الثلاثاء 20 /1

* يأتيني الشباب، فأُغيّر رأيي وأذهب. فاتنا أمس، زيارة quot;حيّ الزيتونquot; شرق غزة. كما فاتنا رؤية quot;عزبة عبد ربهquot; شرق مخيّم جباليا. مكانان تعرّضا لتدمير مروّع، ولن تكتمل هذه الشهادة بدونهما.
نذهب، على شيء من الاطمئنان. الطقس بارد، والشمس لم تسخن بعد. أسألهم: هل من جديد؟ فيخبرونني بقصص: طائراتهم تُلقي ببعض

(15): زلزال بدرجة 7 على مقياس إيهود أولمرت
المُفخّخات على هيئة لُعب أطفال. طفلان لحدّ الآن أُستشهدا - من عائلة حسنين. والإذاعات المحليّة تُحذّر الجمهور من مغبة السهو، وتطالبه بالحيطة الكاملة وتوعية الأطفال. ثمة اختراقات حربية أيضاً. دخلوا، يُقال، من بعض المواقع، شرقاً على الجدود. نمضي. نرى ما رأيناه أمس، مع نشاط متواضع من قِبل الأهالي لتصليح الأضرار. الناس خرجت من بيوتها، والشوارع عادت لعهدها من التنقل والحركة. أرى مئات من الموظفين ينتظرون دورهم ليقبضوا الراتب. البنوك تفتح، والحياة تعود لمجاريها.

* نحوّد على مخيم البريج. ننزل من السيارة، وندور راجلين بين الحواري والأزقة. نعبر شوارع بالكاد تتسع لمرور شخص. ثم نتجه لأقرب منطقة آمنة عند سلك الحدود. من ههنا دخلوا وبشّعوا. نقفل راجعين، ونرى العديد من المنازل التي أُزيلت بكاملها عن ظهر الخارطة.
تمضي بنا السيارة. يخشى بعض الزملاء من مفاجآت. لكوننا سافرنا اليوم على الطريق العام quot;الطريق الشرقيquot;، خلافاً لطريق أمس الغربي الآمن. أطمئنهم بزيارة بان كيمون المنتظرة للقطاع. في مثل هذه الحالات، تتعقّل إسرائيل بعض الشيء.

* نصل منطقة الجسر. دمّروه في عهد حماس ، وبنته وكالة الغوث. وها هم يدمرونه نهائياً. ثمة طابور طويل من السيارات والمركبات، ينتظر في الدرب الترابي الضيق أسفله. جسر بناه المصريون في الستينات، ويصل مدينة غزة بالمخيّمات الوسطى وخان يونس ورفح. أهمّ جسر حيوي في القطاع. معلش. أتأمل في كومة الركام الكبيرة، وأقول لنفسي: سنولد، كالعنقاء، من فوق هذا الركام.
أطلب من زميل تغيير محطة الراديو نحو أي محطة عبرية. يفتح محطة لم ألتقط اسمها. وأتوقف أمام هذا الخبر: قائد لواء النخبة في جيشهم يعترف بضراوة المقاومة ونجاعة تكتيكاتها في تفخيخ المنازل واستخدام أسلحة جديدة. خبر ثان: أحد مُراسليهم العسكريين يُقرّ باستخدامهم لقنابل الفسفور الأبيض ضد المدنيين. جيد! أن تعترف أخيراً خير من ألا تعترف أبداً. ربما ينفع هذا الاعتراف في المستقبل. مع أننا رأينا الفسفور الأبيض، ورأينا حروقه الوخيمة على أجساد أطفال ونساء في المستشفى.
أُترجم للزملاء، وأذكّرهم بتنصيب أوباما اليوم. الإذاعة إياها ركّزت على هذه المناسبة. حكت الكثير عن quot;علاقة التوأمquot; لكنها تجاهلت، أنّ أحد أسباب انسحابهم، من ضمن أسباب أخرى كثيرة، الرغبة في الخروج قبل وصول أوباما للبيت الأبيض. آمل، دون كبير أمل، أن يكون هذا الرئيس غير بوش. بوش؟ اللعنة على هذا الأصولي الإنجيلي!

* ندخل غزة، ونستمر باتجاه جباليا. أحدنا يعرف بالضبط أين تقع عزبة عبدربه. نصلها أخيراً، يا للهول!! توجد أكوام من الأنقاض ولا توجد بيوت. منطقة واسعة بكامل أحيائها، عبارة عن أنقاض. الأهالي يبحثون بين الركام عن متعلّقات شخصية. أين ذهب ساكنوها؟ إلى أين يذهبون في هذا الصقيع؟ أسأل وأعرف: استوعبتهم وكالة الغوث في مدارسها. ألف شكراً لهذه المؤسسة الدولية. لولاها لانكشف سترنا. لم أُصدم كما أنا مصدوم الآن. ليتني لم آتِ. ليتني لم أرَ! ومع ذلك، أذهلتني معنويات الأهالي. أُناس بسطاء، مكلومون ومهجّرون، بعضهم فقد خمسين شخصاً من عائلته، ومع هذا أراهم مُتماسكين، وغاضبين، بل حاقدين على دولة الإبادة والهمجية. هل تُراهم لم يستيقظوا من هول ما جرى بعد؟ أتُراهم لا يزالون في طور الصدمة؟ أجل وكلا. أتكلّم مع أحدهم من عائلة لم يتبق منها غيره، ويتقطع قلبي، وأنا أسمعه يصف ما جرى بتفصيل، وبين جملة وجملة يردد لازمة: quot;صامدينquot;.
آخذ جولة بين البيوت المدمرة. هنا خراب هائل، حتى إعصار تسونامي يبدو متواضعاً أمامه. يقول الرجل: جئنا بعد خروجهم فوراً، ولم أتعرّف، لا على الحارة وعلى على الدار! داري التي ولدت وعشت فيها كل عمري، رغبت في سؤال المارّين أين هي وأين تقع! عمري 58 سنة، وصرت ألف وأدور، وكأنّ quot; راسي انقلبت يا خويquot;! هل انقلبت راسكْ دورْ يا خوي؟ نعم. أعانكم الله. يدمعُ الرجل، وهو يشكو، فأتوارى منه، لأُخفي دمعتي أنا أيضاً.

