أهو ضرب من السادية، ذلك الذي تمارسه علينا بعض القيادات في فتح وحماس؟ أم هو مجرد تخبط وتضارب وبلبلة وقلة خبرة سياسية وإعلامية؟ ففي كل يوم ثمة سيل من التصريحات، الواحد منها يناقض الآخر: تصريح يجعلك تتعلّق بخيوط الأمل من جديد، وآخر يخسف بك وبآمالك الأرض. الناس تتقّلى فوق النار، وبعض قادة التنظيميْن، يبدون وكأن لا علاقة لهم بالأمر. مرة تصريح من ناصر الدين الشاعر، مخفف وملطف، ومرة تصريح من محمود الزهار أو نزال أو أبو مرزوق، يعيدنا إلى المربع الأول، بمصطلحات السياسة المعاصرة، أو إلى صخرة سيزيف بلغة الأسطورة القديمة. مرة تصريح من أبو مازن، يوقظ مواتنا ويهدهد جراحنا، ومرة تصريح من نبيل عمرو أو عزام الأحمد يودي بكل تطلعاتنا البسيطة إلى الجحيم. كل يوم تصريحات، وكل يوم عذابات وتوهان ولا أدري. حتى فقد الجميع ثقتهم بالجميع. وحتى بات الواحد منا لا يثق بما يقوله هو نفسه، بعد مرور ساعة من خروج كلامه من فيه! لا أحد يعرف، ولا أحد يفهم ماذا يجري بالضبط. أتولد حكومة وحدة أم لا؟ أيُفك الحصار أم لا؟ أتشكّل حكومة كفاءات خدماتية لا سياسية أم لا؟ ففي كل ساعة قول، وفي كل جريدة ورقية وموقع إلكتروني تصريح. فمن نصدّق ومَن نكذّب؟ حالة.. حالة من التيه والتوهان، لم يعرفها شعبنا من قبل. فما من مرة كان أمام ناظريه، كلُ هذا الغموض وكل هذا الضباب. البعض ينحي باللائمة على أبو مازن، والبعض الآخر يجد له العذر، لأنّ الرجل العارف يتعامل مع مادة من الزجاج الهشّ، ويخاف لو اتخذ أية خطوة عاجلة أن يتهشّم الزجاج بين يديه، فيدفع كل الشعب الفلسطيني غالي الثمن. والبعض يلوم على حماس في الأساس، لأنها بتزمتها وجمودها السياسي، لا ترحم ولا تدع غيرها يرحم. أما أنصار حماس، فكل التهم يصبونها على فتح وأنصار فتح: من محمد دحلان إلى عزام الأحمد إلى أبو قريع وانتهاءً بأبو مازن. يجتمعون ويتكلمون في شجون تشكيل الحكومة، ثم ينفضّون لأي سبب ولكل سبب. ذلك أنهم حصروا الحوار الأساسي فيما بينهم ككتلتين كبريين، ونسوا الآخرين. نسوا التنظيمات الأخرى ونسوا المثقفين المستقلين ونسوا مؤسسات المجتمع المدني - على ضعفها وحالتها الجنينية. نسوا أيضاً قطاع رجال الأعمال وقطاع المرأة وشرائح أخرى من المجتمع: أي غيّبوا مَن هم خارجهم، خارج تنظيماتهم، عملاً لا قولاً، فكيف لك أن تثق بمثل هذه الحوارات الضيقة الفئوية حتى ولو كانت تجري بين أكبر فصيلين سياسيْن؟ والخلاصة: إسرائيل هي المستفيدة في جميع الأحوال و شعب التيه الجديد، الذي هو نحن هذه المرة، سيتجرّع مزيداً من بضاعته ذات الماركة المسجلة. وسينتظر طويلاً إن لجأ إلى الصبر، ومريراً إن لجأ إلى عنفه البدائي، فأطلق قواه المكبوتة المضغوطة عالية التوتر في كل اتجاه. إن ما يؤلم حقاً، قول الكثير من عامة الناس، هؤلاء الذين ألتقيهم في وسائل المواصلات، وفي الفضاء العام، بأنه لا حل سوى المواجهة. أية