الفصل السادس من كتاب (صوت سنبلة قمح لم تولد)
مجانين الملك
الملك: أيها الوزير، هات قائمة بأسماء جميع المجانين في البلاد.
الوزير: أمرك يا صاحب الجلالة.
.............
الوزير: {بعد ثلاثة أيام} هذه قائمة بأسماء جميع المجانين في مملكتك يا صاحب الجلالة.
الملك: {مصعوقاً} ولكن لماذا وضعت اسمي في أول القائمة؟
الوزير: لأنك يا صاحب الجلالة أعطيت الأغراب الذين استقبلتهم نهار الأمس، ذهباً كثيراً.
الملك: {بعصبية} تبّاً لك أيها الأبله، هؤلاء تجّار ماشية وسوف يجلبون لي أبقاراً كثيرة، كثيرة.
الوزير: حين يعودون بالأبقار، الأبقار الكثيرة. سوف أشطب اسم جلالتك وأضع أسماءهم.

تأطير الحقيقة
لا الملحد ملحد، ولا المؤمن مؤمن. الاثنان ينطلقان من حقيقة قاصرة ومزعومة. ينطلق الأول من حقيقة كونه ملحد، والآخر ينطلق من حقيقة كونه مؤمن. الاثنان غائبان عن أو لا يمتلكان الوعي بحريتهما. الانطلاق من ايمان بحقيقة مسبقة رعونة وفهلوة. في كل آيديولوجيا وكل دين ومذهب. تتم صياغة الحقيقة المطلقة والبراهين المطلقة منذ البداية وتوضع وتؤطر في اطار، ومن ثم يتم تعليقها في صالة الآديولوجيا وصالة الدين. هنا ليس بوسعنا مواصلة الجدل حول الحقيقة انطلاقاً من مناهجنا الفلسفية والعلمية، ومناهج أولئك الذين نختلف معهم بسبب حنينهم المشبوب الى فكرة الإله الغامضة. المحركات الأساسية للفكر في التاريخ هي تناقضاتنا الدائمة.

الزمن / الحركة
الزمن هو الحركة، وفي الارتباط الوثيق ما بين الحركة والسرعة. تمضي حياة الانسان القصيرة متعثرة وسط الوحدات الزمنية المختلفة. ما يهمني في الجوهر الحقيقي للزمن، بعيداً عن نسبية اينشتاين. هي الديمومة وايمان اسحاق نيوتن الوهمي: {زمن. هو في ذاته. ومن طبيعته الخاصة الذاتية. يجري متدفقاً دون ارتباط ما، أو بلا علاقة مع أيّ شيء خارجي}. نعم. ما يوهمني ويخفف الصدمة القادمة لموتي هو الزمن المطلق. مرات كثيرة شعرت فيها انني عشت في أزمان معينة غير زمني الراهن، وأطمحُ في مواصلة العيش بعد موتي في أزمان أخرى على هذه الأرض أو في عوالم أخرى خارج منظومتنا الشمسية هذه.
اللحظة التي يتوارى فيها الغمام
هنا قبر للزمن / الشجرة
الزمن الشمس
الزمن الصيف
الزمن الجناح
الزمن الخطوة.
هل لي أن أصالح اللحظة؟ هل لي أن أصالحها؟
هل لي أن أصالح المخلب؟
هل لي أن أتمدد في الديمومة مثل كلمة تزن الروح
وتقشر اللحاء؟ الخمود الأجوف يأسر الظهيرة.
هنا وهناك تحتضر النمور والعقبان في الأقفاص.
يسوع المتكىء على خشبة الدرج في بهو الفندق.
الخشبة كانت شجرة في الصيف الماضي. يسوع
يفتح عينيه على ناطحات السحاب التي يغطيها الدخان
وما بين اللحظة واللحظة يضمّد جروحه التي تلتئم ولا
تلتئم. هل هي القيود التي يأوي اليها الخفّاش؟ أين محطم
عظام الموتى الذي يقف متجلياً بين الماهية والحركة؟
أين كريشنا الذي يعود من الكهف بشذرات من رؤى محطمة؟
أين اللبوءة التي تلد في برميل النفاية تم تلعق موتها؟
أين الملك الهرم بوجهه المتغضن الذي يعشش فيه البوم؟
على حطام الزمن. شيوخ أطفال يرضعون، والزمن يتقدم
والريح تعصف قبل الميلاد وبعده، ضجرة في كهفها العميق.
اللحظة والظلام. اللحظة التي يتوارى فيها الغمام.
هل تسترجع اللحظة نفسها عند الشروق؟
هل يصارع النور الظلمة ليظل حيّاً في ماهو حيّ؟
هل يوصلنا اختراق السرّ، اذا عبرنا هذه المتاهة المظلمة
الى شرارة اللامتناهي؟ أشرعة الصيرورة تتأرجح معلقة ما بين
الديمومة والهاوية. ينبغي أن نظل أطفالاً ونحيا في الماضي.
من أجل أن تبقى الشمس تسطع دائماً على السنبلة. من أجل
أن لا يذبل قرنفل النجمة بسرعة. من أجل أن لا يتعفن الينبوع
في حديقة العقيق.كلما ماتت حشرة. غصن. ابتسامة، أو كلما
سقطت دقيقة من لبلاب الوقت. انتحرت الطبيعة وتكشفت
هشاشة الانسان. نبتة المستقبل السامة، تكبر كلما تقدمنا صوبها.
لا نصر ولا وعد.

