في الريف العراقي، وربما في عموم الريف العربي، إذا ارتدى المرء بنطلوناً بدلاً من الجلابية، فإنه سيكون موضع استغراب وسخرية من الآخرين، وسيكون هو نفسه في حالة ارتباك دائم، تتبدى في سائر حركاته، لكن الأمر مختلف في الريف الأوروبي مثلاً، ذلك أن عدم الاستغراب والسخرية وعدم الارتباك ناتج من أن زي الأفندية هو ابن الطبيعة الأوروبية، بخلاف الأفندية في الريف العراقي أو العربي إذ يعدّ طارئاً أو غريباً أو منقولاً من بيئة أخرى غير البيئة العربية، ويرمز إلى ثقافة أخرى هي غير الثقافة العربية الإسلامية.
قد يُلقي هذا التشبيه قليلاً من الضوء على مشكلة الديمقراطية في العالم العربي، لكن ينبغي أن لا نختزل المشكلة في هذه المشابهة، فالديمقراطية مطروحة بوصفها تحدياً كبيراً لطبيعة النظام السياسي العربي المتخلف ndash; استعمال المتخلف هنا ليس قدحاً إنما توصيف، والتوصيف أقسى من القدح لأنه يشير إلى تأصيل الدلالة في الدال- ولطبيعة الثقافة العربية نفسها؛ تلك الثقافة التي اقتنعت بدور الابتعاد عن أية ممارسة نقدية وعقلانية لكل التابوات التي تضعها السلطة والمجتمع التقليدي. وفي مقابل ذلك، يتربص للمجتمع العربي إرث ثقافي ديني هو الدكتاتورية بعينها. الإرث الثقافي الإسلامي بمختلف وجوهه، إنما هو إرث يتعارض تماماً مع تجربة الاختلاف الفكري، وتجربة التحرر من الوصاية والرقابة المؤسساتية، الدين الإسلامي بالصورة المتداولة هو المشكلة الإساسية في عدم السماح للتجارب الديمقراطية أن تنجح في عموم العالم العربي.
مشروع الديمقراطية، تفسده فتوى واحدة لرجل دينٍ لا يتعدى مستوى إدراكه أو رؤيته للأشياء والعالم، خرزات مسبحته.
أشبِّه الديمقراطية بيدٍ تفتح الأبواب وتشرع النوافذ المقفلة، وأشبه الفتاوى للمؤسستين الدينية والدكتاتورية بيدٍ تقفّل الأبواب والنوافذ معاً. اليد التي تفتح يدخل معها هواء يسمم المؤسستين، واليد التي تقفّل تسجن الهواء النقي فلا يصل فتنقلب الحياة إلى موات.
ومن هنا، فإن الخوض في أسباب إخفاق أية تجربة ديمقراطية في العالم العربي، يقتضي أفقاً أوسع، وربطاً للأسباب بمسبباتها، ورؤيةً للمجتمع العربي ونسيجه الثقافي الواقعي، ورؤية للبنية السيكولوجية المتحكمة في الذات العربية؛ تلك البنية التي شُيِّدت أصلاً على وفق اعتبارات دينية متزمتة ومغلقة الرؤية والأفق. التجذير الديني للمجتمع على النحو الذي عليه الآن، إنما يأخذ بيده لا إلى الديمقراطية إنما إلى أسوأ أنواع الدكتاتوريات التي عرفها العالم العربي. ومع أن معرفة الجذور التاريخية شيء مفيد، لكن يجب أن نعطي قدراً من الاهتمام لهذه العناية الحالية بالديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط بعد أن كان الصراع العربي الإسرائيلي يحتلّ مركز الصدارة.