مواجهة! تسألهم فيستغربون براءتك، وغفلتك، بل سذاجتك، ثم يوضحون سريعاً، وبلا وجلٍ وبكل قحّة: المواجهة بين فتح وحماس! بل إن غير قليل منهم يتمنى هذه المواجهة، في دخيلته وعلانيته، وبأسرع وقت، كي لا يطول أمد الانتظار، وبالتالي أمد المعاناة. فهم يرون أنّ الدم والدم وحده هو ضريبة الخروج من النفق المظلم، والدم والدم وحده هو الثمن، ما دام لكل شيء في هذه الدنيا ثمناً. منطق مرعب ومقزز ومجنون. منطق مريض ووعي مضروب يحتاج صاحبه وحاملهُ إلى الجلوس على سرير فرويد أو أريكة يونغ، والأدهى أنه ينتشر بين الناس، ليس فقط الغوغاء منهم، وإنما أيضاً في أوساط بعض السياسيين والمثقفين: بعض الكوادر والقيادات من النُخب العليا. لكنه كذلك، منطق يمكن تفهّم بعض أسبابه. فالناس ملّت وطهقت. وتريد تغييراً ولو إلى الأسوأ. فمن المحال الاستمرار في هذا الموات والجمود إلى شهور طويلة أخرى. إنه ضغط الحاجة وضيق العيش وانغلاق السُبل. فهل يستوعب خالد مشعل معاني ومغازي هذه الأطروحات الشاذة، لكن الرائجة بين عموم الناس، حتى من خارج التنظيميْن الكبيريْن؟ وهل يستبصر دلالات هذه الرؤى الناعقة الخطيرة؟ ولا مرة كان الشعب الفلسطيني بمثل هذه الحيرة وهذا الاستعداد لتوقع أسوأ الاحتمالات وارتكاب أسوأ الحماقات. ولا مرة كان بمثل هذا التوهان. ولا مرة كان بمثل هذه النوستالجيا إلى سنوات الاحتلال الغاربة. لقد قلنا وقال غيرنا، للمرة المليون ربما، أنّ القائد الحق هو من يدوس على نفسه وعلى مصالح حزبه من أجل مصالح شعبه، لا من يدوس على شعبه من أجل مصالحه هو. واليوم نقولها بالفم الملآن، ونحن في غاية الحرقة والأسف والمرارة: إنه لا قادة لدى الشعب الفلسطيني، على مستوى معاناته ومأساته. لا قادة، ولا أنصاف قادة. لقد فشل شعبنا في إنجابهم منذ قرن وحتى اللحظة: في إنجاب القادة الذين يضعون مصالح الوطن العليا فوق مصالحهم الحزبية والفئوية. وإلا ما هذا الذي يحدث؟ نحن في واد وكل قادتنا، وعلى وجه التخصيص، في فتح وحماس، في واد آخر. هذا يختلف مع ذاك على مطلب هنا وتحقيق رغبة هناك. هذا يريد سفيراً أو محافظاً هنا وذاك يريد وزيراً هناك. وكأننا حقاً نمتلك دولة. وكأننا حقاً مستقلون وذوو سيادة. يا للعار! شعبكم يموت مئة مرة كل يوم وأنتم لا تشعرون به ولا تحسّون. يا للعار حقاً! لقد صدّقتم أوهامكم. تاركين شعبكم المعذّب المقهور يتأبّد في عذابه وقهره. حوّلتموه إلى شعب سيزيفي بامتياز. وهذا السبب وحده يكفيكم لكي تسقطوا كلكم من عينه، ولكي تسقطوا عن كراسيكم لو كنتم في بلاد أخرى. كلكم أكنتم في حماس أم فتح، سواء بسواء. لقد انتظرنا المولود قرابة التسعة شهور ولم يشرّف بعد! حكومة فك الحصار وترتيب البيت الداخلي الأشبه ببيت العنكبوت. لكن واأسفاه: ذهب انتظارنا سدى، كما ذهبت تضحياتنا من قبل سدى، بفضل تعنت ودموية إسرائيل من جهة وبفضلكم أنتم كذلك من الجهة الأخرى.