فكرة الإله
تظهر فكرة الإله في المفاهيم الميثولوجية لكل دين، متعدية دائماً وغير ملموسة لكل واقع أرضي، وبما أن الذين صاغوا هذه الفكرة وأرادوا من خلالها أن تكون خالية من أيّ فعل انساني، فأن قضايا المادة والتاريخ والزمن والبرهان بحمولاتها المعرفية. تظل معدومة في هذه الانحرافات التي يخلقها العقل الميثولوجي الذي هو نتاج حضارة فلاحين ورعاة غنم. {الملموس متميز في ذاته، لكنه أولاً في ذاته فقط، حسب الاستعداد. القدرة. الامكان} هكذا يقول هيجل في {محاضرات في تاريخ الفلسفة}.

توالد الأديان
في الديانة البوذية التي ترفض أن يكون للآنية جوهر. تظل الولادة الداخلية من خلال دوران النور عند الشخص البوذي المؤمن والسمو الروحي لبلوغ النرفانا هما الهدف الأسمى في الحياة، عبر تعاليم عديدة ستأخذ الديانة المسيحية منها الكثير من الطقوس والمفاهيم. من أين جاءت المسيحية في الكثير من أفكار وطقوس البوذية؟ من الزرادشتية التي كانت معابدها تنتشر في الهند والصين ابان ظهور المسيحية، وستأخذ الديانة الاسلامية أيضاً الكثير من المفاهيم والطقوس من الزرادشتية ومنها الخير والشر والصلوات الخمس في كل يوم وغيرها من الأشياء.

لقاء بوذا
في خروجه الأخير من القصر المترف وحيداً، بحثاً عن التقشفات والتأملات تحت شجرة التين ndash; الحكمة. من أجل التيقظات واستناراتها العظيمة. علّمني أن الآلهة لا قدرة لها على تغيير الانفجارات والخمودات في الطبيعة. تحت شجرة التين، سمع الصوت العظيم {في العالم أيها الناسك، هناك الكثير من العدالة، وفي الحياة ميزان ذهبي. حاول الحصول عليه دائماً}. تسربلتُ بنوره الذي ملأ العالم وفتحتُ عينيّ، ورأيت مجده الآتي من العلاء، وحين أردت الذهاب الى الفرات لأتطهر من خطاياي. قال لي {استحم هنا. لا تذهب الى الفرات. كن رحيماً بالكائنات كلها، واذا لم تنطق كذباً ولم تقتل روحاً ولم تأخذ مالم يعط لك، وعشت متأملاً في أرض انكارك ذاتك للّذات. ما جدوى الذهاب الى الفرات؟ احفظ هذه الوصايا وستكون لك عندئذ كل قطرة مطر الفرات}.

حشرات وزواحف

كان هاجس الموت عند الشاعر الانكليزي الميتافيزيقي جون دن، يشكل على الرغم من ايمانه العميق مشكلة عميقة عنده وتثقل كاهله في كل أيام حياته، وكان يعتقد أن موت أيّ انسان في مكان ما من العالم يعني موته هو. أمّا غوته الذي كان لا يقل رعباً عنه في مشكلة الموت، فقد أعتقد خاطئاً أن موت البشرية ما هو إلاّ {حيلة الطبيعة} في الحفاظ على نفسها. نحن نعلم أن الحفاظ على النوع لا الفرد الواحد في مسألة الموت. لا يجعل الطبيعة تلجأ من أجل حماية نفسها الى الحيلة. {لماذا خلقنا أناساً، مادام موتنا سيكون موت حيوان؟} قال الشاعر الشيلي نيكانور بارا. موت الانسان والحيوان وموت كل الأشياء في العالم هو السمة البارزة لتجدد الحياة واستمراريتها. الموت ولادة أخرى. في الماضي كنت أرثي لمصائر البشر على هذه الأرض بسبب الموت وبسبب لا جدوى الحياة وعبثها. الآن توصلت الى حقيقة أن الحياة تستحق أن تعاش حسب الرغبات الابيقورية حتى النهاية، أمّا موتنا فهو شيء تافه ولا يجب أن نشعر بالحسرة والخوف منه طالما اننا لسنا سوى حشرات وزواحف تدب على الأرض.
الوقت يتحرك كمياه ساقية راكدة
الأردن ndash; عمّان
16 / 10 / 1998
أخي وصديقي الطيب نصيف بن ثجيل.
أصافحك بحرارة وأسأل الله أن يشملك بظل من رعايته ولطفه. واضح انك لم تزل رهين المحابس الثلاثة. الفقر والسكر والصعلكة. متى تراجع نفسك؟ متى تقرأ؟ متى تكتب؟ لستُ واعظاً ولا أحبّ من يعظ وينصح. انما هي كلمات طالما قلناها لك. تشكو الافلاس الأبدي وكأنك في {بيت الصفيح}. لماذا توزع جسمك بين جسوم كثيرة؟ تأخذ راتبك الى أقرب مخزن أو مطعم وتنفقه على رفاق ليلة سرعان ما يتفرقون عنك. تاركين اياك لجيبك الفارغ وفوضاك ووحشتك. حبذا لو صرفت نصف الراتب على صديقة لك. حبذا لو تذكرت أهلك بشيء منه. لا جدوى من الحديث مع مجنون أو مخبول مثلك. لقد انقضى زمن الطيبة والكرم. يأكلون زادك وينفضّون عنك دون أن يتذكرك أحد منهم بكلمة خير. لا فائدة من الكلام معك. أنا الآن وحيد وحدة مطلقة. لا أرى أحداً. لا أفكر بلقاء أحد. لا اتذكر أحداً. الأفق مظلم بهيم. كنّا في وداع هادي. لم اشأ الحضور إلاّ أن الدكتور خالد السلطاني أصرّ، فلبثنا ساعة. ترك هادي كآبة في النفس مثلما تركتها أنت. غير أنّي سعيد برحيلكما الى اوروبا الحسناء. ما الذي يصنعه الشاعر متسكعاً تحت أشجار الأرصفة دونما حديقة؟ حبذا الرحيل في مركب أبيض الى أيما ساحل يضيء حاناته. حبذا الجلوس مع الصبايا في البارات. قُتل لوركا وارتحل الغجر تحت الزوابع الممطرة. الوقت يتحرك كمياه ساقية راكدة، غير أن القدح سيرّن وتقدح المجرّات باشاراتها الضوئية. هل تتجمع الثقوب الكونية السوداء على حياة قادمة. تحياتي الى أمل،عسى أن تلتقيها يا عاشقاً في معطف مستهلك. ليكن شعارك: أمل أو الموت بدلاً من: الحرية أو الموت. (
أخوك حسب الشيخ جعفر16 / 10 / 1998 )