من المؤسف، أن الناس في بغداد أو القاهرة أو دمشق أو عمان أو الرياض أو بيروت، أو في كل مدن العالم العربي، اقترنت الديمقراطية في أذهانهم بالأحداث المفجعة في العراق، لذلك تراهم يعلّقون بانفعال وانزعاج وسخرية أمام كاميرات القنوات الفضائية: هل هذه هي الديمقراطية التي تريدها أمريكا؟. وطبعاً، ليس ثمة فرق بين أمريكا والغرب في مخيال الناس العاديين في المدن العربية جميعاً. ومع أنّ هذا الاقتران يفسد عمليات إصلاح نظام الحكم التي تتطلع إليها أمريكا والغرب معاً في هذه البلدان، لكن ينبغي أن نتنبه إلى قضية أساسية وهي أن التشويه المستمر لمفهوم الديمقراطية ليس بسبب سوء هذا المفهوم أو انحطاط الغرب كما يقال، بل لأن الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي توجّه وتحرّض أجهزتها الإعلامية لطعن هذا المفهوم من الخلف، والإمعان في تسفيه مضمونه، وربطه بمصالح الغرب lt;lt; المشبوهةgt;gt;. وهذا ما يجعل الناس المتطلعين للديمقراطية يشعرون بخيبة أمل، لأنهم عندئذٍ سوف يضحّون بالديمقراطية لصالح الاستقرار الأمني، ولصالح الدفاع عن معتقداتهم الدينية إذ تصوِّر لهم أجهزة الإعلام والدعاية السياسية والثقافة بأن الديمقراطية هدفها سحق كل تلك المعتقدات. بالإضافة إلى هذا، فإن الناس في العالم العربي لا يشعرون بأن ثروات بلدانهم ملك لهم، بل إن كل ما يعطى لهم إنما هو هبة من الحكومة، لذلك إن الغالبية لا تريد أن تُزعّل الحكومة الدكتاتورية بالمطالبة بالديمقراطية. ولأن الأمية متفشية بشكل كبير في العالم العربي، بالإضافة إلى الفقر، فإن تحقيق تجربة ديمقراطية حقيقية يبدو أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع.
والناس في العالم العربي إنما هم ضحايا السعي المستمر إلى تشويه هذا المفهوم من خلال تفريغه من محتواه الحقيقي وتعديله بما يتناسب مع طبيعة النظام الشمولي. وهكذا كانت أدبيات حزب البعث ومؤتمراته القطرية تتضمن حديثاً عن الديمقراطية تُشعر الناس الذين يُستقطَبون رغبة أو رهبة بأن حدود الديمقراطية لا تتعدى هذه الأفكار التي يمارسها حزب البعث على الواقع. وكان يحلو لصدام حسين أن يتحدث عن الديمقراطية كذلك في معظم خطاباته السياسية، وكان دائماً يكرر هذه العبارة: أنا أفهم الديمقراطية هكذا. وكان ينطق بذلك بعد محاضرة طويلة عريضة تتضمن مجموعة أفكار غريبة وشاذة عن الديمقراطية. ولا تتعدى الديمقراطية عند صدام حسين والبعثيين حدود الإجماع الكلي الإلزامي على ( البطل القومي) الذي يكون عادة الرئيس نفسه. وقد شاع في تلك المرحلة من حكم البعث مفهوم ( الانتخاب بالإجماع) سواء في الانتخابات الشكلية المزيفة والمهزلة التي تجري داخل قاعات خاصة للبعثيين، أو تلك التي تجري للمنظمات ذات التوجه القومي كاتحاد الأدباء والكتاب العرب على سبيل المثال. ففي هذه الممارسات ndash; أعني انتخابات النقابات والمؤسسات- يتم الاتفاق على الفائز قبيل إجراء عملية الاقتراع استناداً إلى درجة قربه من السلطة وثقتها به باعتباره شخصاً موثوقاً بأمانته وإخلاصه وولائه لها.