* نمرّ برجل كهل، يقف أمام أنقاض بيته، ويُنادي على quot;أميرةquot;. لم أنتبه للوهلة الأولى، ثم لكزني زميلي فانتبهت. المكان خال. الرجل يخاطب شهيدة على الأغلب. ربما تكون زوجته أو ابنته. أُنصت إليه: هل ذقتِ طبخة الكوسا التي أعددتها بيديّ هاتين خصيصاً لكِ؟ طبختُها والله من أجل خاطرك. من أجل خاطرك لا خاطرهم. أنا بكرههم. بس أنتِ الباقية لي في هذي الدنيا. ليش مكلتيش من طبيخ إيدي؟ ليش يا أميرة؟ والله زعلان منك عن صحيح. الله يرحمك. سلّمي عليهم هناك. خديجة ومحمد وحسن. قولي لهم أبوكِ تعبان. تعبان كثير. تنهمر الدموع من عينيّ. أهجم عليه وأحضنه. لن نغفر. لن نغفر ولن ننسى. أقولها أنا العلماني الليبرالي. لن نغفر. لن نغفر ولن ننسى. ولو أُتيح لي، في هذا العمر، في هذه اللحظة، حزام ناسف، وأُتيح لي التواجد بينكم، فلن أُفكّر مرتيْن!
لقد دفعتمونا دفعاً لنكون انتحاريين. لم تتركوا أمامنا أي خيار آخر. حُشرنا في الزاوية. لا حياة ولا أمل بحياة. فلماذا يخشى الغريق البلل؟ لن تحصدوا غير ما جنت أيديكم. الأيام بيننا. والأيام دول. سنولد من فوق هذا الركام، وسنعلّم أطفالنا أن يثبُتوا، كما لم يفعل حتى الآباء.

* نعود بالسيارة إلى غزة. نصل موقف الشجاعية ومن هناك، ندلف باتجاه حي الزيتون. أريد أن أرى ولو واحداً من عائلة السمّوني. هل يُسعفني الحظ؟ نصل الحي، بعد التفافات وصعوبات جمّة. هنا، جرت بعض أعنف المعارك وأشدها ضرواة بالمطلق. هنا تكبّد الجنود الإسرائيليون درساً معتبراً، ولما لم يقدروا على إفناء المقاومين، نكّلوا بالأهالي. ندخل حياً مزدحماً، ونرى المشاهد ذاتها: تدمير هائل يطول المنازل والمؤسسات والمدارس والجوامع. عمارات سكنية من عشرة طوابق مبقورة ومائلة. كم وزن الصاروخ أو القذيفة المستخدمة هنا؟ إسرائيل تزن معنا ب quot;الأطنانquot; فحسب. حساب الكيلو غرامات انتهى من قاموسها. تدمير لا يقترفه إلا الساديون فقط. وإسرائيل، بساستها وجنرالاتها، بلد سادي بامتياز. عدو عجيب حقاً. شيء فريد في التاريخ. أن ترى إنساناً سادياً، يحصل. لكن quot;دولةquot; سادية؟ يا للهول! أتذكّر سيغموند فرويد الذي اُحبه، وقرأت كل كتبه، وأُفكّر: لو فرويد حيّ في هذه السنوات الرهيبة، فماذا كان سيكتب ويقول بهذه المناسبة؟ لا يعرف كثيرون من مثقفينا، أنّ فرويد اليهودي، كان متحفظاً بل ورافضاً لقيام كيان يهودي على أرض فلسطين. لقد كان حكيماً ونزيهاً كما يليق برجل عظيم وأخلاقي مثله. أين منه الآن مثقفو وأدباء إسرائيل؟ لم نسمع لأحدهم كلمة ذات وزن. كبارهم سكتوا، وصغارهم سكتوا أيضاً، خلا بضعة أصوات لأكاديميين وكتاب ومؤرخين، نقدّرهم ونثمّن مواقفهم المحترمة عالياً.

*نخرج من الزيتون، ونعود لقلب المدينة. ميدان فلسطين، والشوارع المحيطة به. يوجد هنا صديق لي. استأذن الرفاق، ونذهب لزيارته وتهنئته بالسلامة. لم يكن يتوقع مروري. نشرب الشاي ونأكل الحلويات. كثرة من العائلات تقدم الحلويات الآن فرحاً بنجاتها من هذه المحرقة. نعود للشوارع. البنك العربي فاتح. أول مرة. الكناسون ينظفون الطرق من المخلّفات. موظفو حماس يعودون لأعمالهم. أحب عودة الحياة لطبيعتها وأحتفل بهذه العودة. نحن شعب محب للحياة بطبيعته، إيروسي بعض الشيء، ولا ينبغي لنا أن نتخلّى عن هذا الإرث.
آه يا غزة. أيام قاسية مررتِ بها أيتها المدينة الطيبة. مرّ البرابرة من سمائكِ وغادروكِ بعد أن وسموكِ بالمكواة. البرابرة الجدد. النازيون الجدد. الفاشيست الجدد. لكنكِ مدينة العنقاء. المدينة - العنقاء. مدينة الشعب الجبار. لن ننكسر، ياما مرّ على الشطّ أمواج. وهذه مثل غيرها: موجة وتعدي.