سأموت تحت أعلى نجمة في جبينكِ

جنرالات الحرب وضعوا أسلحتهم فوق المرحاض وذهبوا الى النوم. خطط الحرب تدور حول نصيف الناصري، الشاعر السكران في حانة سويدية. على الجانب الآخر من العالم. أعياد كبيرة بوسعها أن تجعل الظهيرة المضطرمة أكثر نعومة من القطن. انها الحرب تحاول تدمير رغبتك وصحوك.
فوق مآذن بغداد تطير حمامة
شقراء جداً
سوداء جداً
أيتها الحرب
أيتها الحرب
قلبي انصدع
قلبي انصدع
حبيبتي الحمامة
حبيبتي الحمامة.
كما في قصيدة لأحمد شوقي {شيّعتُ أحلامي بقلب باكِ}
ذهبتُ الى الحانة مفلساً. سكرتُ وعربدتُ وحين أمروني
بدفع الحساب. انسسلتُ كالصل من الشباكِ.
كانت الحانة مكتظة بالبحارة والأرامل وحيوانات السيرك
وفي الخارج يتعثر القمر في الثلوج / وفوق أمواج البحر
القريب تطفو ساعات الذين عبروا ولم يخلفوا ندوباً.
هل يمكننا اعطاء فكرة ولو غامضة عن كوننا سنرحل نحن أيضاً؟
العالم صامت في ظلمة الصقيع، ونحن أنفسنا نلتحف الصمت
ولا نرغب في أن نفتح جرحاً، حتى بعد لقاء في حلم مع طاغية
حتى بعد تذكر أطفالنا الذين قتلوا. بعد سنوات التقيتكِ بمحاذاة
شجرة الحناء في أرض الحلم. كلماتكِ الغريبة التي اقتلعتها أنهار
القرون التي ذهبت لتنام. تحطمت بلا ضوضاء، وأغنيتكِ ذات
الأحراش الزمردية. يبست في الينبوع، بين ذراعيّ ناره الزرقاوين.
قلتُ لكِ سأموت تحت أعلى نجمة في جبينكِ، وبكيتُ طوال الصيف
في {الناصرية}. بكت معي الأشجار والأحلام حتى تبللت أهدابها
وها انني الآن، أتقدم جريح القدمين صوب سهرات حدائقكِ المتألمة
لا ينعس حبي في النسيم ولا في الحجر. الآن ndash; انتهى كل شيء
والطيور رحلت، وأضواء حبكِ أخفاها الغياب، وأحاطت بي سياجات
الوحشة. هذا القنديل المضمّد والمعلق فوق الأسلاك الشائكة. هو كل
ما تبقى من شفاعتكِ. يسهر ويتململ في سرير المنفى. العاشق وضعه
هناك. تائهاً بين عقيق الأيام ووميض أعمدتها المتصدعة. راكضاً صوب
السهاد. يخضرّ السأم ويعين السطوة عليّ. أختبيء في ساق نبتة وأعدُّ
براكين حياتي المشدودة الى الطمأنينة. في الحرب أطلقت النار على طوابع
الربيع وأسرار النار وكركرات الأطفال وقبلة العاشقة، ومستشفيات الشمس
وفي الحبّ. كنتُ أغار اذا انحرفت الأنهار باتجاه الصحراء، ولا أبكي اذا
الأرض المزدوجة للألم صعدت صوب اليد أو الرقبة، وفي الموت الذي
يحفر في ليل العظم. أضعتُ إلهي بين أغصان المدافع الرشّاشة. قمتُ
برحلات تتحرك معي السنابل والعصافير. شعوب كثيرة أيضاً عبرت الجبال
والبحار باتجاه المنفى. طبعت أسلحتها غبطة، وحيرتها مشاعل. في حرير
الفجر. بمحاذاة عظاية تنحني متمتمة أمام رمل اسرارها، ونمور حياتي
الماضية تقتسم صمت الليل وطرائد الحقد والضغينة. سأترقبُ الملاك /
القذيفة، ثم أموت لأراه في انعكاسات اللاوعي المفعمة في تمددها. الأدغال
الكثيفة لشاهدة الحبّ / الحرب. منحوتة في شقوق الزمان ومغطاة بغبار الذكرى
هل نموت بالقرب من كوكب الأغلال، أم نحيا في فضاءات اللاعدالة؟
كلما ماتت امرأة أحببتها. تفتش عنها في كل كهوف العالم، لكنك في
ذروة لا يقينك. تعود ومعك دولة، وكصياد متهرىء الأسمال، تعبر النهر
وتنسى الغنيمة. لا شيء يطفىء رغبتك ويأسك. ستظل منبطحاً في صبّار
الليل تنتظر شرارة الهاوية. تدفن الرغبة باندفاعاتها العظيمة نفسها في شوك
نعاسك، وتتنهد كشجرة محمّلة بالصخور، في حديقة النجمة واغماضة البركان
ريح السموم فوق شفتيك تترقب انغلاق الأنغام.