والآن ما هو الحل؟ الحل بنظر الكثير من المراقبين المحايدين، وبنظر العقلاء من أصدقاء قضيتكم على امتداد العالم، وبنظر الأغلب الأعم من شعبكم، هو واحد من اثنيْن: إما الانتهاء من تشكيل هذه الحكومة المعجزة، في أقرب وقت ممكن، أو الذهاب إلى الاستفتاء الشعبي، في أقرب وقت ممكن أيضاً. لا خيارات ولا بدائل أخرى للأسف، اللهم سوى التبالُه والتطنيش ودفن الرأس في الرمل، لكي لا ترى العينان شرارات الكارثة القادمة.
فيا أبو مازن ويا أبو الوليد: يا كل الأبوات المتعددين لهذا الشعب اليتيم المغلوب على أمره: إتقوا ربكم في شعبكم وسارعوا بتشكيل هذه الحكومة وفك قيد العزلة الموحشة عن ناسكم، أو اذهبوا، كما ذهبتم في أول هذه السنة، إلى صندوق الاقتراع أو صندوق الاستفتاء. فلا بد من حلّ، ولا بد من طاقة نور، فالاستمرار على هذا النحو مستحيل ومستحيل.
نقولها لكم بكل أدب واحترام، فيما غيرنا، وما أكثرهم [ معظم الشعب الفلسطيني! ] يقولونها على نحو آخر، لا تسمح بنشره هذه الجريدة المحترمة!
نعم: كفى انتظاراً أبلهَ أو مُتبالِهَ. وكفى لعباً بأعصاب الناس. كفى احتقاراً لمصالحهم، وسَحقاً لآلامهم وآمالهم في عيش كريم.. وكفى تلاعباً بمصائر أبنائهم وبعدالة وجلالة قضيتهم. فقد صرتم عبئاً على شعبكم، وأخوةً أشبه بالأخوة الأعداء له. شعبكم الذي منحكم الشرعيات الدستورية كلها، فمنحتموه الجوع والرغبة حدّ الموت في الهجرة، وترك هذا الوطن لكم ولشعاراتكم الفارغة، تفعلون به ما تشاء لكم الدوغما والتطرف وحسابُ المصالح الحزبية وجلد الذات والاستمتاع بتعذيب ملايين الآخرين!
فكفى وكفى، كفاً عبثاً وكفى تعذيباً لنا ولأعصابنا. فلا خبز ثمة في البيت ولا أمن ثمة في الشارع ولا قدرة ثمة في أغوار الذات حتى على اجتراح الأمل الإنساني البسيط.
لقد عطّلتم حاضرنا وقتلتم مستقبلنا، لقد أفسدتم أجمل ما فينا، أصحّ ما فينا، وهو الأمل. فكيف تنامون على وسائدكم مرتاحين؟ وكيف تستقبلون صباحاتكم وكل مَن حولكم متجهّم وعابس ولا يضحك حتى للرغيف السخن؟ ثم بعد كل هذا المقت، كيف لا تهرب أفواج من شبابنا، كفاءات وملح وروح وريحان هذه الأرض، مبناها ومعناها، إلى أربعة أركان الدنيا، لاهثة وراء فيزا، أو يائسة منها، لتختار المغامرة، وتولّي هاربةً وراء جميع المحيطات وخلف كل البحار؟؟
ارحموا هؤلاء الشباب، وارحموا آباءهم وأمهاتهم، أو فلتذهبوا إلى بيوتكم أشرف لكم وأفضل. فما هكذا تُساس الأمور، وما هكذا تُسيّر مصالح الناس، وما هكذا تكون النخبة السياسية لشعبٍ هو أكثر شعبٍ مغلوباً ومطلوباً.
التعليقات