* نذهب لحي الشيخ رضوان. حي انتقل إليه لاجئو المخيمات. دروب ضيقة وزنقات. لم يعد يختلف كثيراً عن مخيم الشاطئ. نرى في طريقنا أبراج سكنية من عشرين طابقاً في حالة quot;تسمّ البدنquot;. لقد تعمدوا قصف الأبراج على نحو لا يُمكّن من إعادة إعمارها وترميمها. لا بد من إزالتها بالكامل. لست مهندساً، ولكنني عملتُ في العَمَار طويلاً وأعرف. سوف نحتاج إلى مُعدّات ضخمة من الخارج. ومع ذلك، لي ثقة عمياء بخبرة وكفاءة وتفوّق عمال البناء الغزّاويين.

* تنتهي جولتنا، ويتصل بي عديل لي لإجراء لقاء صحفي مع وفد من الأطباء الأتراك. يكلّمني رئيس الوفد بلسان عربي، فأرحب به، وأشكر جهودهم في الوقوف بجانبنا ومساعدتنا. يقول وصلنا للتوّ من سفر شاق، فلا أُثقل عليه: فليكن اللقاء غداً بإذن الله. نتفق على موعد، رغم خبرتي بظروفهم. فلا يملك طبيب القدرة على تحديد مواعيد في مثل هكذا ظروف. ما أكثر الطوارىء ومفاجآت اللحظات الأخيرة عند ضيوف وزارة الصحة. على غير عادتي في الحرب، لم أذهب لمستشفى ناصر منذ منذ يومين. منذ سريان التهدئة . غداً سأذهب وأرى ما استجدّ في موضوع دخول وفود عربية وأوروبية من الأطباء النبلاء. لِسَّا العالم بخير! فلسنا وحدنا، لسنا وحدنا تماماً. حتى لو شكونا من هذه الوحدة.

* أصل بيتي وأنام. ساعة وأقوم. ثمة كهرباء. آكل وأتابع التلفزيون. مليونا شخص يحتشدون أمام الكونغرس بمناسبة تنصيب أوباما. أقول لنفسي: أخيراً ينقلع بوش بسنواته الثماني الغليظة. لم يكن فيه نصيب معقول من طيبة الشعب الأمريكي. كان انحيازه سافراً لحكومات الإرهاب. كان يمنياً تماماً كاليمين الديني في إسرائيل. لقد تخيلته مراراً، لا رئيساً لأعظم دولة في العالم، بل رئيساً لحزب يميني متطرف في الجوار. كم دفعنا في هذه السنوات الرهيبة! لعلّ أوباما يكون أصلح ولو درجات. لا نطمع بشيء أبعد. نعرف طبيعة العلاقة بين الدولتين. رباط من المصالح أبدي. لا بأس. المهم إنقلع غير مأسوف عليه!

* أما عن قمة الكويت، فلعلّ وعسى. جيد أنهم تبرعوا بهذه المبالغ رغم أنها لا تكفي لإعادة تعمير ما تهدم. إنما السؤال: كيف ستدخل إلى غزة؟ لا نعرف حتى الآن الآلية الموضوعة لذلك الهدف. فإسرائيل طرف أساسي في الموضوع. وقبل قليل، قال رئيس حكومتهم إنهمquot;لن يسمحوا لحماس بالإشراف على إعادة تعمير القطاعquot; أي يا دول العالم المانحة والمتبرعة انتبهوا: كل شيء يمرّ بالتشاور معنا. نحن أصحاب قرار تخريب غزة وأصحاب قرار تعميرها أيضاً. أرأيتم أية حقارة وأي تغوّل وأية فاشيّة؟ حقارة وفاشية؟؟ لا. خُذْ عندك هذا التصريح quot;الخَدَاشْquot; للسنيورة الأمّورة عمّتنا تسيبي اللي مش سيبانا في حالنا. إنه تصريح يُحسب على quot;النكات ثقيلة الدمquot; التي يتفوّه بها أحياناً مسئولو الهَمْبَكة. تقول السيدة المصونة من كل شرّ، إنها quot;تُحمّل حماس مسئولية الأعداد الكبيرة من القتلى والمدنيين في هذه الحربquot;! حاجة تفرح القلب ولا نبيذ بوردو، ولا كمان quot;حمار بوردانquot;. يقتلون القتيل ويحمّلونه هو ذاته المسئولية. لأ، والله ما كنش يصحّ يا حماس.

ألم أقل لكم إنهم مرضى، ويحتاجون إلى ألف فرويد!
من أي مادةٍ قلبُ هذه السيدة؟ من أية روح سوداء ولدت وترعرعت وعاشت؟ يُقال أنها أول مولودة رسمية ولدت في إسرائيل. ألهذا تحمل لنا كل هذا الحقد؟

الثلاثاء ليلاً

أتابع حفل تنصيب أوباما. ثم أنتبه فأقوم. كتابتي أولى بوقتي. أفتح الحاسوب، وأكتب براحة. آمل ألا يحدث شيء، فتكون هذه آخر حلقة. فلولا الحرب ما كتبتها، ومنذ حلقاتها الأولى وأنا أتمنى أن تتوقف بسرعة. استمرارها يعني استمرار الحرب. استمرارها يعني المزيد من التنكيل والخراب بشعبي. كلا. اللهم أرح شعبي وأرحني من هذه اليوميات. أعرف أنّ وقت الكتابة الحقيقية لم يؤن بعد. أحتاج للكثير من الهدوء والتأمل والكسل، حتى استبطن ما عشناه، فأكتبه على نحو يُرضي آلهة الفنون. آه كم هي مُتطلّبة هذه الآلهة. والآن جاء دور آخر الهذيانات.