الشاعر يعشق الخليفة
يروي أحد رواة شعر أبي نؤاس وأظنه أبو هفان أن الخليفة محمد الأمين سادس خلفاء بني العباس الذي كان لا ينشط الى الشراب اذا كان عنده خمار. نشط في صباح يوم ما وأمر أن يحضروا له أبي نؤاس الذي يعشقه في السرّ. حضر وراح يشرب الخمر مع الخليفة الذي كان يضعه في السجن أحياناً دفعاً للشبهات. حين سكّر الخليفة جداً. تعرى إلاّ من لباسه الداخلي الحريري وراح يسبح في بركة قصره. أبو نؤاس الذي يهيم في محبته، راح ينظر الى مؤخرته التي تغطيها الغلالة الحريرية. بعد هذه الاصبوحة الخمرية قال لراويته {ويلك. رأيتها ورأيت بلية لا تطاق} وأملى عليه هذه الأبيات:
أنّي لَصَبٌ، ولا أقول بمَن أخاف من لا يخاف من أحد
اذا تفكرت في هواي له مسستُ رأسي هل طار عن جسدي؟
أنّي على ما ذكرتُ من فرق لا آمل أن أناله بيدي.
حين انتشرت وتلقفها الناس. بدأت مخابرات الخليفة البحث عن الشاعر العاشق في كل ولايات الخلافة، لكنه ظل متوارياً في مكان ما إلاّ أن قُتل الخليفة في حربه مع أخيه المأمون. بعد قتله في الفتنة التي أحرقت بغداد وهزّت أركان الخلافة. كان العاشق متوجعاً جداً ورثى حبيبه في هذه الأبيات والأبيات التي تليها:
طوى الموت ما بيني وبين محمد وليس لما تطوي المنية ناشرُ
فلا وصل إلاّ عبرة تستديمها أحاديث نفس مالها الدهر ذاكر
وكنتُ عليه أحذر الموت وحده فلم يبق لي شيء عليه أحاذر
لئن عمَرَت دورٌ بمن لا أودّهُ فقد عَمَرَت ممن أُحبُّ المقابر.
**** ****
أيا أمين الله من للندى وعصمة الضعفى، وفكّ الأسير
خلفتنا بعدكَ نبكي على دنياك والدين بدمع غزير
يا وحشتا بعدك، ماذا بنا أحلّ من ضنكٍ صروف الدهور
لا خير للأحياء في عيشهم بعدكَ، والزلفى لأهل القبور.

حسرة
ما أقسى أن تعيش في مدينة تخلو من صديق يعشق الشراب.

مكاتب الأمن في الدوائر
كان نظام صدام حسين قد أنشأ في كل دوائر الدولة والمعاهد والكليات ووحدات الجيش، مكاتب تابعة لدائرة الأمن العامة. مهمة هذه المكاتب هي التحري وتفتيش الأشخاص ورفع التقارير عن اتجاهاتهم وأحاديثهم واحصاء حركاتهم وسكناتهم. في الجيش وفيالقه السبعة، لم يكتف نظام الطغيان بمهمات دائرة الاستخبارات العسكرية في رصدها لتنفسات وكلام كل جندي وضابط، بل أنشأ مكاتب في كل فوج ووحدة عسكرية مهما كانت صغيرة. في كلية ومعهد الفنون الجميلة وكلية الآداب وكلية الطب ووالخ. كانت هناك مكاتب للأمن. في هروباتي المتكررة من الخدمة العسكرية، كنت أذهب للقاء أصدقائي الشعراء والكتّاب والذين هم طلبة في الكليات والمعاهد، لكن المشكلة تكمن في سؤال الأمن بمبنى استعلامات كل مكان أروم الدخول اليه ومطالبتهم اياي باظهار بطاقة الهوية والغرض من الزيارة ومدى معرفتي بالأشخاص الذين أرغب في زيارتهم. كنت أزوّر في كل هروب نماذج الاجازة الدورية ولا أذهب الى مكان معين أكثر من مرة خلال مدة الشهر. كانت كلية ومعهد الفنون الجميلة هما ما أذهب اليهما دائماً. في المعهد كان يدير مكتب الأمن شخص طيب يحب الشراب اليومي وخصوصاً في ساعات الظهيرة. حاولت كسبه والتعرف اليه من خلال بعض الأصدقاء الذين يدرسون هناك من أجل أن أتمكن من الدخول من دون تفتيش وسؤال واظهار بطاقة الهوية. تقع جوار المعهد حانة {صوفر} وهي حانة جميلة في بداية شارع المنصور. كنت أستلم راتبي من وزارة النفط في هروبي من الخدمة العسكرية وكان أغلب أصدقائي الطلبة لا يتقاضون أيّ راتب باستثناء أولئك الذين قدموا من المحافظات ويسكنون في الأقسام الداخلية حيث تعطى اليهم مبالغ ضئيلة جداً. تعرفت على أبو سمير مسؤول الأمن من خلال الفنان ومدرس البانتومايم في المعهد عدنان النعمة الذي غيّبه نظام صدام بعد انتفاضة عام 1996 والفنان علي منشد والفنان عباس علي باهض. كنت أدعوهم في بعض الأحيان الى تلك الحانة ومعهم أبو سمير الذي كنت أهديه الكتب ولا أبخل عليه في أيّ شيء يطلبه من أجل كسب وده. مرات كثيرة في التجليات العظيمة للسكر يخبره علي منشد أو عدنان النعمة انني هارب من الجيش ونماذج اجازاتي مزوّرة. هو لا يكترث طالما الشراب على حسابي. بعد شهور راح يقرأ الكتب الأدبية ويشاهد العروض المسرحية التجريبية التي يقدمها الطلبة على المسرح الدوّار في المعهد، ويكتب الشعر الشعبي. كانت كل قراءة شعرية تُقدم في مناسبة ما بالمعهد. يكون أبو سمير أول من يقرأ فيها قصائده الشعبية. بعد أن صار شاعراً نحريراً، امتلأت حدائق ونادي معهد الفنون بالشعراء والفنانين الهاربين من الخدمة العسكرية.

