرئيس والأكبر، في تلك الثورة عبر إلهاب عواطف الشعب الإيراني ضد الشاه، وإذكاء الروح الدينية في نفس هذا الشعب المحافظ تقليديا، عبر خطب ورسائل مسجلة كانت تجد طريقها، وتتنقل بسهولة وانسياب إلى قلب الشارع الإيراني الثائر اللاهبً الغاضب. واستطاعت تلك quot;الكاسيتاتquot; المهرّبة، والبسيطة، أن تجمع خلفها الملايين من المحتجين ضد سياسات الشاه، وعاش الشعب الإيراني حقبة زاهية من التحدي لسلطة الشاه، والترقب لما يحمله كاسيت وآخر، من نوفل لوشاتو الضاحية الباريسية، حيث كان الإمام الخميني يقيم مع مجموعة من أرفع مساعديه البارزين. ولم تستطع السافاك، الجهاز الأمني الإخطبوطي الإيراني في ذلك الحين، وبكل قوتها، وبطشها المعهود، أن توقف quot;زحفquot; الكاسيتات باتجاه مختلف المدن والبلدات والقرى الإيرانية، والتي كانت تتلى في المساجد بمشاعر حماسية ترافقها طقوس حسينية. وأجبرت المظاهرات الصاخبة التي كانت الكاسيتات وقودها الروحي في النهاية، الشاه محمد رضا بهلوي، على الهرب، على quot;أولquot; طائرة قاصداً ميمماً شطر صديقه المصري، الرئيس المؤمن، محمد أنور السادات، وبقية quot;الحتوتةquot;، الإيرانية معروفة.

ويأبى التاريخ إلا أن يعيد نفسه، في المرة الأولى، وكما قال ماركس في أحد تعليقاته على هيغل، على شكل مأساة، وفي المرة الثانية، على شكل، ملهاة، ولكن، في هذه المرة، الحالة الإيرانية، وهي من المرات الكثيرة، التي لم تصدق فيها النبوءات الماركسية، حيث بات الطابع الملهاوي يغلب على التاريخ الإنساني، ككل، بسبب إصرار الإنسان على عناده، ورفضه التعلم من عبر التاريخ، وحكم وأحداث الزمان.

ويظهر اليوم quot;سلاحquot; الموبايلات، كواحد من أقوى الأسلحة المؤثرة في المواجهات الدائرة، بين قوات النظام، والمحتجين على نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والذي على ما يبدو، لم يحسب له أحد أي حساب، قبل الآن، وهذه لعمري واحدة أخرى من الدلائل على حيوية إيران. ويكاد هذا السلاح الفتاك، يحرج كثيرين، في دوائر القرار العليا الإيرانية، ويحبط الكثير من الجهود الرامية للتعتيم الرسمي الممنهج على الأحداث، أولاً، ويحبط أية محاولة لشن هجوم مضاد يفضي لقمع شامل لحركة الاحتجاج. والخوف من سلاح الموبايل هذا من أن ينقل للعالم التفاصيل المملة، والصور المعبرة، التي لا ترضي مشاهدتها أحداً، لا داخل إيران، ولا خارجها. والمتابع لتطورات الحدث الإيراني، يدرك جيداً، ما تفعله هذه الموبايلات اليوم، رغم تركيزها وتكثيفها الشديد وربما توجهها ونمطيتها الأحادية، ناهيك عمن يكون وراءها، من أثر في قولبة رأي عام يساهم في تبني مواقف قد لا تصب في طواحين النسق الملي المحافظ الذي يقبض على مفاصل المشهد الإيراني.

ويمكن لنا، أن نستعير، هنا، من الماركسية أيضاً، نذراً من مقولاتها، وربما تصدق ها هنا، والقائلة، بأنه كلما تطورت أساليب القمع، كلما استـُنبطت آليات جديدة للمقاومة والرفض والاحتجاج والنضال. ولاشيء يرعب الجميع اليوم مثل سلاح الإعلام، الذي بات خارج حدود السيطرة، تماماً. إنه سلاح وواقع قائم، وقد يكون من الصعب جداً، هزيمته، أو حتى تهميشه، والتقليل من شأنه، وباستطاعته اختراق حتى تلك الحصون التي ضربت حولها هالات من التقديس، والمحرمات.

وإذا كانت الكاسيتات سبباً في انتصار الثورة الإسلامية وتأسيس أول جمهورية إسلامية في التاريخ، فهل تكون الموبايلات، كآليات حداثية، حاول الملالي جاهدين إبعاد خطرها quot;المدمـّرquot; عن إيران، السبب في تقويض أسس وركائز ذات الثورة التي صنعتها كاسيتات آية الله الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية الأولى؟ وهل تفلح موبايلات الشباب في تقويض ما بنته سابقاً، كاسيتات الخميني، لتنبئ فعلاً بظهور عصر الإعلام الجماهيري الحقيقي الذي يقبض عليه، ويحركه العوام، ويسقط الأنظمة، ويصنع التاريخ، ويلهم الناس؟

لا شك، أن إيران جديدة ستنبثق، هذه المرة، من رحم إيران الثورة الخمينية، وبعد كل ما حصل ويحصل من تطورات. إيران مختلفة كلياً عما كانت عليه قبل الثاني عشر من يونيو/ حزيران 2009، والسبب، ربما، نقول ربما، يكون، هذه المرة أيضاً، سلاح الموبايلات.

نضال نعيسة