هذيانات

(أقل الواجب)

* بان كيمون يزور غزة. بان كيمون يزور بعد شويّة سدروت. بان كيمون جاء أخيراً، وهو الآن ضيف عزيز علينا. والواجب أن يذهب إليه، جارنا أبو رياض، بالشاي وعصير الليمون الذي وعده بهما قبل أيام، في أغنيةٍ كنا نشرناها في الحلقة العاشرة من هذه اليوميات. هذا أقل الواجب يا كيمون يا ابن الناس. الحال مش هالقد، لكنْ سلامة قيمتك يا ابن كوريا.

(صمت)

* إبلعْ سُعالَكَ. أنتَ تَمرُّ بجوار منطقة في حالة حرب.

(أُنوثة)

* حتى في الحرب، تُريدُ أن تضبط (الرجل) في لحظة أُنوثة؟ أُنظرْ إليه وهو يُقلّمُ أظافره.

(شفافية)

* لم أعُدْ أُنصتُ لأصوات الليل. أمام شفافية (اللاشيء )، المُتأتّي من عتادهم الثقيل، تتعطّل كلّ الأصوات.

(ماء شفاف)

* عُمي مساءً أيتها النجمة الساجية. عمي مساءً يا نجمةً في سماء خان يونس، تُذكّرني بنجمة في صحراء العراق! كأنّ نجوم صحراء العراق ليست مُعلّقة في أثير سماويّ، وإنما تومض وكأنّها مغمورة بالماء البارد الشفّاف.

(عبور)

* كعبور فانتازيا قصيرة الأجَل - أعبرُ حياتي. هكذا علّمتني الثقافةُ، وهكذا علّمتني الحرب أيضاً.

(فائدة)

* الحرب، في وجه من وجوهها، بمثابة كَسْر للدائرة.أحياناً عليك أن تعيشها، لكي تجد نفسك. ويحدث أن تمنحك الحربُُ أشياء كثيرة. لكن يكفي الحرب ميزةً أنها تُحرركَ من بعض أوهامك: وهم أنّكَ مركز الدائرة مثلاً. وهم أنك باق. في الحرب نحن ذوات في مهبّ الريح. وهذا جيدٌ لِنموّنا كبشر.

(فكرة)

* يا لها من فكرة مُضحكة أن يموت الإنسان وهو يجمع الفلوس! ويا لها من فكرة أكثر إضحاكاً فكرة أن يجمع شظايا الصواريخ ليبيعها في زمن الهدنة. أمّا ما يُفطّس من الضحك، فهو أن يفعل ما يفعل وكأنّه سيعيش إلى الأبد.

(فطور)

* أحبّ في الحرب اللقمة الصغيرة والكوبين الصغيرين. أحبّ في الحرب اللقمة المتوسطة والكوبين متوسطيْ الحجم. أحبّ في الحرب اللقمة كبيرة الحجم والكوبين كبيريْ الحجم. أحبّ في الحرب نعمتيْ الحرب الكبريين: اللقمة والكوبين دائماً وأبداً.

(جماليات)

* جماليّات الفراغ عند ثلاثة: السجين والفنان التشكيلي وطيار الإف 16.

(فروق)

* الحزنُ أقلَّ نُبْلاً من الأسى. الحزنُ ابنُ حاضرهِ. الأسى: تراكُمات. الأسى ماضٍ وحاضرٌ ومستقبل. الأسى هو حزنُ الأزمان كلّها. وربما يَصْدُقُ أن نقول - على سبيل التمثيل - إنّهُ إذا كان الحُزنُ حَبّةَ عنبٍ فإنّ الأسى هو الخمرة وقد عُتّقتْ منذ ستة عقود.

(ضمير)

* منذ اخترع المجتمعُ الأوروبي المعاصرُ مؤسساته ومصالحه، غاب الضميرُ. فإن حضرَ فكما حضور قُبلةٍ من وراء زجاج.

(مرض)

* [.. ذلك كان مَرَضي. لقد ولدتُ جادّاً كما يولدُ البعض مصاباً بالسفلس، وبجديّة كافحتُ لأكون جادّاً أكثر. أن أعيش وأبدع. أعرف ما أعنيه، ولكن عند كلّ محاولة جديدة أفقد عقلي، أهربُ إلى ظلامي كما يهرب المرء إلى معبد، أو إلى معمله حيث لا يستطيع أن يعيش ويُقاسي رؤية الآخرين يعيشون. أرى الحياة دون أن أعرف ما هي. حاولتُ أن أعيش دون أن أعرف ما أفعله أو أحاول أن أفعله، وعشتُ على الرغم من ذلك، دون أن أعرف. أعجَبُ لماذا أتحدّثُ عن كلّ هذا!hellip;.] quot;مالون يموتquot; : صمويل بيكت - ترجمة أحمد عمر شاهين .