دعوة الى محاكمة قتلة زعماء الأحزاب العربية
أتاحت لي فرصة مشاهدة السيدة غودرون شيمان الزعيمة السابقة لحزب اليسار السويدي {الحزب الشيوعي} سابقاً عن كثب واللقاء بها وهي تقف في ساحة الخضار {مولفون توريَت} في مدينة مالمو ممسكة بمايكرفون من دون رجال حماية ومعها حفيدتها وشاب مسؤول عن أجهزة الصوت. التفكير في الدعوة الى محاكمة قتلة زعماء أحزابنا العربية. السيدة غودرون كانت تطرح برامج سياسات بديلة عن تلك البرامج التي تطبقها الحكومة السويدية اليمينية الراهنة، ولا أحد يتعرض لها أو يحاول زجّها في السجن. عام 1949 تم اعدام انطون سعادة زعيم الحزب القومي الاجتماعي السوري بتهمة {الشوفينية والفاشية ومعاداة القومية العربية} وبقيت جريمة اعدامه من دون محاكمة، وفي عام 1971 أعدم الرئيس السوداني جعفر نميري زعيم الحزب السوداني عبد الخالق محجوب ورفاقه بعد أن راح يقوم بمحاولات لتحطيم الحزب وكسر شوكته المتنامية بين صفوف الجماهير، ولم تتم محاكمته على جريمته المخزية، وقبلها بعد الانقلاب الأسود الذي قام به حزب البعث بالعراق. أعدم زعيم الحزب الشيوعي العراقي سلام عادل من قبل قادة الانقلاب الفاشي ولم تتم محاكمة أيّ أحد منهم. أما مؤسس حزب الدعوة العراقي السيد محمد باقر الصدر فقد أعدمه صدام حسين عام 1980 بعدما طلب منه أن يصدر أوامره بتأييد حزب البعث وحلّ حزب الدعوة، وفي اليمن الجنوبي قام رئيس الجمهورية والأمين العام للحزب الاشتراكي علي ناصر محمد عام 1986 باعدام خصمه السياسي ومنظرّ الحزب عبد الفتاح اسماعيل لتندلع الأحداث الدامية ويهرب الى سوريا. الغريب في أمر هذا الرئيس القاتل والهارب هو أن الشاعر الثوري سعدي يوسف كان قد أهدى له 27 قصيدة في مجموعته {يوميات الجنوب. يوميات الجنون}. {تنفست هواء زيارة لي، استمرت شهراً في عدن، بدعوة من الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني، الرفيق علي ناصر محمد}. يرأس هذا الرئيس... الآن {المركز العربي للدراسات الاستراتيجية} في دمشق ولا ندري أيّة دراسات ستراتيجية هذه التي يقدمها مركزه المزعومز. هل حان الوقت الآن لمحاكمة هؤلاء الفاشست لينالوا الجزاء العادل جراء ما اقترفوه من جرائم مخزية؟

استيفاء اجور اطلاقات الرصاص على المعارض السياسي من أهله

كان العراق في عهد الطاغية صدام حسين. هو الدولة الوحيدة في العالم التي كانت تستوفي ثمن اطلاقات الرصاص ال 30 التي تطلق على المعارض السياسي من أهله بعد أن تحكم باعدامه محكمةالثورة. بعد الأعدام وقبض ثمن الاطلاقات البالغ 30 ديناراً. يتم تسليم جثة الشخص المعدوم الى ذويه مع أمر صارم بعدم اقامة مجلس العزاء. على الرغم من وحشية وفظاعة هذا الفعل اللاانساني. يبقى انه أفضل من اعدام أولئك الأشخاص الذين أعدموا ودفنوا بمقابر جماعية سرّية من دون تبليغ أهلهم. هناك الآلاف من الشباب العراقيين الذين اختطفتهم دوريات مديرية الأمن العامة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي من مراكز عملهم وكلياتهم ومن الشوارع والأسواق والمساجد، ولم تعرف مصائرهم الى أن سقط نظام الطغيان. كثيرة هي مقابرنا الجماعية وكبيرة مصائبنا.