ولا تبتعد عن هذا انتخابات الرئاسة في العالم العربي، في مصر أو تونس أو سورية أو اليمن أو الجزائر وغيرها من البلدان الأخرى، إذ يكون عادة المرشح واحداً هو الرئيس فقط، والنتيجة واحدة هي 99%. وفي بعض الأحيان، يتمّ تعديل الدستور من أجل تولّي ابن الرئيس السلطة كما حدث في سوريا بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد، أو كما يسعى جاهداً الحزب الوطني الحاكم في مصر أن يجري ذلك التعديل من أجل تمكين جمال مبارك ( ابن الرئيس) من الوصول إلى كرسيّ الرئاسة. وفي ليبيا يسبب استعمال كلمة الديمقراطية مشكلة لكل من يستعملها في ما يسمى انتخابات اللجان الشعبية، ويستعملون بدلاً من ( الانتخاب) مفهوم: التصعيد، وعندما كنت أعمل أستاذاً جامعياً في ليبيا جرت في الصف الذي ألقي فيه محاضرتي عملية انتخاب للجان الطلابية، وطُلِبَ مني أن أوزع الأوراق الانتخابية ( وهي أوراق بيضاء تماماً) فطلبت من الطلاب الالتزام بالهدوء لكي أوزع أوراق الانتخابات الديمقراطية، وبمجرد أن نطقتُ بكلمة ( الانتخابات الديمقراطية) سارع الطلاب إلى تنبيهي أن لا أقول ذلك ثانية لأنه ممنوع، ويجب أن أقول: عملية التصعيد؛ لأن الرئيس الليبي مغرم بتعريب المفاهيم، وهذه من الكلمات المحظورة. وطبعاً، الهدف من ذلك واضح وهو عدم السماح للمواطن العادي أن يتبنى المفهوم الغربي ( الديمقراطية) وعندئذٍ يبدأ بالمقارنة والتساؤل وربما يعمل صداعاً سياسياً للنظام. وهكذا استبدل المفهوم الغربي بمفهوم محليّ آخر هو: التصعيد، لينشغل المواطن الليبيّ بالدلالة المحلية الخاصة لهذا المفهوم، ويعتاد عليها، ثم يتقبلها ويصبح جزءاً منها باعتبارها لعبة كاذبة. ومن المؤكد أن هذا واقع مزرٍ لما يسمى بالعملية الديمقراطية في هذه البلدان.
وبلدان الخليج العربي، لم ترتقِ بعد حتى إلى نظام جمهوري أو ملكي متطور، وبقي نظام الحكم في أيدي أُسَرٍ معروفة، تتداول ما بينها نظام الحكم وتحتكره إلى الأبد. وبعد احتلال العراق، والضغط الأمريكي لإجراء إصلاحات سياسية، حاولت هذه الأسر أن تقوم بانتخابات لا تتعدى المجالس البلدية. وظلت هيكلية نظام الحكم بعيدة عن أي تغيير بنيوي حقيقي. وحتى تجارب البرلمان الكويتي أو البحريني، كما هو الحال في اليمن أيضاً، لا يمكن تسميتها بالتجارب الديمقراطية في ظل وجود فيتو من الاقتراب إلى السلطة أو نظام الحكم أو القرارات المصيرية. بمعنى آخر، إن المواطن العربي لا يشعر بمشاركته الفعلية والملموسة في صياغة القرارات التي تمسّ حياته ووجوده ووجود أبنائه. فضلاً عن التعطيل الكامل لمشاركة المرأة في العملية السياسية، واستمرار النظرة الدونية إليها باعتبارها خلقت لسرير الرجل والإنجاب وشؤون البيت، مستمدين تلك النظرة من إرث ثقافي متخلف يعتقد بأن المرأة ناقصة عقلٍ، وكائن ضعيف وكسول. وقبل أيام، أكد هذه النظرة ( مهدي عاكف) مرشد الأخوان المسلمين أحد أبرز اللاعبين في السياسة المصرية مع الحزب الوطني الحاكم. فالمرأة في نظر مهدي عاكف وكل التيارات الإسلامية، لا تحق لها الولاية، وكذلك الأقليات الأخرى كأقباط مصر وكل أقليات العالم العربي. واستناداً إلى هذا، هل يمكن أن تكون هنالك تجربة ديمقراطية حقيقية في ظل عزل الأقليات والمرأة عن العملية السياسية وتعطيل إرادتهما في صياغة شكل الحياة، والتحرر من الاستبداد الاجتماعي الذي وضعا فيه؟.