(إمبراطورية الشر)

* الولايات المتحدة الأمريكية أو اختصاراً: أمريكا، هي خيانة لكلّ الخير والجمال اللذين راكمهما الموروثُ البشري عبر التاريخ. قد تبدو في هذه الكلمات نبرةٌ فاشيّةٌ أشبه ما تكون بنبرة الأيديولوجيين .. ولكن شتان بين فاشيّة النبرة - لو كانت أصلاً موجودة - وبين فاشيّة الإف 16! إنّ هذه القلعة الصغيرة الطائرة التي تحمل من المُتفجّرات لا أعرف كم طناً في الطلعة الواحدة [وكأنّها الرّخّ الحديث] فتلقيها على شعب أعزل وأقرب إلى البدائيّة، لَهيَ الفاشيّة بعينها. لقد توحّشت أمريكا كما لم تتوحّش إمبراطوريّة في التاريخ. ولسوف تظلّ إحدى كُبريات أمانيّ، أن أرى غروب هذه الإمبراطوريّة قبل أن تغرب شمسُ جيلي. حقاً: لقد وِلدنا في الزمن الأسوأ: زمن إمبراطوريّة الشرّ المُسمّاة أمريكا بوش.

(تخثّر)

* طقس ما بعد الحرب، كطقس ما بعد الأورغازم: مرثاةُ الزمن وأنتَ تراه يتخثّرُ كَثِفْلِ القهوة.

(عذوبة)

* عذوبةُ العابر : فنجان قهوة بطعْم أربعة صواريخ.

(ضجر)

* الضجرُ سيئ ، لكن أسوأ أنواعه أربعة:
ضجرُ ما بعدَ الجنس. ضجر ما قبل وما بعد القصف. وضجرُ ما بعد الفروغ من كتابة قصيدة رديئة. أمّا النوع الرابع فهو الضجرُ الذي يعقُبُ تحقيق الأُمنيات.

(سأم)

* لا تخلو الحرب، عندما تطول، من سأم وضجر؛لأنّ الحياة quot;العاديةquot;، تُذكّرنا بنفسها طويلاً، في الحروب الطويلة.

(أقدار)

* للعُشب ثلاثة أقدار: إِمّا أن يُجزّ، وإما أن يُداس، وإما أن يُتركَ لمصيرِهِ. الفلسطيني في العالم اليومَ يُلاقي المصيريْن: الأول والثاني. فيما أقصى أمنياته أن يُلاقي المصير الثالث: أن يُتركَ لمصيره. أحياناً، بل غالباً ما يكونُ العُشبُ أسعد مصيراً من الفلسطيني في عالم اليوم.

(ميتافيزيق)

* ما من شرطيْن أفضل منهما ليتولّدَ الميتافيزيق: الليل والحرب.

(نوم)

* ينام، فالنوم هو الفعل الفيزيقي الوحيد، الذي يجعل من وطأة المعيش، صدىً في خضمّ قعقعة آلاف الأفكار.

(هُزء)

* لحظاتٌ قُصوى - معرفياً - الأورغازمِ وتوقّع الموت، ولحظةِ الهُزءِ منهما.

(تفلسُف)

* مُضحكٌ أن يتفلسفَ قردٌ - وكذا صنيعُ كلِّ مَن له أثداء. فقط ذلكَ يليقُ بنبتة الصبّار - التي تتغذّى على الهواء والتجريد، وبمن يُشبهُهَا - سيرن كير كيغور مثلاً. أدون أولمرت، على سبيل التمثيل لا الحصر.

(ضحك)

* في ثواني الأورغازم سريعةِ الزوال، ما على المرء سوى أن يكون فَكِهَاً - تلك وصفةٌ مُجرّبة للنجاةِ من خديعة الوجود. وأيضاً، للنجاة من خاطرِ أنَّ الذي خَلَقَكَ، يضحكُ الآنَ بالذاتِ عليك.

(وعد)

* إلهي! يوماً بلا شهداء، ولكَ مني أسبوعاً من صلوات.

(سأم)


* سأم استثنائي. سأم لم تبلُهُ البشرية من قبل: السأم من كثرة الشهداء. حتى يروق لي أن أعتبره سأماً فلسطينياً بامتياز.

(نضوج)

* آملُ أن أنضج كما يليق بحكيم، فلا آمل بشيء. إنما الأمل ليس غير اسمٍ آخر من أسماء العبودية. وما كان يليق بحرٍّ أن يُصيّر نفسه عبداً لأيما شيء. لذا، من اليوم/ ومن هذه اللحظة بالخصوص، آملُ ألاّ آمل بشيء، اللهم سوى ببضع سنواتٍ تكفيني لكي أمارس عدمَ أملي، لكي أملأها بالquot;لا أملquot; الجميل الحكيم هذا.

(نجدة)

* أنام مكتئباً، على أمل أن تنجدني quot;أحلاميquot; بلحظات مرحة.

(ريح)

* قبض ريح! الكتابة قبض ريح، وعدمها قبض ريح. والقراءة قبض ريح، وعدمها قبض ريح. والتأمل قبض ريح، وعدمه قبض ريح. فماذا يجني الإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس؟ دور يمضي ودور يجيء، والأرض قائمة إلى الأبد .. كل الأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن .. فما المعنى وما الجدوى، وما الهدف وما الغاية؟ إن هو إلا باطل الأباطيل: الكل باطل، والكل زائل، وليس ثمة غير هذا: الموت والفناء و الكثير من: قبض الريح!

(نُبل)

* في النبات quot;نُبْلquot; لا أجده في الإنسان والحيوان. وفيه من quot;التجريدquot; ما لا أجده فيهما كذلك. إنه سامٍ ومترفع كخَطْرة فيلسوف ميتافيزيقي! ولذلك فهو جليسي الدائم الذي لا أملّ منه، ولو طالت الجلسة إلى عشر ساعات أو خمس عشرة. إنّ أبدع ما على الأرض، إضافةً إلى المرأة والكتاب، هو النبات بالطبع! وأنا كشاعر تعلمت من النبات أضعاف ما تعلمت من النظريات والمناهج النقدية القديمة والحديثة، بل إنّ هذه غالباً ما تشوّش صفاء عقلي، فأهرب منها لائذاً بظل شجرة، ليعود إليّ صفائي المسروق.