شعارات
من المآسي التي حدثت في وحدتي في تلك الفترة التي أتحدث عنها، هي قصة جندي كان هارباً من الخدمة العسكرية طوال ثلاثة أعوام والتحق بوحدتنا في العفو، و كان يدعى شمعون من {تلكيف} وقد بلغ به القرف من الشعارات والأناشيد المركزية التي كنٌا نرددها أثناء التدريب حداً لا يطاق، إذ كانت الشعارات والأناشيد البائسة، التي تأتي الى جميع الوحدات العراقية عن طريق دائرة التوجيه السياسي، تدور حول {حيٌاك يا بو حلا} و{طالع لك يا عدوي طالع من كل بيت وحارة وشارع} و{يا خميني وينك وينك بالحربة أقلع عينك} و{صدام عز العرب} و{راية الاسلام العالية} وسواها الكثير. لكي يتخلص شمعون من عذاب الخدمة العسكرية وانتظار التحرك الى {نهر جاسم} قرر أن يشتم صدام حسين أثناء التدريب ليمضي سبع سنوات سجن في سجن {أبو غريب}. كانت عقوبة شتم صدام العلني عام 1987 للجندي هي تشكيل مجلس تحقيقي في استخبارات الفوج أولاً ومن ثم في استخبارات اللواء ويرفع بعد ذلك الى استخبارات الفرقة التي ترفعه الى محكمة عسكرية خاصة، وتقوم المحكمة بعد ذلك باصدار حكمها المقرر وهو السجن سبع سنوات حسب الفقرة كذا وكذا من قانون العقوبات العسكري الذي كان يتبدل بين الحين والحين حسب المزاج الدموي للقائد العام. وفي صباح يوم ما من ذلك العام وحين كنّا نردد الشعارات أثناء المسير في ساحة العرض الصباحي صاح شمعون بأعلى صوته منفرداً عن رهطه: {حيٌاك يا بو خرا حيٌاك يا بو خرا}.. فانهال عليه الضباط ضرباً بالأيدي وركلاً بالأرجل فأدموه، ثم طلبوا من جنود انضباط الفوج وضعه في السجن ليتم تسفيره الى سجن استخبارات الفرقة لتتولى أمره بعد تشكيل المجلس التحقيقي واحالته الى محكمة عسكرية. قال الملازم أول فليح ضابط استخبارات فوجنا: {راح يأكلها القشمر. سبع سنوات سجن. لكن وين؟ ببو غريب. قشمر}. ومن المعلوم أن شتم صدام في ذلك الحين يعد جرأة ما بعدها جرأة. بعد نهاية التدريب في ذلك اليوم دار همس كثير بين الجنود من أن شمعون سيمضي فترة سجنه بعيداً عن الحرب وربما يطلق سراحه من السجن عندما تنتهي الحرب ويعود الى أهله سالماً غانماً. ويبدو أن هذا الفعل الذي قام به الجندي شمعون للتخلص من الخدمة العسكرية قد تكرر ذلك العام في ألوية وأفواج أخرى في جبهات الحرب. ولأننا لا نقرأ {الوقائع العراقية} الصحيفة الحكومية التي تنشر القوانين والمراسيم التي كانت تصدرها الرئاسة فقد أدى تكرار الفعل نفسه من قبل الجندي راهي بعد اسبوعين الى إعدامه في مقر اللواء. أراد راهي التخلص من الخدمة العسكرية فقام بشتم صدام حسين أثناء التدريب أيضاً، تماماً كما فعل شمعون من أجل أن يقضي فترة العقوبة البالغة سبع سنوات في {أبو غريب} بعيداً عن الحرب. ضربه الضباط وأدموه ووضعوه في سجن الفوج بانتظار تشكيل المجلس التحقيقي بغية ارساله الى استخبارات اللواء، وبعد أيام تم تجميع أفواج اللواء الأربعة في {دار السلام} وقامت عناصر استخبارات اللواء باطلاق النار عليه وأعدمته أمام عيوننا حسب القانون الجديد الذي نشر في {الوقائع العراقية} ليكون {عبرة للذين يقومون بهذا العمل}. أما بالنسبة الى شمعون فقد صدر بحقه حكم بالسجن سبعة أعوام من محكمة عسكرية في {الموصل} لأن الفعل الذي قام به كان سبق صدور المرسوم الجديد فذهب مخفوراً الى سجن {أبو غريب}.
تاجر سمك

{كنت اقترب من عامي الثامن عشر وقد وصلتُ الى أوسلو بعد أن درست التمثيل في لندن، وكنت مقتنعة بأنّي بتُّ أعرف تقريباً كل شيء. ولم يخامرني أدنى شك في قدراتي كممثلة. ولكن في أعماقي كنت أشعر بعدم الثقة وبتوق للعودة الى المدرسة في ترونديم، حيث كانت صديقاتي يدرسن عنئذ استعداداً للتقدم لامتحانات الدخول الى الجامعة، ويعشن في طمأنينة المدرسة والدروس والمنزل والأصدقاء. كنت سأعيش وحدي تماماً ولأول مرة في حياتي. كانت لدي شقة مؤلفة من غرفة واحدة ولها مدخل مستقل، وظننت انني سأبدأ العمل في معهد التمثيل. بعد الخضوع لتجربة الاداء حول ndash; جوليت واوفيليا ndash; وقفتُ في الرواق ورحت انتظر صدور لائحة بأسماء الذين سيعيّنون من بين الذين قبلوا. وحين صدرت وقف فتى أخرق طويل الى جانبي وأخذ يقرأ بصوت عال أسماء المختارين، وبينما كنت أشعر بالأمل يتلاشى مني، لأن اسمي لم يكن وارداً. فهمت حين توقف فجأة قبل قراءة آخر اسم. أن اسمه ورد. اكتفى بالابتسام، ومشى بهدوء خارجاً من الغرفة وكأن لا شيء حدث له. ظللتُ سنين عديدة أتابع مسيرة حياته، وكنت آمل أن أجد شيئاً من العدل في هزيمتي من خلال نجاحه هو. الآن هو يعمل تاجر سمك في السويد وقد سمعت انه راض تماماً عن سير أموره. لم يخطر ببالي انه كان هناك عدد من الراسبين في ذلك اليوم، ممن سيغدون رفاق مهنة والذين سأقابلهم بعد ذلك بوقت طويل في حافلة الجولة المسرحية، ونستعيد بخفة حياة الشبان الصغار الذين كناهم ذات يوم ونحن نضحك بدون تحفظ}.
الممثلة النرويجية ليف اولمن. مذكراتها. {أتغير}
موظف حكومي
في الشهر الخامس من عام 1977 حصلتُ على وظيفة في وزارة النفط على الملاك المؤقت. غسيل السيارات وتشحيمها وتبديل الزيوت في محطات تعبئة الوقود ببغداد. {عمري 17 سنة}. كانت قوانين العمل في العراق قبل استلام صدام حسين السلطة، فيها الكثير من الامتيازات المنصفة والحقوق للعمال. {ألغى طاغيتنا بمرسوم جمهوري عام 1986 الطبقة العاملة في العراق واستولى على صناديق الضمان الاجتماعي والتقاعد وكل الحقوق لتمويل حربه مع ايران}. كان قانون العمل آنذاك يلزم أيّ دائرة ووزارة أن تعيّن على الملاك الدائم، الموظف الذي يعمل أكثر من 3 شهور ولا يتم الاستغناء عن خدماته. بعد أن أمضيت أكثر من 3 شهور ولم يتم طردي من وظيفتي. عبرتُ {جسر الشهداء} واتجهت الى {دائرة العمل والضمان الاجتماعي} هناك. كتبتُ عريضة معنونة الى وزير النفط حسب الاجراءات والاصول المعمول بها ودفعت الرسوم {نصف دينار}. بعد شهر صدر أمر وزاري بتعييني على الملاك الدائم. في 5 / 5 / 1979 تم سوقي لاداء الخدمة العسكرية الالزامية. في 5 / 5 / 1991 تم تسريحي بعد شروط وقرارات مجلس الأمن الدولي التي تلزم نظام صدام بتسريح الجيش وخفض اعداده من مليونين الى 100 ألف جندي. عندما عدتُ الى وظيفتي بعد 12 سنة محبطاً ومدمّى في حروب النظام العدوانية. كان الحصار الذي فرض منذ سنتين قد بدأ يطبق على كل شيء في دوائر الصناعة والنفط والزراعة وبقية القطاعات الأخرى. محطات الوقود التي عملت فيها سابقاً شبه معطلة وتشكو النقص الكبير في قطع الغيار، وورش غسيل السيارات وتبديل الدهون تم الغائها. أدخلوني دورة سريعة للعمل في لفّ وتصليح ماتورات الأجهزة الكهربائية. اجتزتها بامتحان. أمام وتيرة الحصار المتسارعة وغلاء الأسعار وتعطل الخدمات. تمت احالتي على التقاعد المبكر شأني شأن غيري. أنهيت معاملة تقاعدي ودمغوها لي بعشرات الأختام وأخذتها الى دائرة التقاعد العامة في منطقة الكرخ. هناك أخبروني أن راتبي هو 224 ديناراً. الآن بعد التقاعد سيصبح 106 دنانير حسب قرار مجلس قيادة الثورة الأخير. يا إلهي. ثمن علبة سكاير عراقية ماركة {سومر} ب 300 ديناراً ورواتب 3 شهور تكفي فقط علبة سكاير واحدة. ما العمل مع قرار مجلس قيادة الثورة الذي أصدره صدام حسين للمتقاعدين من أمثالي؟ سحبت المعاملة وأودعتها أمي منذ ذلك الحين الى الآن. ذهبت سنوات شبابي سدى في حروب الطاغية، وذهبت سنوات وظيفتي الى الجحيم.
زمن الفقاعات
زمن فقاعات
زمن قرود وبول قرود
الكل هنا فقاعة
كل الأشياء فقاعات
المال فقاعة
الشمس فقاعة
الهواء فقاعة
اليد
السطوة
الكلام
القبلة
زمن فقاعات
زمن قرود وبول قرود
الكل هنا قرود.