ويجب أن نشير هنا، إلى أن الممارسات الديمقراطية في العالم العربي عرضة لتسلل جهات خارجية لها أجندة معينة داخل هذه البلدان، مما يفقد العملية الديمقراطية المصداقية والشرعية في آن واحد. ففي العراق ولبنان ومصر وفلسطين والجزائر والبحرين على سبيل المثال، ليس هنالك ممارسة ديمقراطية حقيقية بسبب تبعية معظم إن لم أقل جميع التيارات السياسية إلى جهات خارجية. أي أن العالم العربي يفتقر إلى تيارات وطنية حقيقية، تمثل رغبات الناس وتعمل على تحقيقها. هذا الواقع المزري، ترك الساحة خالية إلى التيارات الإسلامية التي هي أسوأ مراحل الدكتاتورية والاستبداد، وفي أدبياتها السياسية أن الديمقراطية كفر، وهي عند الإسلاميين مفهوم غربي يحمل كثيراً من السلبيات في مقدمتها مسخ الهوية الإسلامية. وحتى التيارات الإسلامية المعتدلة، التي تمارس الديمقراطية كنوع من النفاق السياسي فإنها لا تتورع أن تطعن النموذج الغربي للديمقراطية في أية محاولة لكسب الأصوات. في مصر والعراق ولبنان وفلسطين والجزائر والأردن، ثمة أحزاب إسلامية لا تمارس أي نوع من الانتخاب داخل أحزابها، فكيف يمكن لها أن تؤمن بالديمقراطية أو تطبقها على صعيد الواقع السياسي؟.
ومن جانب آخر، تتضامن الحركات الإسلامية بمختلف تصنيفاتها معتدلة أو متطرفة مع توجه الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة إلى تشويه الديمقراطية ومحاربتها. وهما يسعيان معاً في توافق غريب إلى بعث التراث والمفاهيم والأفكار المعادية للغرب ولمفاهيمه ولثقافته.
تجد هذه الحملة ضد الديمقراطية صدى واسعاً من قبل أغلبية الشعب العربي، وذلك بسبب الشعور بالخيبة والإحباط في حلّ المشكلات التي يعاني منها المجتمع العربي، والتي غالباً ما تلقي تبعاتها على أمريكا والغرب. ولأن الناس في المجتمع العربي عموماً بعيدون عن التصرف وفق سلوكيات ديمقراطية، فليس من المعقول أن تنشأ في هذا العالم ديمقراطيات ناضجة وحقيقية. في الغرب، تصادفك الديمقراطية في البيت والشارع والمحلات والباص والمدرسة والأسواق والمصنع وبقية المؤسسات الاخرى، لكن في العالم العربي تجد صورة صدام حسين أو أسامة بن لادن أو الزرقاوي ماثلة في تصرفات الناس بدءاً من البيت إلى المدرسة إلى الشارع وبقية المؤسسات الأخرى. هذا الواقع غير الديمقراطي، لا يمكن أن يفرز تجربة ديمقراطية تضاهي التجربة الألمانية مثلاً. نعم الناس في العالم العربي تواقون إلى الديمقراطية، لكنهم واقعون تحت ضغط مشكلتين: الأولى، إحكام السيطرة عليهم من قبل المؤسسة الدينية المتزمتة جداً إلى حدّ أنها لا تتوانى من القيام بسفك الدماء من أجل استمرار هيمنتها. والثانية، أنهم لا يعرفون الطرق والممارسات السليمة التي تساعدهم على تحقيق حلمهم. ولدينا مثال واضح على ذلك، وهو الطريقة التي اغتيلت فيها الديمقراطية بالعراق من قبل الإسلاميين بمختلف مذاهبهم.