(خيبة)

* سنوات وسنوات وأنا أبحث عن إميل سيوران مترجماً إلى العربية. وأخيراً وقعتُ على كتاب له، فكان شعوري لأول وهلة، وأنا أغادر المكتبة التجارية، أنني حصلتُ على كنز! بل إني لم أضيّع وقتاً، فما إن خرجت من المكتبة وغصت في زحام الشارع، حتى بدأت أقرأ بشغف، معرّضاً نفسي لمفاجآت السيارات وزحمة المرور. فهذا الفيلسوف الروماني الفرنسي المُعتزل المُقلّ في إنتاجه، يستحقّ كل هذا الحماس وذلك الشغف. بيد أن الطامة الكبرى لم تتأخر طويلاً، بل عاجلتني منذ قراءتي للصفحات الأولى من الكتاب. الكتاب الذي ترجمه لقمان سليم وراجعه وضاح شرارة، وصدر تحت عنوان quot;توقيعاتquot; عن دار الجديد في بيروت عام 91. فقد ترجمه لقمان بعربية القرن السادس عشر على أفضل تقدير. عربية متقعرة متعاظلة لا تناسب عصرنا ولا روح عصرنا، بل عربية لوت عنق النص الأصلي لترغمه على هذا الموت الفاضح الرهيب. إن ترجمة لقمان لهذا الفيلسوف - لا غرو - هي أسوأ ترجمة ممكنة على الإطلاق. لقد اغتال الكاتبَ والمكتوبَ وخان الدقة والصدقَ، وقبلهما وبعدهما: روحَ النص العظيم. إنني أعتقد أنّ المنفلوطي لو قدّر له أن يُبتعث في عصرنا، لكان ترجم هذا الكتاب، أفضل ألف مرة من ترجمة لقمان سليم ومراجعه شرارة. مسكين وسيء الحظ سيوران، فقد وقع في قبضة أسوأ المترجمين العرب قاطبةً على الإطلاق! ومع ذلك، وبالرغم من هذه الفضيحة، يتمنى الكثيرون من القراء العرب، كما أتمنى، لو يُعيد أحدهم ترجمة هذا العمل المرهف المكثف، لنتمتع بخلاصة فكر وتأملات الفيلسوف الفنان إميل سيوران.

(سعادة)

* ذهبت الأباتشي. أدخل المرحاض وأتغوّطُ بهدوء.
quot;التغوّط بهدوءquot;.إنها quot;سعادةquot; يمكن أيضاً إضافتها إلى السعادات البشرية المحدودة.

(بؤس)

* يا لبؤس أن يضطر رجلُ أفكار إلى التفكير في أمثال هذه السعادات!

(مألوفيّة)

* hellip; ولماذا يا باسم التعالي؟ وهل يتوجّب عليك أن تفكر دائماً في قضايا من أمثال: quot;الميتا ورائي في فلسفة هيدغرquot; أو quot;الثئيتتُس لأفلاطونquot; أوquot;ماركس وعلم الاجتماع quot; ؟؟ كلا يا صاح! فإنّ مألوفية الغائط لأقرب إليك من هؤلاء، بل وأقرب إليك من حبل الوريد.

(سوء حظّ)

* من سوء الحظ، أنّ الطيارين موجودون في الليل أيضاً. في الليل بالأخصّ.

(باراك مثلاً)

* النصف الأسفل من الجسد الآدمي، كما قال بحق نيتشه، هو الذي يمنع ابن آدم، من الظنّ بأنه إله. ومع هذا، ثمة من يفعلونها!


(تحت الطاولة)

* لم يكن هو نفسه إلا في لحظات نادرة بل شديدة الندرة منها مثلاً: وهو ينام أو وهو يتأمل هطول المطر وسط غابة الصمت الكوني الكثيف، أو - أحياناً - وهو يختبئ تحت طاولة، هرباً من قصف مباغت.

(وسامة فنان)

* لا أعتقد أنّ واحداً من الأنبياء، بل ولا حتى يوسف الجميل، كان من الممكن أن يضارع باراك في جماله العذب ووسامته الطفولية - لو كان فقط طويلاً حَبّة. إنها حقاً ملامح وتقاطيع فنان أعظم ولا أقول نبيّ، فما أكثر الأنبياء وما أقلّ الفنانين الأعظمين!

(انتحار)

* مصابٌ هذه الأيام بحمى من الغضب و القهر والنشاط. أعمل تحت سماء مكشوفة للطيران، من العاشرة صباحاً حتى الخامسة فجراً، في تنظيف وتنشيف وترتيب وتبويب الكلمات المحترقة، الكلمات المبلولة، الكلمات الملوثة، مما تبقى من لغة جدّنا القديم آدم، بعد أن أفسدتها أنفاس الخراتيت من السياسيين. وخذ عندك: ليفني، أشكنازي، باراك، مبارك، ساركوزي، بوش الإبن، رايس، وحتى هوَ .. حتى محمود عباس! أعمل بهمة ونشاط، عملاً فيزيقياً مبرّحاً، لا يقدر عليه حتى أولو العزم من الشباب. فالحق أنني أعمل مقهوراً، شاعراً بتبكيت الضمير، لكوني ولدتُ فوجدت نفسي أتكلم اللغة ذاتها التي يتكلمها هؤلاء، والتي أستخدمها معهم في نفس هذا العالم، وليس في مكان آخر. مع أنه كانت أمامي فرصة أخرى لكلام آخر ومكان آخر فجبُنت عنها ورفضتها. إنني الآن، بعد أن وقعت الفأس في الرأس، ورفضت تلك الفرصة، أحاول مستميتاً إنقاذ ما يمكن إنقاذه من تلك الكلمات.