امتلاك مليون دينار
في عام 1993، أي في السنة الرابعة للحصار الذي فُرض على العراق في أعقاب غزوه للكويت. سقطت العملة العراقية تماماً والتهبت أسعار جميع المواد في الأسواق. كان ثمن البيضة المقلية بالزيت في المطعم 60 ديناراً. سندويشة الفلافل 250 ديناراً. قدح الشاي 50 ديناراً. أغلب الموظفين تركوا وظائفهم بسبب عدم كفاية الراتب لشراء طبق البيض الذي قفز من 600 فلس الى 5000 دينار. الرواتب ظلت على حالها في جميع المؤسسات. كنّا نحن الشعراء والكتّاب نمضي أوقاتنا في مقهى {حسن عجمي} في الثرثرة الفارغة والضجر وانتظار ما لا يجيء. أحياناً يأتي شاعر صديق يعمل في بيع المواد الغذائية أو يتاجر في السيارات أو يسرق أشياء من دائرة عمله ويدفع أثمان أقداح الشاي التي نشربها، والبعض يتكرم علينا بدعوتنا الى سندويشات الفلافل. صديقي الشاعر ستار موزان الذي يعمل في تصريف العملة الأجنبية مع أحد التجار في {شارع النهر}. يأتي بعد الظهر الى المقهى ويدفع عني ما شربت من شاي وفي أغلب الأحيان يدعوني الى مطعم. بعد سيطرة عدي صدام حسين على كل مفاصل التجارة بالعراق، والمضاربات المريبة في النقد الأجنبي. بدأ عمل ستار يتأثر وراح ربّ عمله يماطل في في دفع أجوره. جاء مرة الى المقهى وطلب منّي أن أدفع عنه ثمن الشاي وأن أحاول أن أستلف مبلغ ثمن سندويشة فلافل له لأنه جائع. استطعت تدبير المبلغ واشتريت له الفلافل ودفعت ثمن الشاي. حين همّ بالخروج من المقهى أخبرني انه سيمنحني في اليوم التالي مبلغ 500 ديناراً. شكرته. في اليوم التالي دخل المقهى وهو يحمل على ظهره كيس كبير من القنب {كَونية} مليء بأشياء لا أعرفها. كنت قد شربت أقداحاً كثيرة من الشاي لأنني سأستلم منه ما يفي بحاجتي. {نصيف. أنا آسف، لم استطع تدبير المبلغ الذي وعدتك به}. يا للمصيبة، كيف سأتكمن من تسديد الأقداح التي شربتها. قلت في نفسي. بعد قليل طلب مني أن أحاول تدبير مبلغ له ليشرب الشاي ويأكل الفلافل. أثناء نهوضي قال لي {راح أروح أبول. دير بالك على الكَونية}. راح ستار وفتحت الكَونية. يا إلهي. مليئة حتى رقبتها بأوراق المال. استدنت له من صديق محامي مبلغاً يكفي وجبة غداء فاخرة في المطعم والكثير من أقداح الشاي على أمل أن يمنحني أكثر من المبلغ الذي وعدني به. شكرني جداً وقال {راح أروح للبنك أودع هذه الزبالة التي تعود الى ربّ عملي. مليون دينار، والتقيك غداً} قلت له {ولكن كيف سأسدد الدين وأقداح الشاي الكثيرة التي شربتها. اعطني عشرة آلاف. خمسة. ثلاثة}. {أخ القحبة درهم واحد ما عندي. هذا الخراء يعود الى صاحب العمل واذا تصرفت بدرهم واحد منه، يطردني من العمل}. أخيراً. وافق على أن أحمل الكَونية على ظهري لمدة دقيقة. حملتها وتمشيت ما بين طاولات المقهى ولأول مرة في حياتي شعرت انني امتلكت مليون دينار. حين علم صاحب المقهى بمصيبتي أعفاني من تسديد أثمان الشاي وهو يضحك ويسخر من بلاوي الشعراء والحصار.