(استغراق)

* أكتب هذه الشذرات، وطائرة الهيلوكبتر تحوّم وتقصف فوق رأسي. العجيب، أنني لم أسمع هديرها الصّامّ للأذن، إلا حين قمت عن شاشة الكمبيوتر، قاصداً الحمّام. فقد انتبهت حينها إلى أنها تقصف بالصواريخ أحد الأهداف القريبة. والأعجب من عدم سماع صوتها، هو عدم مبالاتي بالموضوع، رغم ما قد أتعرض له من خطر حقيقي، فأنا ما زلت أكتب، بل وسادرٌ في الكتابة، وبالطبع، أكتب والنور والع، وفي هذا ما فيه من الخطر. فقد حدث قبل يومين فقط، أن قصفت ربما هذه الطائرة ذاتها بيتاً مضاءً، بشكل عشوائي، فقط لأنه مضاء. إن الساعة الآن تمام الواحدة إلا ثلاث دقائق بالضبط، وهو وقت يكون الناس فيه نائمين والأنوار مطفأة. إنها حالة حرب بالتمام والكمال. وفي مثل هذه الحالة، يكون من أواليات السلامة والأمن، أن يطفئ المرء جميع الأنوار. ومع هذا فليكن. لن أقوم عن الشاشة إلا بعد أن أقضي أربي وأشبع من كتابة هذه اليوميات. حتى ولو كان الثمن: الموت عشواءً في زمن العبث والعشواء!

(متروك)

* قاوم يا باسم! قاوم كل هذا العبث واللا جدوى، بالكلمة فقط. فنعمَ الكلمة! قاومْ ولكن ليس على طريقة أدب المقاومة الشهير الفقير! بل بالأحرى قاوم على طريقة الذي نفض يده من كل شيء، وعرف أنه متروك أبدياً للعراء وللجدار الأخير.

(كركدنّ)

* صوت محركات الهيلوكبتر في السماء يشبه تماماً صوت كركدنّ حديدي هائل يُبَقْبِقُ في الماء! هه .. إنها فوق رأسي تماماً، اللعنة! إني أيتها الفاجرة رجلٌ وراي مُهمّات كثيرة، ليس أقلّها أنني أودّ أن أربّي العيال، وأقول ما لا يقال، يعني: ولا مؤاخذة بدّي أعيش، وأنتّف ريش!
أغربي عن وجهي، وفي رواية أخرى: إفرنقعي، إلى حيث قاعدتك في النقب.

(إلبدْ)

* عادت الطائرة...فالبدْ يا باسم ، إلبدْ أحسن لك! فعمّك المبجلّ باراك لا يعرف المزح والمزاح. إنه لا يعرف إلا هُبّْ هُبّا .. وخَلَصْ.

(رأي)

* ما هو رأي الله في سريالية هذا المشهد؟ رجلٌ يواجه فساد وشرور العالم بالكلمة، وآخر من فوقه يقصف وينسف بلا أقلّ من صواريخ. ما هو رأي الله بالمشهد؟

(فروق)

* hellip; إنها يا أخي: معركة صراع إرادات!.. حال الدنيا، مع حسبان الفروق، بين رجل ورجل!

(مرحون ومشرقون)

* قال هنري ميلر في quot;ربيع أسودquot; التالي: [.. وأخيراً انحنيت إلى الأمام ودون أن أتفوه بكلمة رفعت ثوبها وزلقته فيها. وبعد أن زلقته وصرت أديره فيها، راحت هي تتأوه، في نوع من شعور الذنب الممزوج بالهياج والحزن، مع فواصل من اللهاث وصرخات من المتعة والألم، وهي تقول وتعيد - quot; لم أكن أظن أنك ستفعل هذاhellip;لم أكن أظن أنك ستفعل هذا !quot; وقال أيضاً: quot; لنكن مرحين دائماً ومشرقين!quot; وفي أسطر أخرى: quot;مهما يكن، كنا دائماً مرحين ومنتعشين!quot;. فلا فضّ فوه ولا عاش قاصفوه كأنه يتحدث بلسان الأدون باراك.

(متى)

* ترى : متى يتعلّم طيار الهيلوكبتر قليلاً من مرحك وانتعاشك أيها الميلر الذي لا يمون!

(عدم تركيز)

* أُذّنَ للفجر، ونثارُ الشوك ما يزال يلهبُ عيوني، وبالبداهة: لم أنم بعد. إنها ليلة ملعونة من طوفان الهواجس وفتاتات الأفكار: ليلة - متاهة، ولا متاهات بورخس في غابر زمانه. وها هو أزيز الرصاص القريب، يترجّع صداه في الأفق البعيد. وخان يونس، رنت إلى النوم، وأخذتها غفوة الإرهاق، بعد ساعات طويلة مرعبة من الموت والدمار. وعما قليل، سوف يستيقظ أطفال المدارس، ليذهبوا إلى صفوفهم، وقد غاب بعضهم غيبة الأبد. فليس من الغريب أن يكون هذا البعضهم قد فارق هموم الدرس، بشظية طائشة، في رأسه. فالموت ههنا لا تحكمه إلا العشواء، ومسكين من جاء عليه الدور والقدر المقدور. فالجميع - شيباً وشباباً ورضّعاً وتلامذةً - أضعف وأوهى من أقدارهم، في زمن مجانية الموت لا مجانية التعليم ..، و ، لم أنم بعد. وغداً، أو بالأصح اليوم، عندي مشوار إلى المستشفى، ويا عالِم كيف سيكون حال الدنيا؟ مأزوم أو أقل أزمة؟ فإن كان مأزوماً، فقد جاءت منك يا جامع، وإن كان أقلّ أزمةً: فمزيداً من التوهان والصداع ، ومزيداً من الوهن وعدم التركيز hellip;