يا قوّاد. يا نذل
في سنوات التسعينيات من القرن الماضي كان {تلفزيون الشباب} الذي يمتلكه عدي صدام. يظهر الكثير من المطربين المزعومين الذين كانوا عربنجية وشلايتية في كل آن. هؤلاء صاروا مطربين عبر تسجيلهم لأغنياتهم بعيداً عن التقاليد الفنية والموسيقية بالعراق. لا امتحان لا خبرة لا ثقافة لا صوت جميل. هذا يلحن لهذا ويظهر معه في الفيديو كليب وذاك يلحن لذاك ويظهر... الخ. بعد أن ضجّت الناس منهم ومن سخافات غنائهم، تلقوا تعليمات من عدي والمقربين منه أن يعيدوا تسجيل التراث العراقي الغنائي ويقدموه بصيغ عصرية، وأن يعيدوا غناء مطربينا المعروفين، وبما أن هؤلاء المساكين تنقصهم الخبرات والمعرفة الفنية فقد راحوا يقدمون تراثنا بطرق تشبه النواح والنباح. الناس ضجّت منهم من جديد، ولكن ما الحيلة. بالعراق 3 قنوات تلفزيونية. الأولى تقدم نشرة الأخبار ونشاطات صدام حسين ب 6 ساعات ثم تعقبها برامج عن حياته ونضاله، ثم القرآن الكريم والبرامج الدينية. القناة الثانية تقدم البرامج العلمية ونظريات الرياضيات ألخ. الناس تشاهد تلفزيون الشباب الذي دأب دائماً على تقديم برامج وأفلام تجارية مسروقة ولا يعنى بالأخبار السياسية. نسبة الغناء فيه 97 بالمئة. عام 1993 أقام اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق حفلة ساهرة الى الأعضاء وعوائلهم في حديقة ناديه وشارك فيها مجموعة من المطربين الكبار ومنهم المطرب فاضل عواد. صديقنا الشاعر محمد النصار بعد أن شرب في حانة بالباب الشرقي وجاء الى الحفلة سكراناً، سكر مرة أخرى سكراً شديداً وفاضل يغني أغنيته الشهيرة {لا خبر} ولم يكن رآه من قبل. نهض من مكانه واتجه اليه وصفعه صفعة قوية على خده وراح يوسعه ضرباً، وهو يصرخ وسط دهشة المحتفلين {يا قوّاد. يا نذل. لماذا تشوّه أغنية فاضل عواد. العن أبوك يا حمار. لماذا تشوه غناء فاضل عواد؟}. عاد فاضل الى الغناء وهو ممتن الى النصار الذي أخذته الغيرة على الغناء الأصيل، وظل محمد الى اليوم التالي غير مصدق انه قام بهذا العمل.

رأى منقارا

قال الإمام الشاعر بن نباتة المصري يداعب كبير أنف.
أقبل عند القوم يسألني من أيّ أرضيك نلت ايثارا؟
قلتُ من النيك ما رأى بصري خيراً، ولكن رأيت منقارا.

اطلاق النار على اليد من أجل الخلاص من الموت

سلمت بندقيتي الى مأمور المشجب بموقع أربيل العسكري وأخبرته انني سأهرب من الخدمة العسكرية، حدثني وهو يقدم لي كوب الشاي بأسى عن عشرات الجنود الذين ألحقوا بأنفسهم الأذى، وقال: {ان استخبارات الفيلق ستقوم بعد معالجتهم بايداعهم السجون ومن ثم تحيلهم الى المحاكم العسكرية الخاصة. وعرفت منه أن حالات إيذاء النفس في هذه المعارك كانت متشابهة ومكشوفة في مستشفى أربيل العسكري، قلت له كيف؟ فراح يشرح لي أن الجندي المصاب يتفق مع جندي آخر على أن يطلق النار على يده أو على ساقه من مسافة قريبة ومن ثم يخلي نفسه الى طبابة الميدان ويدعي أنه أصيب بالموضع الدفاعي من قبل الجانب الايراني، وبما أن هذه الحالات كانت متشابهة، فقد قام آمر مستشفى أربيل العسكري بكتابة تقرير الى قيادة الفيلق أوضح فيه أن الأطباء بعد أن قاموا بفحص الإصابات، وجدوا آثار بارود في الأعضاء المصابة وهذا يعني أن عملية اطلاق النار كانت من مسافة قريبة جداً}، وحين هممت أن أنهض قال لي مأمور المشجب كمن يذيع عليّ سراً: {المفروض إذا تمت عملية اطلاق النار من مسافة قريبة، أن يلف الجندي يده أو ساقه بكيس من القنب، حتى لا تظهر آثار البارود، بس هذوله قشامر ربما سيشنقون}.

في ذكرى صديق
يدي التي لم تدشن قبرك
ولم تضع فوقه الزهور
ستبقى تومىء اليك حتى نهاية العالم.