(جور)

* إن قدرة المرء على السهر، تضعف بعد الأربعين، فما بالك بمريض سكّر في الثامنة والأربعين؟ وفوق ذلك: مدّخن ومدمن تدخين ؟ ترى : كيف للمرء أن يثق بالمستقبل؟ وفيه ما فيه من الأدواء والعلل والعادات القاتلة؟ أعرف أنّ إرادة العيش ضرورية لكي تمتدّ الحياة، ولكن السؤال: إلى متى يحتمل هذا الجسد الهشّ، جورَ صاحبه عليه!

(طراوة)

* .. الخامسة وخمس دقائق. والمؤذّن يعلن التكبيرة الأولى من الأذان. أما فرقعات الرصاص، فقد خفّت وابتعدت. وهاهو ذا صباح جديد، والنوافذ امتلأت بالزرقة الخفيفة، وعما قليل بالأبيض الخفيف. فيا ليتني كنت نمت، لأشبع من طراوة هذا الصبح المرهفة.

(أرق)

* إني أغبطهم أولئك الذين يتناغمون مع هارموني الطبيعة، فينامون مساء ويستيقظون فجراً. فعلى الأقل: بإمكانهم أن يستمتعوا ببكورة هذا الفجر العظيم. وبإمكان خلاياهم أن تتجدّد كل ليلة. أما نحن المبتلون بالأرق المزمن، فإنّ التجاعيد تغزونا كما يغزو الجراد الصحراء. وهذا دليل آخر على ضعف حصانة خلايانا، وهشاشتها من جرّاء السهر والأرق. فإذا أضفتَ إلى ذلك سوءَ التغذية، والتدخينَ النهم لسجائر الهيشة بلا فلتر، فقل على المستقبل السعيد السلام!

(حضور)

* الله ، حاضراً، كنفَس، في نعومة نسيم الفجر. إني ألمسه على صفحة خدي الآن!

(معلومة)

* في البوذية، الإنسان هو خالق نفسه. عندما قلت هذه المعلومة لأحدهم شاط وأوشك أن يقذفني بحجر. لأنّ عقله لا يستوعب حتى quot;المعلومةquot;!

(انتصار)

* نحن بالبلاغة، وهم بالتكنولوجيا. أما من سينتصر، فأظنّه البليغ.

(هلوسات)

* رأيت الهلال في السادسة و22دقيقة صباحاً. لا شكّ أنه منظر فريد -على من نام وشبع نوماً، لا على من شبع أرقاً حتى هلوسات البصر!

(حمراء)

* ماذا نسمّي الليلة التي بلا ذرة نوم؟ ليلة بيضاء على رأي تشيخوف؟ كلا: أنا أقلّ تفاؤلاً، وأكثر شقاوة وموضوعية. أقترح: ليلة حمراء!

(شوك)

* استيقظ الأولاد من نومهم، وما زلت أنا أكتب على الشاشة. إنها السادسة والنصف ودقيقة الآن. ولمّا أنم بعد. ولهذا ترونني أكتب ما أزال، فماذا أعمل : إني أزجي الوقت بالتكتكة على الأزرار، فذلك أهون ألف مرة، من التقلّب على شوك الفراش.

(خسارة)

* فقدتُ تلقائيتي في الكتابة. ففقدت بذلك: التكثيف والتلميح بدل التصريح. لقد اكتشفت متأخراً أنّ المخيلة هي التي تلمّح وتكثّف، أما العقل فهو الذي يصرّح ويستطرد، بل قل يثرثر، كما لو كان عجوزاً خرفة. هذه هي إحدي خسارات الحروب: موت المخيلة.

(ألم)

* ثمة ألم حارق في عيوني [إنما مع ذلك، ألم عبقري] : رؤية الثلاثي المرِح، تسيبي والإيهوديْن.

(اجترار)

* كما يجترّ الجمل يا نيتشه، لا كما تجتر البقرة. فالجمل يجترّ إجمالاً أكثر من البقرة، ولذا يجب أن تحرص على دقة اللغة، عندما تتكلم عن طريقتك في القراءة - أي طريقة القارئ النموذجي المثالي.

(عائلة)

* أحبهم إليّ على الإطلاق والتخصيص: هيرقليطس. أما بقية الفلاسفة، فهم كأفراد العائلة: واحدٌ تستلطفه، وآخر تتحاشاه، وثالث تتمنى لو لم يكن في شجرة العائلة!

(خير)

* تصبحون على خير، أيها القرّاء. وتمسون على خير، أيها القرّاء. وتعيشون حياتكم كلها، من الولادة للمات، بخير، وبصحة جيدة، وبسلم. بعيداً عن ذلك الألم الحارق في العيون، الألم العبقري. متّعكم الله بكل العبقريات، إلّاها: إلا عبقرية هذا الألم .. هذا الألم من رؤية تلك الوجوه، أو ما يُشبهها، ولو من بعيد.


سلام.